استعمال الحق:
المادة (30):
الأصل أن استعمال الحق من جانب صاحبه يعتبر فعلاً مشروعًا ما دام يلتزم فيه مضمون الحق وحدوده كما رسمها القانون. ومن هنا كان السائد زمنًا طويلاً أن صاحب الحق يتمتع بحرية مطلقة في استعمال حقه ولا يكون مسؤولاً عما يصيب الغير من جراء استعماله ولكن غالبية التشريعات الحديثة تقيد من هذه الحرية وتضع على استعمال الحقوق رقابة تكفل مشروعيته، فتُضفي حماية القانون على استعمال المشروع وحده، وتمنعها من الاستعمال الذي ينحرف به صاحب الحق عن طريقه الطبيعي بل وتساؤله عما يسبب للغير من ضرر، أو تمنعه أصلاً من المضي في هذا الاستعمال.
والفكرة قديمة تمتد جذورها إلى الشرائع السالفة، عرفها القانون الروماني في صورتها البدائية البسيطة فأثَّم استعمال الحق إذا قُصد به الإضرار بالغير. وكذلك عرفها الفقه الإسلامي، ولكن دون أن يحصرها في هذه الصورة البسيطة. بل توسع فيها وصاغها نظرية عامة تضارع في دقتها وأحكامها أحدث ما وصلت إليه الشرائع الحديثة وأسفرت عنه مذاهـب المحدثين من فقهاء الغرب. وقننت مجلة الأحكام العدلية هذا الفقه وأوردت له كثيرًا من التطبيقات، فلما تقرر العمل بها في الكويت، انتقلت نظرية التعسف بكل أبعادها إلى القانون الكويتي وذلك قبل إن يتقرر الأخذ بها في كثير من البلاد، فلا غرو إذن أن يتضمن قانون المرافعات الصادر في سنة 1960 تطبيقًا لهذه النظرية، في حالة رفع الدعوى أو الدفاع بقصد الإضرار بالغير (المادة 208)، وأن ينص الدستور بعد ذلك على أن الملكية حق من حقوق الفردية ذات الوظيفة الاجتماعية، ويقصد بذلك – كما جاء في المذكرة التفسيرية – تنظيم وظيفة الملكية بما فيه صالح الجماعة بهدف منع الإضرار بمصلحة المجموع أو إساءة استعمال الحق. فحيث يتعارض حق الملكية مع مصلحة عامة، قُدمت المصلحة العامة. فيما ينبغي أن تقف الملكية حجر عثرة في سبيل تحقيق المصلحة العامة، ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية. وحيث يتعارض حق المالك مع مصلحة خاصة هي أولى بالرعاية من حق المالك فإن هذه المصلحة الخاصة هي التي تقدم، فما ينبغي استعمال حق الملكية فيما يضر بالغير ضررًا غير مشروع ولا يدخل هذا في وظيفتها الاجتماعية.
على أنه إذا كان الأخذ بنظرية عامة للتعسف قد أصبح مبدأ مستقرًا في كثير من التشريعات الحديث إلا أن هذه التشريعات تختلف فيما بينها عند تحديد المعيار الذي يقاس به التعسف فيكتفي بعضها بوضع مبدأ عام دون تحديد لصور التعسف، ومن ذلك معيار الهدف أو الغرض الذي منح الحق من أجله. ويفضل بعضها الآخر تحديد صور التعسف بغير إبراز للمبدأ العام الذي يحكمها، كما فعل المشرع المصري وغالبية القوانين العربية التي نحت نحوه، وإذا كانت الطريقة الأولى بتجردها ومرونتها أكثر مناسبة للعمل التشريعي حتى لا ينحصر معيار التعسف في صور محددة لا يلبث أن يظهر تقدم الزمان وتغير الأوضاع قصورها عن ملاحقة التطور، إلا أنه يعيبها في الوقت ذاته صعوبة تحديد الهدف أو الغرض من كل حق من الحقوق، ولذلك رأى المشروع أن يجمع بين الطريقتين، فيورد المبدأ العام الذي يحكم معيار التعسف، ثم يورد بعده التطبيقات الرئيسية للمبدأ. وقد عُني المشروع بوضع المبدأ العام متحاميًا – كما فعل القانون المصري – اصطلاح التعسف لسعته وإبهامه، ودمغ استعمال الحق بعدم المشروعية إذا انحرف به صاحب الحق عن الغرض منه أو عن وظيفته الاجتماعية، وتحديد معيار عدم المشروعية بالانحراف عن غاية الحق أو الغرض منه يحظى بتأييد كبير في التشريع والفقه الحديث، أما الوظيفة الاجتماعية للحقوق فهي مكرسة في الدستور.
وفي تعديد التطبيقات الرئيسية لعدم المشروعية، حرص المشروع على أن تكون هذه التطبيقات مستمدة من الفقه الإسلامي بوجه خاص. وأول هذه التطبيقات، عدم مشروعية المصلحة التي تترتب على استعمال الحق، وهو تطبيق يقوم على ضرورة موافقة استعمال الحق لغايته أو الغرض منه، وإلا كان استعمالاً منحرفًا، وفي ذلك فإن المصلحة لا تكون غير مشروعة إذا كان تحقيقها مخالفًا لحكم من أحكام القانون فحسب، بل إنها تكون غير مشروعة أيضًا إذا كان تحقيقها يتعارض مع النظام العام أو الآداب. والتطبيق الثاني، هو استعمال الحق بقصد الإضرار بالغير، وهو تطبيق استقر عليه الفقه الإسلامي وأخذ به التقنين الألماني (المادة 226)، ونقلته عنه غالبية التقنينات الحديثة. والجوهري في شأنه هو توافر قصد الإضرار ولو أفضى استعمال الحق إلى تحصيل منفعة لصاحبه، وكما يُستخلص هذا القصد من تفاهة المصلحة التي تعود على صاحب الحق، فإنه يستخلص بالأولى من انتفاء كل مصلحة من استعمال الحق.
والتطبيق الثالث، هو انعدام التناسب بين مصلحة صاحب الحق وبين الضرر الذي يصيب الغير، وهو ما يُتخذ قرينة على توافر قصد الإضرار بالغير. والتطبيق الأخير، هو استعمال الحق استعمالاً من شأنه أن يلحق بالغير ضررًا فاحشًا غير مألوف، وهو تطبيق يخصه الفقه الإسلامي بكيان مستقل ويوليه كثيرًا من الاهتمام – وقد قننته المجلة في المادة (1198) بقولها ” كل أحد له التعلي على حائط الملك وبناءً ما يريد وليس لجاره منعه ما لم يكن ضرره فاحشًا ” وعرفت الضرر الفاحش في المادة التالية بأنه ” كل ما يمنع الحوائج الأصلية يعني المنفعة الأصلية المقصودة من البناء كالسكنى أو يضر بالبناء أي يجلب له وهنًا ويكون سبب انهدامه ” ثم عقبت على ذلك بتطبيقات مختلفة في المواد (من 1200 إلى 1212). وإذا كان هذا التطبيق قد حذف من نص المادة الخامسة من القانون المصري بعد أن كان واردًا في مشروعه التمهيدي، غير أن هذا الحذف لم يكن عدولاً عن اعتباره تطبيقًا للتعسف وإنما اكتفاء بتطبيقه الخاص الوارد في باب الملكية وهو تطبيقه الرئيسي.
يبقى بعد ذلك أن يجتهد القاضي رأيه فيما يعرض عليه من مسائل لا تندرج تحت واحد من هذه التطبيقات، وذلك بإعمال المبدأ العام الذي وضعه المشروع، مهتديًا بأحكام الفقه الإسلامي ومتأسيًا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم “ لا ضرر ولا ضرار “. وعلى هذا النحو مكن المشروع لنظرية التعسف بين أحكامه العامة، باعتبارها فكرة ملازمة لفكرة الحق ومكملة لها، تستهدف تحقيق مصلحة الجماعة، وتجاوز في دورها وجزائها دور المسؤولية وجزائها التعويضي مما يجعل للقضاء رقابة مبتدأة على استعمال الحقوق إلى جانب رقابته اللاحقة على هذا الاستعمال.
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً