حق علانية الجلسات الجنائية :
إن مبدأ علانية الجلسات أو ما يطلق عليه بعض الفقه علانية المحاكمة يعد ضمانة من الضمانات الأساسية لحقوق الدفاع, ويعني تمكين جمهور الناس بغير تمييز من الاطلاع علي إجراءات المحاكمة والعلم بها, وأبرز مظاهره السماح لهم بدخول القطاعات التي تنعقد بها الجلسات والاطلاع علي ما يتخذ بها من إجراءات, وما يدور فيها من مناقشات, ولمبدأ علانية الجلسات سند سياسي مرده الحرص علي إشراك الشعب في المسائل التي تهم الرأي العام في المجتمع, وتمكينه من الاطلاع عليها, باعتبار أن حق الجمهور في الحضور هو تعبير عن إشباع شعوره بالعدالة, ويعني ذلك أن المحاكمة ليست أمرا خاصا يدور بين المتهم والمحكمة, ويكفل هذا المبدأ إنهاء المحاكمات السرية التي كانت, فيما مضي أحد مظاهر الاستبداد السياسي, وإذا كان مبدأ علانية الجلسات, يعد من بين المعايير الدولية المعمول بها, ومن المبادئ المستقرة في النظم القانونية الوطنية, إلا أنه يجب ألا يتم التستر خلفه سعيا وراء شهرة أو مباهاة بقضاء, بما يخل بمبدأ المساواة, أو يجعل القضاة محط أنظار وسائل الإعلام, لما في ذلك من خروج عن التقاليد المستقرة التي يتميز بها القضاء المصري, وهو الأمر الذي لاحظه الكافة في العديد من القضايا المهمة أو ما يطلق عليها قضايا الرأي العام, كما أن واقع الحال قد أظهر كيف أن البث الحر لوقائع الجلسات قد أثر سلبا في العديد من الحالات علي سير المحاكمة بما يمكن أن يقوض من حجية الأحكام الصادرة بشأنها, ولنا في ذلك أن نتذكر كيف أن سماح القاضي في قضية إية جي سمبسون لاعب كرة القدم الأمريكية الشهير المتهم بقتل زوجته وصديقه في التسعينيات بدخول الكاميرات قاعة الجلسة قد قوبل بانتقاد الأوساط القانونية في الولايات المتحدة الأمريكية بحسبانه أثر علي أداء القاضي والمحلفين, وحول القضية إلي عرض مسرحي, وللأسباب المتقدمة وحفاظا علي هيبة ووقار القضاء, فإن القانون في المملكة المتحدة يحظر التقاط الصور في المحاكم, أو رسم صور الأشخاص سواء كانوا من القضاة أو المحلفين أو الشهود أو أطراف الخصومة.
ومن ناحية أخري, فلتيسير إعلام الجمهور بمجريات الجلسات وأحكام المحاكم, ويوجد مكتب للإعلام يتبع رئيس القضاء البريطاني, يختص بتوضيح حقيقة القواعد القانونية المطبقة علي إجراءات الدعاوي والأحكام الصادرة بشأنها وشرح ما يلتبس علي الإعلاميين والجمهور من إجراءات قضائية مع بيان مضمون ومقصد الأحكام.
أما في فرنسا فإن دور وسائل الإعلام في المحاكم محاط بإطار قانوني صارم, فتحظر المادة803 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي تماما التسجيل الصوتي أو التليفزيوني أو السينمائي أو استخدام أجهزة تصوير بقاعات الجلسات, وفي حالة مخالفة ذلك يخضع المخالف لعقوبة مالية ضخمة, إلا أنه يجوز للرئيس إصدار الإذن بالتقاط المشاهد أو الصور قبل بدء المرافعات بشرط الحصول علي موافقة الأطراف والنيابة العامة, وذلك بناء علي طلب يقدم قبل الجلسة. سبق مصر إلى هذا كثير من دول العالم حفاظا على هيبة الهيئات القضائية، التي من المفترض أنها تباشر عملها داخل قاعات المحاكم، وليس فى استديوهات الإنتاج الإعلامي .. وحتى لا تكون المحاكمات أشبه بالمباريات الرياضية، يعلق على مجرياتها الحقوقيون والصحافيون، ويتناولها بالتحليل ممثلو هيئات الدفاع خلال استراحة المحكمة وعقب رفع الجلسة. فما هي المهنية في عقد محاكمة إعلامية تناطح منصة القضاء، وتضعه تحت وطأة الرأي العام؟ يتم فيها تحليل المحاكمة بناء على الزاوية الضيقة الذي تعرضها الصورة المتلفزة، والمشاعر الشخصية للضيوف والمضيفين، والميل إلى مجاراة التيار السائد لتحقيق أكبر قدر من المشاهدة.. دون الأخذ في الاعتبار بقيمة التقارير الطبية والمستندات القانونية وقواعد عدالة القضاء.
إذاعة المحاكمات على الهواء مباشرة من إسناد المحاكم الدستورية لا يهدر حق المتهم فقط، ويؤكد إدانته قبل صدور الحكم القضائي .. بل هي خيانة لميثاق الشرف الإعلامي وإهدار لمفهوم المصداقية الصحافية. فمن المفترض أن الإعلام يعطي الحق للرأي والرأي الآخر. ينتقدك ويمنحك فرصة الرد والدفاع. هو عين ترصد وتحلل دون أن تصدر أحكاما مسبقة أو تفرض أراء بعينها. ومن أساسياته الحيادية وعدم الانحياز .. من هنا تأتي مصداقيته!
دراسة أعدها الإعلامي الألماني هايتس كيبلينج من جامعة ماينس لعلوم الاتصالات توضح أن الطريقة التي يتناول بها الإعلام خاصة المرئي منه القضايا محل الفحص، تؤثر سلبا على سير المحاكمات. فالاستطلاع الذي شملته دراسة كيبلينج يشير إلى أن أكثر من ثلث المحامين يتعمدون تسريب المعلومات إلى الإعلام بهدف التأثير على الرأي العام والضغط باتجاه الحكم الذي يريدونه. وأعترف أكثر من 50% من القضاة خلال الدراسة أن التقارير الإعلامية تؤثر بالفعل على إجراءاتهم وأرائهم النهائية، بل وتؤثر على مدى قناعاتهم بإفادات الشهود. قرار حظر إذاعة وقائع الجلسات عبر البث المباشر وغير المباشر أو تصوير واستضافة هيئات المحكمة والدفاع والشهود والمتهمين يوفر حماية لهؤلاء من خطر التعرض إلى التهديد أو الاعتداء. كما ان حظر تناول القضايا بما يمس بهيبة أي من القضاة أو رجالات النيابة او الشهود يدرأ خطر الخوض في الأحكام غير الباتة والتي قد تتسبب في الفتنة وزعزعة ثقة الرأي العام في عدالة القضاء. دساتير العالم كافة أيدت حرية الإعلام ودوره الرقابي كسلطة رابعة تضمن الشفافية والمصداقية، إلا ان ذلك يجب أن يصب في مصلحة المجتمع دونما إنتقاص من هيبة السلطات الثلاث الأخرى. الدستور الفرنسي على سبيل المثال، يشدد على حق التداول الحر للأفكار دون مساءلة… إلا إذا أسيء استخدام هذه الحرية في الحالات المحددة قانونا. أما فيما يثيره البعض عن تناقض قرار حظر تصوير المحاكمات مع مبدأ علانية الجلسات .
فإن قانون المرافعات والإجراءات الجنائية يعطي سلطة المحافظة علي النظام داخل قاعة المحكمة ويعاقب علي محاولة التأثير علي مجرى القضية أو الإخلال بآداب الجلسة. هذا داخل القاعة.. أما إذا تحولت ساحة القضاء إلى إستاد جماهيري ببث مباشر … فما الحكم؟ وكيف الطريق إلى تطبيقه؟ ومن يعوض البلاد ما تتكبده من خسائر اقتصادية قرب كل جلسة محاكمة بسبب البلبلة التي تستشري بين مؤيد ومعارض ومن له مصلحة ومن له طلب؟الواقع العملي أكد أن سبب الاتجاه نحو حظر نقل وقائع الجلسات يكمن في أنها تؤثر بطريقة غير مباشرة علي تصرفات الشهود والمتهمين والدفاع, بل القضاة أنفسهم, إذ أنهم يصبحون أمام عدسات التصوير وأجهزة الإعلام وكأنهم يقومون بأدوار تمثيلية, فيدعوهم هذا الموقف إما إلي المبالغة وإما إلي الارتباك. لكل ما تقدم يجب أن يتدخل المشرع المصري لتنظيم كيفية تناول وسائل الإعلام لمجريات جلسات المحاكمة, وذلك بحظر بث وقائع الجلسات أو تصويرها, مع السماح بطبيعة الحال بنشر ما يدور في الجلسات ومنطوق الأحكام الصادرة فيها عن طريق الصحف.وإذا ما تقررت سرية الجلسة امتنع نشر ما يجرى فيها بأى وسيلة من وسائل النشر وعقوبة مخالفة ذلك هى الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين تطبيقا للمادة (189) من قانون العقوبات. والعودة للعلانية تتم بقرار من رئيس المحكمة وحده دون باقى أعضاء المحكمة، ولا يشترط تسبيب قرار العودة للعلانية لأنه عودة إلى الأصل.
أما بالنسبة لصدور الحكم فيجب أن يكون فى جلسة علنية، ولو كانت الدعوى نظرت فى جلسة سرية، ومن ثم فإذا ما صدر الحكم فى جلسة سرية كان مشوبا بالبطلان عملا لأحكام المادة 303 من قانون الإجراءات الجنائية والمادة 18 من قانون السلطة القضائية. الأصل فى المحاكمة الجنائية أن يكون إعتماد المحكمة فى قضائها على ما تجريه من تحقيق علنى بنفسها ما دام ذلك ممكناً . فإذا كان الثابت من الإطلاع على محضر الجلسة أن محكمة الدرجة الأولى لم تسمع شهوداً أصلاً ، ثم لدى نظر الدعوى أمام المحكمة الإستئنافية طلب الدفاع سماع الشهود و إستدعاء خبيرين فأجلت الدعوى مراراً لهذا الغرض ، و بالرغم من ذلك و من حضور بعض هؤلاء الشهود فى بعض الجلسات فإن المحكمة مضت فى نظر الدعوى و قضت بتأييد الحكم المستأنف دون أن تسمع الشهود أو تجيب المتهم إلى ما طلبه من إستدعاء الخبيرين ، فإن هذا الحكم يكون معيباً بما يستوجب نقضه .
( الطعن رقم 1679 لسنة 20 ق ، جلسة 1951/1/8 )
الأصل فى المحاكمات الجنائية إن تبنى على ما تجريه المحكمة بنفسها من تحقيق علنى فى الجلسة . و إذن فمتى كان الحكم المستأنف قد أخذ بأسباب الحكم الإبتدائى ،و كان الحكم المذكور قد عول فى إدانة الطاعن على أقوال شاهدي الإثبات فى التحقيقات دون أن يسألا أمام محكمة أول درجة ، فإنه كان يتعين على المحكمة الإستئنافية أن تستكمل هذا النقص فى الإجراءات بسماعهما فى مواجهة المتهم الذى طلب منها ذلك ، و لا يقبل من محكمة الموضوع و هى المكلفة بتحرى حقيقة الواقع أن تتعلل بعدم إجابة طلب المتهم لسكوته فى آخر جلسة عن التمسك بطلبه .
( الطعن رقم 168 لسنة 24 ق ، جلسة 1954/3/29 )
علانية النطق بالحكم – عملاً بالمادة 303 من قانون الإجراءات الجنائية – قاعدة جوهرية تجب مراعاتها – إلا ما أستثنى بنص صريح – تحقيقاً للغاية التي تؤخاها الشارع و هى تدعيم الثقة فى القضاء و الاطمئنان إليه . فإذا كان محضر الجلسة و الحكم – و هما من أوراق الدعوى التى تكشف عن سير إجراءات المحاكمة حتى صدور الحكم – لا يستفاد منهما صدوره فى جلسة علنية بل الواضح منهما أنه قد صدر فى جلسة سرية ، فإن الحكم يكون معيباً بالبطلان الذي يستوجب نقضه ، أخذاً بنص المادة 331 التى ترتب البطلان على عدم مراعاة أحكام القانون المتعلقة بأي إجراء جوهري .
( الطعن رقم 988 لسنة 31 ق ، جلسة 1962/2/27 )
مجرد خلو محضر الجلسة و الحكم من ذكر العلانية لا يصح أن يكون وجهاً لنقض الحكم ما لم يثبت الطاعن أن الجلسة كانت سرية من غير مقتض . لأن الأصل فى الإجراءات المتعلقة بالشكل اعتبار أنها روعيت أثناء الدعوى ، و لصاحب الشأن أن يثبت بكافة الطرق القانونية أن تلك الإجراءات أهملت أو خولفت .
( الطعن رقم 1345 لسنة 46 ق ، جلسة 1929/4/25 )
بقلم الدكتور عادل عامر خبير القانون
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً