مقال عن الوسائل الحديثة للتواصل بين حرية التعبير والاعتداء على الحياة الخاصة للأشخاص
يحتاج الانسان بإعتباره كائن إجتماعي إلى وجوده داخل الجماعة للبحث عن سبل التكامل بين عناصرها، وذلك من أجل تجاوز كل ما يهدد سلامته وأمنه ويحقق إحتياجاته، ويحتاج إلى مجالا أرحب للتواصل مع أفراد المجتمع بدون أي رقابة أو تحكم أو منع أو عقاب إلا فيما يهدد حياة الآخرين ويمس بكرامتهم فإنه يخضع فيه لقيود قانونية وأخلاقية، وبإعتبار الانسان ذو طبيعة تميل به إلى البحث عن فرض ذاته ورأيه على الآخرين بمختلف الطرق التي قد يستنكر بعضها المجتمع لما تنشره من تفسخ او إنتهاكا لقواعد أخلاقية- دينية او مبادئ عرفية تعتبر السلوك تقليلا من احترام الفرد لمحيطه، فقد يرتب عليها المجتمع استنكارا يجعل من قام بها منبوذ من طرف أفراده أو تحرك ضده المتابعة أمام “شيخ القبيلة” أو “أمغار” في الاعراف التي تحكم القرى أو أمام جهاز القضاء في التنظيم العصري للجماعة ” الدولة “.
ويتم التواصل والتعبير بين افراد المجتمع عبر وسائل تطورت بتطوره، فأصبحت السرعة تحكم كل علاقاته وتعاملاته، ولم يعد معنى للوقت في تواصله وتعبيره عن كل ما يشعر به من مشاعر وأحاسيس وأصبح بمقدور كل افراد المجتمع ان يمنحوا آرائهم وإرتساماتهم حسب ما تتيحه الدولة من حقوق وضمانات ومؤسسات تحميهم وتسعى الى ضمان حرية الرأي والتعبير، وحسب ما وصلت اليه الدولة من وعي داخل الافراد والجماعات المكونة لها حتى لا تتحول الحرية الى فوضى وانتهاك لخصوصيات الاخرين داخل المجتمع، وتعتبر حرية الرأي والتعبير من أساسيات الممارسة الديمقراطية التي تسهر المواثيق الدولية والوثيقة الدستورية لأغلب الدول على ضمان هذه الحرية وغيرها من الحريات والحقوق التي توسع من مجال ممارسة المواطن لحقوق كونية لصيقة به منذ الولادة ومرتبطة بماهيته كإنسان كرمته مختلف الشرائع السماوية وعلى رأسها الشريعة الاسلامية التي جعلته خليفة الله في الارض.
غير أن هذه الشرائع السماوية وضعت ضوابط وقيودا على هذه الحقوق والحريات ورتبت على مخالفتها الجزاء ان لم يطلب الانسان الصفح والمغفرة، وفيه قال عزوجل في كتابه الحكيم ” مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” وقوله تعالى ” أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ “
وقد إنتشرت في الاونة الاخيرة وسائل للتواصل والتعبير يحكمها التطور والسرعة، حيث تجاوزت الوسائل التقليدية في التعبير التي كانت حكرا على فئات دون أخرى نظرا لسهولة مراقبتها والتحكم في من يتواصل او يعبر عن طريقها، ومن هنا كانت سهولة ضبط الاراء والتوجهات وتنزيل عليها الضوابط الاخلاقية-القانونية فيمنع نشر او ترويج اي شيء ينتهك خصوصيات الاخرين او يتهمهم دون أدلة دامغة ترفق بكل اتهام، وليس لكل الناس بل فقط لمن يشغلون مصالح عامة فيرتكبون خيانة للامانة توجب متابعتهم او حتى التشهير بهم الى حين تحريك الدعوى العمومية لمتابعتهم امام الجهاز الموكول له سلطة توجيه الاتهام والمتابعة، او الذين يقومون بأفعال يعاقب عليها القانون، فكان الإعلام وليس الصحافة فقط سلطة رابعة للمراقبة تتحمل مسؤوليتها في التحري عن صحة ما ينشر بها أو يصرح به تفاديا للتشهير بشخص ما وانتهاك حرمته، قبل أن يتوسع هذا الحقل الذي اصبح يتحكم فيه هاجس الربح المادي والميولات الشخصية والحزبية وان على حساب تشويه سمعة الاخرين وانتهاك حرمتهم، لاسيما مع اتساع نطاق وسائل الاعلام لتشمل المواقع الالكترونية، الامر الذي ساهم بلا شك في اضعاف رقابة الحكومات على هذه الوسائل التي ساهمت في “تغول” الحقل الاعلامي.
وعلى صعيد آخر برزت وسائل جديدة للتواصل او ما يطلق عليه بالمواقع الاجتماعية، وان كانت خرجت الآن عن ما هو اجتماعي الى أغراض هدامة واضحة المعالم، حيث من خلالها تستغل بعض العقول التي تحمل أفكارا خارجية إلى ترويج أفكار تدمر القيم الاجتماعية والدينية والسياسية، ومن خلالها اتسع نطاق الاعتداءات على حرية الاخرين وحقوقهم، إذ من السهولة بما كان الانتقام بين افراد المجتمع بنشر اخبار او صور او بيانات وترويجها على اوسع نطاق ما يشكل ضربة قوية قد تجعل من وجهت اليه يفقد كل شيء وتسوء حالته بعدما تسوء سمعته.
إن الذي يلقي نظرة على هذه المواقع الاجتماعية يصاب بالدهشة التي تدفعه الى الاعتقاد منذ الوهلة الاولى بانه عالم لا يحكمه قانون ولا تدركه يد العدالة فضلا على أن الجالس خلف الشاشة يختبء خلف أسامي مستعارة قد لا تكشف عن هويته، وبالتالي يصعب معرفته ومتابعته، وان كانت الدولة تحاول أن تؤطر هذا الحقل وتجرم بعض الافعال التي تتم عبر الوسائل المعلوماتية، وهو الامر الذي يشكل نوعا ما ضمانة لحماية الحياة الخاصة للافراد.
إن الحديث عن ضمانات حماية الحياة الخاصة مع انتشار وسائل التواصل وتشعبها والتي لم يعد للزمان والمكان أمامها اي اعتبار يبقى غير متحكم في حدوده ويبقى نسبي جدا، وذلك لان هذه الوسائل خارجة عن رقابة الحكومات ومن الصعب ضبطها بقانون، فلا يحكمها منهج ولا تخضع لأي ضوابط موضوعية تتحكم بها الا ما يريده المتحكمين فيها لتحقيق أغراض معينة غالبا ما ترتبط بالربح او اغراض ايديولوجية قد تكون جهات تدعم في مجال تعميق سلبياتها وتخبط المجتمع في المزيد من الازمات التي يصعب الخروج منها، أو أغراض مذهبية-دينية من خلال ادخال ثقافات غربية تضرب في الاخلاق- العفة ومعتقدات خرافية وإدخال الشك في مسلمات دينية يؤثم من يجادل فيها أو عملية الاستقطاب والتعبئة لتدمير لحمة المجتمعات واضعافها، لذلك كان لزاما على الدولة محاولة ضبط هذا المجال بتشريعات تحاول مواكبة الزحف الذي تعرفه وسائل التواصل والتعبير والذي يقترن بتوسع دائرة الاعتداءات على الحياة الخاصة للافراد.
وقد أحدثت لهذه الغاية خلية تسهر على رصد الجرائم التي تتم عبر هذه الوسائل، لكن يبقى عملها صعبا في ظل تطور الاعتداءات والجرائم الالكترونية وإتساع نطاقها، وذكاء مرتكبيها اذ قد يكون لهم امتداد إقليمي ودولي يصعب معه رصدهم ومتابعتهم، ليبقى عملها يقتصر على الجرائم المحلية البسيطة التي يرتكبها أشخاص لا يفقهون في التقنية المعلوماتية فلا يخطر لهم ببال ان الجهاز الذي يتواصلون من خلاله ويعتدون عبره على قدسية حياة الاخرين وحرمتها يمكن رصد مكانه بدقة عبر تقنيات متطورة للرصد والمراقبة والتتبع، فهو الذي يمكن وصفه بالمجرم الساذج الذي قد يسرق محلا للجواهر الثمينة، فيخرج فرحا لكن ما ان يصل الى أولاده حتى يلقى عليه القبض، لانه ظن ان محلا من ذلك الحجم متروك لمراقبة صاحبه فيباغته لكن اجهزة المراقبة تباغث السارق، ومع التطور الالكتروني الحاصل قد يكون لهذه الاجهزة ارتباط مباشر في بعض المصالح الحيوية والشوارع الرئيسية التي بها مرافق استراتيجية بالخلية الساهرة على مراقبة الامن والسلامة فيسهل رصد كل الجرائم بدقة ومتابعة مرتكبيها.
.لقد فتحت هذه الوسائل الجديدة للتواصل والتعبير ابوابها لكل الناس فأصبح بإمكان الجاهل أن يسب عبرها العالم الجليل ويتهمه ويصفه بأقبح النعوت وهو يعرف ومتأكد من أنه لن يطاله اي عقاب، وأصبحت الحياة الخاصة للافراد مهددة ومعرضة في اي وقت للتشهير والانتهاك، لذلك اصبح الرهان قوي على تخليق المجتمع وتوعيته بالاخطار التي تحملها هذه الوسائل التي دخلت إلى الاسرة فقضت فيها على كل معاني الالفة والرحمة، وذلك لما تحمله من افكار هدامة تستعبد الانسان وتجعل منه الخادم المطيع الذي لا يحاول ان يندمج في مجتمعه، وبالتالي لا يؤثر ولا يتأثر بكل ما يحدث حوله ويواجه كل الاحداث التي تحيط به باللامبالاة وانعدام الاحساس تجاهها…
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً