بقلم د. محمد لمعمري
قاض بالمحكمة الابتدائية بالفقيه بن صالح
تتمثل الوظيفة الأساسية لمحكمة النقض في السهر على مراقبة تطبيق القانون من طرف المحاكم، وتأويله تأويلا صحيحا من قبلها، أثناء البت في طلبات النقض المقدمة أمامها، لحسم الخلاف الذي يمكن أن يقع في قراراتها، وتقريب وجهات نظرها في القضايا المماثلة.
واعتمادا على هذه القواعد، فإن الأصل في الطعن بالنقض في الحكم ألا يقصد به إعادة طرح النزاع أمام محكمة النقض للفصل فيه من جديد، كما هو الحال بالنسبة للاستئناف، وإنما تقتصر سلطتها على مجرد تقرير المبادئ القانونية السليمة على الطعن المعروض عليها، دون أن تفصل في موضوع النزاع، وهي بذلك إما أن تقرر عدم قبول أو رفض الطعن بالنقض، أو تقرر قبول الطعن مع نقض القرار.[1]
وقد تخرج محكمة النقض في بعض الأحيان عن وظيفتها التقليدية تلك، المتمثلة أساسا في الرقابة على حسن تطبيق القانون من قبل محاكم الموضوع، وتعمل على إنقاذ القرار المطعون فيه بدلا من نقضه، إذا جاء منطوقه مطابقا للقانون، وذلك باستبدال الأسباب الخاطئة التي أقيم عليها الحكم بأسباب صحيحة – الفقرة الأولى – أو باستكمال الأسباب – الفقرة الثانية –.
الفقرة الأولى: استبدال الأسباب
أولا: تعريف استبدال الأسباب
يقصد باستبدال الأسباب قيام محكمة النقض بإحلال الأسباب القانونية الصحيحة محل الأسباب الخاطئة الواردة في الحكم المطعون فيه، إذا كان منطوق هذا الأخير مطابقا للقانون وفق ما حصله من واقع الدعوى.
واستبدال الأسباب يواجه عيب خطأ التسبيب، إذا تضمنت أسباب الحكم المطعون فيه وصفا قانونيا خاطئا[2]، ويمكن محكمة النقض من تجنب نقض الحكم باستبدال أسبابه المعيبة بأسباب صحيحة، وتسمح فكرة استبدال الأسباب بأن تؤسس محكمة النقض قضاء الحكم المطعون فيه على تكييف مختلف عن ذلك الذي أخذ به هذا الحكم، أو على قاعدة قانونية مختلفة[3].
ولاستبدال الأسباب وإكمالها فوائد عديدة، منها الحد من حالات الإحالة، الاقتصاد في الوقت والإجراءات، والحد من تراكم الملفات أمام محاكم الموضوع.
ثانيا : موقف المشرع المغربي من تقنية استبدال الأسباب
لم ينص المشرع المغربي على حق محكمة النقض في استبدال الأسباب القانونية للقرار المطعون فيه بالنقض، شأنه في ذلك شأن المشرع المصري. خلافا للمشرع الفرنسي الذي نص صراحة في الفصل 620/1 من قانون المسطرة المدنية على أنه يجوز لمحكمة النقض رفض الطعن باستبدال السبب القانوني الصرف بالسبب الخاطئ.
لكن، يستفاد ضمنيا من الفصل 359 من قانون المسطرة المدنية أن المشرع لم يرتب نقض الحكم إلا على القصور في أسبابه الواقعية، دون الأسباب القانونية، وما دام أن العيب الذي يستوجب نقض الحكم هو الذي يقع في منطوق الحكم، ولا ينال من الحكم الموافق منطوقه لصحيح القانون قصور أسبابه القانونية، فإنه إذا كان الحكم كامل التسبيب من الناحية الواقعية، ومنطوقه مطابق للقانون، فإنه لا يوجد ما يمنع محكمة النقض من أن يستبدل أو يستكمل أسبابه القانونية.
ثالثا : موقف محكمة النقض من استبدال الأسباب
على الرغم من انعدام نص قانوني يخول محكمة النقض استبدال الأسباب، فإنها تعمل على إنقاذ القرار المطعون فيه بدلا من نقضه، إذا جاء منطوقه مطابقا للقانون، وذلك باستبدال الأسباب الخاطئة التي أقيم عليها الحكم بأسباب صحيحة
وفي هذا الصدد قررت ما يلي:
“للمجلس الأعلى أن يعوض العلة المنتقدة الفاسدة بالعلة القانونية الصحيحة المستمدة من الوقائع الثابتة أمام قضاة الموضوع”[4].
والملاحظ أن محكمة النقض تقوم في بعض الأحيان باستبدال الأسباب دون أن تشير إلى ذلك.
وفي بعض الحالات تستعمل بعض الصيغ التي تفيد أنها استبدلت الأسباب، كما أنها لا تشير إلى أسباب الاستبدال.
ومحكمة النقض حينما تقوم باستبدال الأسباب القانونية في الحكم فإنها تقوم في واقع الأمر بإجراء رقابة ضمنية للحكم المطعون فيه، ولكن بدون نقض أو إحالة[5].
وأمام عدم وجود نص قانوني يلزم محكمة النقض باستبدال الأسباب، فإن أمره متروك لتقديرها، وتملك استعماله كلما اعتقدت أنه من المفيد عدم النقض.
ثانيا : شروط الاستبدال
يجب أن تتوفر عدة شروط لكي يتسنى لمحكمة النقض استبدال الأسباب بأخرى بديلة، وهي الآتية:
1 – صحة منطوق الحكم المطعون فيه
يشترط في هذا المنطوق أن يكون مطابقا للقانون، وفق ما حصلته محكمة الموضوع من وقائع الدعوى، والأدلة المقدمة أمامها.
في هذا الصدد قررت محكمة النقض:
“إن التعليل المنتقد لا يؤثر في صحة القرار المطعون فيه مادامت النتيجة التي انتهى إليها تطابق الواقع والقانون”[6].
لذلك فإن محكمة النقض عندما تقوم بالاستبدال، فإنها لا تغير منطوق الحكم المطعون فيه لأنه موافق للقانون.
2 – أن يشوب الحكم المطعون فيه خطأ أو قصور قانوني في الأسباب.
إن الخطأ في التسبيب المؤدي إلى استبدال الأسباب، لا يشمل الخطأ في الواقع، أو الخطأ المادي[7]، لأن البحث في مسائل الواقع يخرج عن مجال عمل محكمة النقض، ولأن إصلاح الأخطاء المادية يرجع للمحكمة المصدرة للحكم، أو تلك التي آل إليها بحكم اختصاصها، وبذلك ينصرف الخطأ في التسبيب المبرر للاستبدال إلى الخطأ في القانون الذي شاب أسباب الحكم المطعون فيه، ويشترط في هذه الأسباب أن يكون لها تأثير على منطوق الحكم، لأن الأسباب الزائدة يكفي استبعادها دون ضرورة استبدالها[8].
3 – أن يكون السبب البديل سببا قانونيا صرفا
أكدت محكمة النقض هذا الشرط حيث قررت:
“للمجلس الأعلى إحلال العلة القانونية المستمدة من الوقائع المعروضة والمناقشة أمام محكمة الموضوع محل العلة المنتقدة”[9].
وقد نص المشرع الفرنسي صراحة على هذا الشرط في الفصل 620 من قانون المسطرة المدنية[10].
وقد يكون هذا السبب البديل واقعيا شريطة أن تؤسس هذه الأسباب على التقديرات الواردة بالحكم المطعون فيه.
وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض ما يلي:
“حيث إن وثائق الملف تفيد بأن الشهادة الطبية المثبتة لمرض المطلوب في النقض تم تحريرها بتاريخ 24/06/1994، في حين أن الطاعنة لم تعتبر المطلوب في النقض مستقيلا من عمله إلا بمقتضى رسالتها اللاحقة والمؤرخة بـ 05/09/1994، فإنه بالتالي ما دام المطلوب في النقض لم يكف عن عمله وقت إصابته بالمرض المهني، فإنه غير ملزم بالأجل المنصوص عليه في الفصل السادس من ظهير 31/05/1943 المتعلق بالأمراض المهنية. وتحل هذه العلة الصحيحة المستمدة من وقائع الملف محل العلة المنتقدة، وتبقى الوسيلة المستدل بها غير مرتكزة على أساس”[11].
4 – أن يقتصر المجلس الأعلى على الوقائع الثابتة أمام محكمة الموضوع:
يتعين على محكمة النقض أن تستند في استبدال الأسباب على الوقائع الثابتة أمام محكمة الموضوع، لذلك لا يجوز له أن يقرر، أو يقدر وقائع جديدة لم يثبتها الحكم المطعونفيه، وهذا ما قررته محكمة النقض حيث قالت :
“للمجلس الأعلى أن يحل علة قانونية مرتكزة على العناصر الواقعية المستخلصة من الملف ومن الحكم المطعون فيه محل العلة التي ارتكز عليها هذا الحكم”[12].
وجاء في قرار آخر:
“… وهذه العلة القانونية المحضة المستفادة من واقع الملف، والثابتة لقضاة الموضوع يعوض بها المجلس الأعلى العلة المنتقدة…”[13].
الفقرة الثانية: استكمال الأسباب
يقصد باستكمال الأسباب إيراد محكمة النقض في قراره بيان القاعدة القانونية الصحيحة التي يستقيم بها قضاء الحكم المطعون فيه، حسبما انتهى إليه في منطوقه، وأغفل، أو قصر، عن إبرازها في أسبابه[14]، لأن: “المحكمة غير ملزمة بإبراز النصوص الفقهية والقانونية التي استندت إليها في قضائها ما دام حكمها جاء مطابقا للفقه والقانون”[15].
واستكمال الأسباب يكون في حالة قصور الأسباب القانونية وحدها، دون مساس بقصور الأسباب الواقعية[16]، وبما أن محكمة النقض محكمة قانون لا واقع، فإنه يتعين عليها أن تعتمد في استكمال الأسباب القانونية على ما أثبته الحكم المطعون فيه من وقائع، كما يجب أن تكون هذه الوقائع كافية لتؤسس عليها محكمة النقض حلها القانوني[17].
وإذا كان استبدال الأسباب كما سبق الذكر يواجه عيب الخطأ في التسبيب، فإن استكمال الأسباب يواجه عيب عدم كفاية التسبيب، ويلتقيان معا في أنهما يعالجان عيبا شاب الأسباب القانونية في الحكم المطعون فيه[18]، ولأن محكمة النقض محكمة قانون لا واقع، فإنه لا يمكنها استكمال الأسباب الواقعية.
واستكمال الأسباب لا يمكن أن يكون إلا جزئيا لمعالجة عيب عدم كفاية أسباب الحكم المطعون فيه.
لأنه نادرا ما نجد في الحياة العملية حكما لا ينطوي على أي سبب، وما نواجهه في الغالب هو وجود أحكام غير مسببة في وجه أو في عدة أوجه، لذلك لا يتصور الاستكمال الكلي للأسباب، لأن الحكم الذي لا يتضمن التعليل يعتبر باطلا، والباطل لا يمكن إنقاذه لأنه غير موجود، غير أن هناك من الفقه الفرنسي من يرى إمكان الاستكمال الكلي للأسباب لمعالجة عيب انعدام الأسباب[19]، وقامت محكمة النقض الفرنسية في أحد قراراتها باستكمال كلي للأسباب[20].
وخلاصة القول، هو أن المشرع مطالب بالتدخل وتنظيم سلطة محكمة النقض في استبدال واستكمال الأسباب على غرار المشرع الفرنسي قصد إنقاذ القرارات من النقض، وربح الجهد والوقت.
[1]- للمزيد من الإيضاح حول مختلف القرارات التي تصدرها محكمة النقض راجع:
– محمد لمعمري، قرارات المجلس الأعلى في المادة المدنية وآثارها، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى، 2010 ص 204 وما بعدها. والكتاب في الأصل أطروحة لنيل الدكتوراه في الحقوق، كلية الحقوق بمراكش، السنة الجامعية 2008/2009.
[2] – محمد المنجي، كيفية رفع الطعن بالنقض، منشأة المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 2001،ص 535.
[3] – انظر في ذات المعنى :
– محمد كمال عبد العزيز، تقنين المرافعات في ضوء القضاء والفقه، الجزء الأول، دار الطباعة الحديثة – القاهرة – الطبعة الثالثة، 1995، ص 1863.
[4]- قرار عدد 66، صادر بتاريخ 21/01/1980، في الملف المدني عدد 68562، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 28، ص 25.
[5]- محمد لمعمري، قرارات المجلس الأعلى في المادة المدنية وآثارها، م. س، ص 111.
[6] – قرار عدد 617، صادر في 27/05/1997، ملف اجتماعي عدد 1615/4/1/95، منشور بمجلة ق.م.ع، عدد 53/54، ص 333 وما بعدها.
[7]-EVELYNE PRIEUR, La substitution de motifs par la cour de cassation, éd. Economica, Paris, 1986, p 21.
[8]- على سبيل المثال تجيز المادة 620 من ق.م.م. الفرنسي التخلص من الأسباب الزائدة التي لا تؤثر في حل النزاع.
– EVELYNE PRIEUR, La substitution de motifs par la cour de cassation, op. cit, p 19.
[9]- قرار عدد 1340، صادر في 28/04/2004، ملف مدني عدد 1166/1/4/2001، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 62، ص 70 وما بعدها.
[10]-وفي هذا الصدد قررت محكمة النقض الفرنسية:
«La cour de cassation peut substituer un motif de pur droit à un motif erroné»
– CIV, 3e,10 déc 1975 : BULL. CIV. III, n° 370.
[11] – قرار عدد 318، صادر في 25/04/2000، ملف اجتماعي عدد 456/5/1/1999، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 57/58، ص 307 وما بعدها.
[12] – قرار رقم 134 صادر في 26 /03/ 1969، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 10، ص 18.
[13] – قرار رقم 426، صادر في 22/03/2000، ملف تجاري عدد 1716/99، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 56، ص 301 وما بعدها.
[14]- راجع في ذات المعنى:
– مصطفى كيرة، النقض المدني، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، (ع.ط.غ.م)، 1992، ص 661.
[15]- قرار محكمة النقض عدد 686، صادر في 28/10/1997، ملف شرعي عدد 6263/92، منشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى، عدد 52، ص 126 وما بعدها.
[16] – محمد كمال عبد العزيز، تقنين المرافعات، م.س، ص 1861.
[17]- راجع في ذات المعنى :
– Jacques Héron, droit judiciaire privé, édition MONTCHRESTIEN, Paris 1991, p 513 et s.
[18]- محمد المنجي، كيفية رفع الطعن بالنقض، م.س، ص 534 وما بعدها.
[19] -EVELYNE PRIEUR, La substitution de motif par la cour de cassation, op. cit, p 94.
[20] – Cass, Civ, 1re, 25.05.1982, BULL : CIV. I, n° 187 p. 164, cite par EVELYNE PRIEUR, La substitution de motif, op. cit, p. 94.
اترك تعليقاً