مقال عن قضايا السياسات الضريبية
يطرح هذا القسم ويعالج بعض المسائل الأكثر عمومية والأشد تعقيدا المتعلقة بتصميم ضريبة القيمة المضافة.
ماهو عدد معدلات ضريبة القيمة المضافة؟
المشورة المعتادة هي تطبيق معدل واحد لضريبة القيمة المضافة (إلى جانب المعدل الصفري الذي لا يسري إلا على الصادرات)، وهي مشورة لم يؤخذ بها في كل الأحوال. ويوضح الجدول 3 عدد المعدلات الموجبة المعتمدة في مجموعة البلدان التي تطبق ضريبة القيمة المضافة حاليا كنسبة من جميع البلدان التي تطبقها. ويشير التحليل إلى أنه كلما مر وقت أطول على بدء تطبيق ضريبة القيمة المضافة زاد تعدد المعدلات، وأن عدد المعدلات المطبقة في أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط أكبر بكثير من نظيره في المناطق الأخرى، مع مراعاة الفترة المنقضية منذ التطبيق.
ولما كانت ضريبة القيمة المضافة مصممة للتطبيق على الاستهلاك، فإن السؤال المطروح هنا يدور حول سبب الرغبة في إخضاع مكونات الاستهلاك المختلفة لمعدلات ضريبية مختلفة. وقد تستند الدعوة إلى الأخذ بمعدلات مختلفة إلى اعتبارات الكفاءة، حيث تعني قاعدة “المرونة المعكوسة” (inverse elasticity) أن السلع التي يكون الطلب عليها مفتقرا إلى المرونة يجب إخضاعها لمعدلات ضريبية أعلى من المتوسط. غير أن هذه الحجة الداعية إلى اعتماد معدلات مختلفة تضعف كثيرا أمام الحاجة إلى مراعاة الاعتبارات الإدارية وإمكان فرض ضرائب انتقائية على استهلاك بعض السلع التي يتسم الطلب عليها بانعدام المرونة (كالكحول والبنزين ومنتجات التبغ)، وهي منتجات نهائية في معظمها.
ولذلك فإن القضية الأهم قد تتمثل في إمكانية استيعاب الاختلاف في معدلات الضريبة لمراعاة اعتبارات العدالة – أي أن يكون من المرغوب إخضاع معظم السلع التي تمثل النصيب الأكبر من إنفاق الميسورين من أفراد المجتمع لأعلى المعدلات الضريبية، مع افتراض تساوي جميع الظروف الأخرى. وتعتمد قوة اعتبارات العدالة على مجموعة أدوات السياسات المتاحة. فعلى عكس الحالة في البلدان المتقدمة، لا توجد في العديد من البلدان النامية ضرائب على الدخل تطبق بصورة سليمة أو برامج للإنفاق موجهة إلى مستحقيها أو كلاهما لتيسير تحقيق أهداف العدالة. غير أن إعادة توزيع الدخل التي يمكن القيام بها من خلال الضرائب غير المباشرة وحدها محدودة بطبيعتها. والنقطة الأساسية في هذا السياق هي أنه حتى إذا أنفق الفقراء نسبة أكبر من دخولهم على سلعة معينة (الأغذية مثلا)، فإن الأغنياء ينفقون في العادة مبالغ أكبر في المطلق، ومن ثم فإن تخفيض معدل الضريبة على هذه السلعة سيؤدي إلى تحويل أموال إلى الأغنياء أكثر من الفقراء. ولا بد أن يضاف إلى ذلك الزيادة في التكاليف الادارية وتكاليف الامتثال، بما فيها زيادة احتمال وجوب رد المسدد من الضريبة (إلى بائعي السلع الخاضعة لضرائب منخفضة والتي تستخدم في إنتاجها مدخلات تخضع لضرائب مرتفعة)، وإمكانية الخلاف حول التعاريف واحتمال التهرب من الضرائب، وإمكانية تسبب معدلات الضريبة المتعددة في صعوبة مقاومة الضغوط السياسية من أجل إيجاد مزيد من التمايز بين هذه المعدلات. والسؤال الحقيقي المطروح بشأن السياسات في بلدان نامية كثيرة هو ما إذا كان من الأفضل انتهاج سياسة تقوم على معدل واحد واستغلال الإيرادات الزائدة الناتجة عن ذلك لتمويل الإنفاق لصالح الفقراء والموجه إليهم بدقة أكبر مما يحققه تخفيض معدل ضريبة القيمة المضافة.
وترتبط بذلك قضية ما إذا كانت ضريبة القيمة المضافة تنازلية بطبيعتها. فصحيح أن نسبة استهلاك الدخل الجاري تميل إلى الانخفاض مع تزايد الدخل الجاري، ولكن هذه القضية تصبح أقل وضوحا عند النظر إلى الاستهلاك على مدى الحياة حيث يميل الاستهلاك والدخل إلى التناسب كل منهما مع الآخر. وبالإضافة إلى ذلك، لا بد من مقارنة آثار ضريبة القيمة المضافة على توزيع الدخل مع آثار الضرائب التي حلت هذه الضريبة محلها على توزيع الدخل أيضا، بل وتقييم تبعات نظام إنفاق الحصيلة الضريبية برمته، والذي تعتبر ضريبة القيمة المضافة جزءا واحدا منه، على توزيع الدخل أيضا. وهناك أيضا مسائل مهمة من حيث مُستَقَر الضريبة فيما يتعلق، مثلا، بالميزة النسبية التي يمكن أن يتمتع بها صغار التجار الواقعين دون حد التكليف بضريبة القيمة المضافة ـ وهو ما يتوقف على الضرائب الأخرى الخاضعين لها. وبغض النظر عن هذه التحفظات، يسترعي الانتباه أن الأدلة التجريبية الأخيرة (وإن كانت محدودة) عن بضعة بلدان نامية تبين أن توزيع مدفوعات ضريبة القيمة المضافة ليس تنازليا إلى حد كبير بل إنه أكثر تصاعدية من الضرائب على التجارة.
ما هي الإعفاءات؟
المشورة المعتادة أيضا هي الاقتصار على عدد محدود من الإعفاءات ينحصر في الرعاية الصحية الأساسية وخدمات التعليم الأساسي والخدمات المالية. ويصعب التوثيق بانتظام للممارسات المتبعة في هذا الصدد على مستوى العالم، ولكن انتشار الإعفاءات من ضرائب القيمة المضافة أصبح مدعاة للقلق المتزايد في الواقع العملي (وهو ما يصدق أيضا على ضرائب أخرى كضريبة دخل الشركات).
وغالبا ما تبرر الإعفاءات على أساس صعوبة إخضاع المخرجات للضريبة (كما هي الحال في إعفاء الخدمات المالية) وأنها تشكل بديلا مريحا عمليا لتخفيض المعدلات أو أي المبررين. كذلك يمكن أن تساق أسباب لتطبيق إعفاءات منتقاة؛ ويبدو أن إعفاءات المنتجات الزراعية والوقود، وهي الإعفاءات التي يشيع استخدامها، تعكس الشواغل المتعلقة بتوزيع الدخل، بينما نجد أن إعفاءات المشاريع التي يمولها مانحون تعكس في كثير من الأحيان الشروط المفروضة من أولئك المانحين.
ويلاحظ أن آثار الإعفاءات معقدة وغير مواتية بشكل عام. فالإعفاءات تتعارض مع المنطق الأساسي لضريبة القيمة المضافة، لكونها في المنتصف بين فرض معدل موجب بالطريقة المعتادة (وذلك بإخضاع المخرجات للضريبة ومنح خصم ضريبي على المدخلات) ومعدل صفري (أي إلغاء ضريبة القيمة المضافة المتضمنة في أسعار المنتجات إلغاء كاملا عن طريق منح خصم ضريبي على المدخلات، مع عدم إخضاع المخرجات للضريبة). ونتيجة لذلك فإن الإعفـاءات: (1) يمكن أن تتسبب في إعادة التضاعف الضريبي وما يصاحبه من تشوهات في الإنتاج ـ فعندما تكون سلعة معفاة مدخلا في إنتاج سلعة أخرى، لا يمكن المطالبة بخصم ضريبة القيمة المضافة المحملة على سعر السلعة المعفاة في مرحلة سابقة من مراحل الإنتاج؛ (2) تخل بمبدأ الوجهة في حالة البنود المتداولة دوليا ـ فإذا استخدم أحد المصدرين سلعا معفاة كمدخلات إنتاج، تكون ضريبة القيمة المضافة المحملة على سعر السلعة في مرحلة سابقة من مراحل الإنتاج متضمنة في المعدل الصفري المطبق على صادرات ذلك المصدر؛ (3) تنشئ حوافز لتجنب الالتزام الضريبي عن طريق التكامل الرأسي في حالة التجار المتمتعين بالإعفاء وتؤدي إلى تخطيط ضريبي أكثر جسارة في بعض البلدان المتقدمة؛ (4) تتسبب في إيجاد ديناميكية تغذي فيها الإعفاءات بعضها البعض مما يؤدي إلى ظهور ما يمكن تسميته “زحف الإعفاءات” (exemption creep) ـ أي أنه متى حصل قطاع ما على إعفاء، ينشأ لدى ذلك القطاع حافز للمطالبة بمنح إعفاءات لمنتجي المدخلات التي يستخدمها حتى يمكنه “استرداد” ضريبة القيمة المضافة التي دفعها في مراحل سابقة من عملية الإنتاج. أما على الجانب الإداري فإن الإعفاءات يمكن أن تطرح إشكاليات أيضا؛ فمن الضروري وضع قواعد لتخصيص المدخلات الخاضعة للضرائب في حالة التجار الذين يبيعون مخرجات خاضعة للضريبة ومخرجات معفاة منها، كما توجد مشكلات أخرى تثيرها نظم الشهادات الضريبية وغيرها من النظم المستخدمة لإعفاء مشاريع المساعدة الممولة من مصادر أجنبية.
ونظرا لهذه الصعوبات فمن المرجح أن يكون الحد من الإعفاءات موضوعا متكررا في إصلاح ضريبة القيمة المضافة في السنوات القادمة. وعلى المستوى الفكري، يوجد الكثير من الدروس المستفادة أيضا فيما يتعلق بالبدائل الممكنة للإعفاءات في القطاع العام والخدمات المالية. وبالنسبة للخدمات المالية على سبيل المثال، ظهر الاهتمام في السنوات الأخيرة بإمكانية تطبيق نموذج التدفق النقدي لضريبة القيمة المضافة، واعتمدت نيوزيلندا المعدل الصفري على كل ما تورده جهات تقديم الخدمات المالية حينما يكون العميل خاضعا للضريبة على 75% على الأقل من مخرجاته. ولا ينفي ذلك وجود مشكلة التضاعف الضريبي، ولكنه يعتبر تطورا جديرا بالاهتمام.
حد التكليف
يعتبر مستوى حد التكليف الذي يصبح عنده التسجيل إلزاميا في ضريبة القيمة المضافة اختيارا حاسما من حيث تصميم وتنفيذ الضريبة. ويتضح من التجربة أن بلدانا كثيرة تميل إلى وضع حدود مفرطة في الانخفاض فتواجه صعوبات كثيرة عندما يتبين لإداراتها الضريبية أنها في وضع لا يمكنها من إدارة عدد كبير من الخاضعين للضريبة. والواقع أن كندا ومالطة طبقتا في البداية حدا منخفضا للتكليف بالضريبة، وكان ذلك من الأسباب الأولية التي أدت إلى فشل ضريبة القيمة المضافة عند تطبيقها لأول مرة.
وهناك اختلاف ملحوظ عبر البلدان فيما يتعلق بمستوى حد التكليف بضريبة القيمة المضافة، حيث يتراوح بين بضعة آلاف من الدولارات الأمريكية وما يزيد على 000 20 دولار أمريكي. وحتى داخل الاتحاد الأوروبي حيث يوجد إطار قانوني مشترك يحكم ضرائب القيمة المضافة في الدول الأعضاء، تتراوح مستويات حد التكليف بين صفر وحوالي 000 100 دولار أمريكي. وهناك تنوع كبير أيضا في الشكل الذي يتخذه حد التكليف وفي مدى وطبيعة التدابير ذات الصلة. وبالإضافة إلى الحالة الأكثر شيوعا والتي تتمثل في تطبيق حد تكليف واحد، تشمل الاختلافات ما يلي: وجود حدود تكليف مختلفة للأنشطة المختلفة؛ وإجراء تعديلات متحركة (sliding adjustments) في الالتزام الضريبي للكيانات الواقعة تحت حد التكليف من أجل إزالة الانقطاعات في سلسلة الضريبة حول حد التكليف؛ وتطبيق نظم مبسطة مثل الضريبة الجزافية على صغار التجار الواقعين تحت حد التكليف.
وتنبع جاذبية حد التكليف المرتفع من المشاهدات التجريبية المنتظمة التي توضح إسهام نسبة صغيرة نسبيا من الشركات بنسبة كبيرة للغاية من الإيرادات الممكن تحصيلها من ضريبة القيمة المضافة. ومن ثم فإن وضع حد تكليف مرتفع يحقق وفورات في الموارد الإدارية النادرة مقابل تكلفة بسيطة من الإيرادات. فالهيئات المختصة بمقدورها إعفاء صغار التجار من دون التسبب في آثار سلبية على الإيرادات، حيث إن المتوقع أن تكون القيمة المضافة لدى هذه المجموعة متواضعة. ويتعارض هذا تعارضا واضحا مع ضرائب المرحلة الواحدة كضريبة المبيعات على تجارة التجزئة حيث يعني وجود حد للتكليف ضياع مبلغ الضريبة بالكامل ـ وليس فقط ضريبة القيمة المضافة ـ على المبيعات المعفاة التي يؤديها الواقعون تحت حد التكليف.
وعلى الرغم من ذلك، فمن الجلي أن بلدانا عديدة ـ ومنها على سبيل المفارقة بلدان كثيرة ذات قدرات إدارية ضعيفة نسبيا ـ لم تقتنع بالحجج المؤيدة لحد التكليف المرتفع. فإضافة إلى انعكاساته على الإيرادات، كثيرا ما تشعر السلطات الوطنية المعنية بالقلق من أن ينطوي حد التكليف المرتفع على محاباة جائرة لصغار التجار (بإعفائهم من تلك الضريبة). ومثال ذلك الاقتراح الأول من المفوضية الأوروبية بإصدار توجيهات لفرض ضريبة على الخدمات الإلكترونية ”المستوردة”، والذي دعا إلى حد تكليف يبلغ 000 100 يورو على الموردين غير المقيمين في الاتحاد الأوروبي، والذين يقومون بالتوريدات للمستهلكين في الاتحاد الأوروبي. غير أن البلدان الأعضاء ألغت الإشارات إلى حدود التكليف في المفاوضات اللاحقة. ونتيجة لذلك، أصبحت منشآت الأعمال التي لا تنتمي إلى الاتحاد الأوروبي يتعين عليها، نظريا على الأقل، سداد ضريبة القيمة المضافة الأوروبية على جميع المبيعات الداخلة إلى الاتحاد الأوروبي بغض النظر عن كميات البضائع المباعة. ويتعارض ذلك مع حدود التكليف المطبقة في معظم دول الاتحاد وإن لم يكن كلها، مما يؤدي إلى إدخال بعض التشوهات.
وتعتبر المفاضلة بين الإيرادات وتكاليف تحصيلها مسألة أساسية، حيث يرتفع حد التكليف الملائم كلما ازدادت تكلفة إدارة الضريبة والامتثال وقلت حاجة الحكومة إلى الموارد وانخفضت القيمة المضافة كنسبة من المبيعات. وتتسم هذه النقطة الأخيرة بالأهمية نظرا لكونها مبررا قويا لوضع حد تكليف متمايز أكثر انخفاضا للأنشطة الأكثر ربحية و/أو كثيفة العمالة، مع افتراض تساوي جميع الظروف الأخرى. غير أن هذا يثير مسألة الصعوبات العملية التي تواجه عملية التمييز بين الأنشطة المختلفة والتعامل مع التجار الذين يمارسون أنشطة متعددة. وتتضمن إحدى الدراسات تعبيرا صريحا عن حد التكليف الأمثل ـ لأبسط حالة ـ يسمح بإجراء حسابات توضيحية في هذا الخصوص.
كذلك يثير اختلاف المعاملة بين من هم فوق حد التكليف ومن هم دونه بعض القضايا الأخرى. فعلى سبيل المثال، ترغب الشركات التي تبيع إلى شركات أخرى أن تسجَّل في نظام ضريبة القيمة المضافة حتى تسترد الضريبة المسددة على مدخلاتها. ومن ثم، جرت العادة على السماح للشركات الواقعة دون حد التكليف بالتسجيل الاختياري في نظام ضريبة القيمة المضافة. وعلى العكس من ذلك، يرجح أن تجد الشركات التي تتميز بارتفاع نسبة القيمة المضافة إلى المبيعات وتبيع لمشترين غير مسجلين ـ أبرزهم صغار التجار الذين يقدمون خدمات مباشرة للمستهلكين النهائيين ـ أن الإعفاء من ضريبة القيمة المضافة هو الأفضل لها. ولهذه المحاباة الضمنية لصغار التجار دون كبار التجار آثار على العدالة والكفاءة. فعلى وجه التحديد، يحقق حد التكليف صالح صغار التجار الذين يتحملون تكلفة مرتفعة على حساب التجار الأكبر الأكثر كفاءة، الأمر الذي يعني وجود حد تكليف أمثل أكثر انخفاضا، مع افتراض تساوي جميع الظروف الأخرى. ويرتبط بهذه المسألة ما يسببه حد التكليف من إمكانية تجنب ضريبة القيمة المضافة عن طريق تنظيم الإنتاج في سلسلة من المشاريع الصغيرة بالقدر الكافي.
غير أن مدى وطبيعة التشوه بين من هم فوق حد التكليف ومن هم دونه يعتمد على كيفية إخضاع المجموعة الثانية للضريبة. والضرائب الجزافية (مثل ضريبة بسيطة على رقم الأعمال) شائعة الاستخدام نسبيا، مما يعني ضرورة تعديل حد التكليف الأمثل على أساس اختلاف الإيرادات وتكاليف التحصيل المرتبطة بالضريبتين الواقعتين حول حد التكليف. والنتيجة العامة هي أنه كلما انخفضت تكلفة تحصيل الضريبة البديلة وارتفع معدلها، ارتفع حد التكليف الأمثل لضريبة القيمة المضافة.
البلدان الصغيرة
هل هناك بلدان يعتبر حجمها من الصغر بحيث لا يلائمها استخدام ضريبة القيمة المضافة؟ إنه سؤال مهم بالنسبة لانتشار ضريبة القيمة المضافة في المستقبل، لأن العديد من البلدان التي لم تستحدث هذه الضريبة بعد هي بلدان صغيرة. وكما ورد آنفا، يشير التحليل التجريبي إلى أن إيرادات ضريبة القيمة المضافة ترتفع كلما زاد وزن التجارة الدولية في الاقتصاد المعني، مع افتراض تساوي جميع الظروف الأخرى. وحيث إن الاقتصادات الأصغر تميل إلى الاعتماد بدرجة أكبر على التجارة، فمن المنطقي أن تحقق ضريبة القيمة المضافة في البلدان الصغيرة أداء أفضل مما تحققه في البلدان الأكبر. وبالإضافة إلى ذلك، يشير التحليل الاقتصادي إلى أن فرض ضريبة على الاستهلاك يؤدي عموما إلى تشويه الاقتصاد بدرجة أقل مما يسببه استخدام نظام للتعريفات الجمركية يحصل مقدارا معادلا من الإيرادات. غير أن مدى ملاءمة ضريبة القيمة المضافة للاقتصادات الصغيرة يعتمد أيضا على الفرق في تكاليف التحصيل بين هذه الضريبة ومصدر الإيرادات البديل.
ويشير التحليل أيضا إلى أن فرض ضريبة القيمة المضافة يكون أقل نفعا للبلدان التي تعتمد على الاستيراد في معظم استهلاكها والتي يكون نصيب السلع الوسيطة في وارداتها محدودا، لأن الفرق بين التعريفة الجمركية على الواردات وبين الضريبة على الاستهلاك يكون طفيفا بالتأكيد في هذه الحالة. وفي حالة أصغر الاقتصادات، يرجح أن يكون معظم الاستهلاك مستوردا. غير أنه من الجلي أن نصيب السلع الوسيطة من الواردات الكلية ليس مسألة حجم فحسب، بل يعتمد على درجة تطور النشاط المحلي أيضا. كذلك قد يلجأ بلد يفرض تعريفة جمركية ذات وعاء واسع إلى فرض مكوس على سلع محلية مختارة، الأمر الذي يحد بدرجة أكبر من مكاسب الكفاءة المتحققة من التحول إلى ضريبة القيمة المضافة.
ولذلك قد يتوقف جانب كبير من المقارنة بين ضريبة القيمة المضافة والاستراتيجيات البديلة على مدى اختلاف التكاليف الإدارية وتكاليف الامتثال المتوقعة. فأولا، قد تشكل تكاليف التحصيل الثابتة المرتبطة بإدارة ضريبة القيمة المضافة عبئا ثقيلا نسبيا على كاهل أصغر الاقتصادات التي يكون لديها إما منشآت صغيرة أو عدد قليل من المنشآت. وثانيا، حين تكون المنشآت المتوفرة في الاقتصاد مقصورة على عدد صغير من منشآت تجارة التجزئة، قد يجد هذا الاقتصاد ميزة في تطبيق ضريبة مبيعات على تجارة التجزئة.
مسائل العلاقة بين مناطق الاختصاص
تواجه ضريبة القيمة المضافة تحديات أيضا في سياق العلاقات التجارية بين البلدان وفي تحديد دورها في النظم الضريبية لدى البلدان الفيدرالية.
القضايا الدولية
فيما يتعلق بالتجارة الدولية، يقضي المنهج القياسي والموصى به بفرض ضريبة القيمة المضافة على الاستهلاك المحلي على أساس مبدأ الوجهة. ويطبق هذا المبدأ دائما باستخدام معدل ضريبي صفري للصادرات وفرض ضريبة على الواردات، فتكون النتيجة أن يتم تحديد إجمالي الضريبة المدفوعة عن سلعة معينة على أساس احتساب معدل الضريبة المفروضة في منطقة اختصاص البيع النهائي والإيراد المستحق لهذه المنطقة. (ومن وجهة نظر إدارية، يعتبر تحصيل الضريبة في الجمارك من الأساليب الواضحة لرصدها.) والبديل للضريبة القائمة على مبدأ الوجهة هو الضريبة القائمة على أساس “المنشأ”، حيث تدفع الضريبة إلى البلد أو البلدان المنتجة للسلعة وبالمعدل المطبق فيها.
ويقتضي تنفيذ مبدأ الوجهة عن طريق فرض المعدل الصفري على الصادرات وجود آلية لتحديد تحركات السلـع والخدمـات عبر الحدود. ولكن الاتجاهات الأخيرة لتحقيق التكامل الإقليمي والتطورات التي تحققت في مجال استخدامات شبكة الإنترنت أدت إلى إحداث تعقيدات في هذا الصدد. وأدى إلغاء الحدود داخل الاتحاد الأوروبي إلى اقتراح بإدخال آلية ”المقاصة” في هذه المنطقة.
وتنشأ مشكلات خاصة في معاملة ضريبة القيمة المضافة للخدمات الدولية. ففي هذه الحالة لايمكن استخدام ضوابط الحدود لمراقبة التدفقات الدولية، ويمكن ألاّ يعرف بشكل واضح ومحدد اسم البلد الذي يتوقع أن يحدث فيه الاستهلاك. ويشير تقرير صدر مؤخرا عن منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إلى بعض القضايا المهمة بشأن توريد الخدمات والبنود غير المنظورة عبر الحدود، كما يشير إلى عدم وجود مبادئ متعارف عليها دوليا في هذا المجال. وبالنظر إلى النمو المطرد في تجارة الخدمات، فسوف تصبح هذه المشكلات أكثر أهمية في السنوات القادمة.
ولهذه الأسباب، يصبح التطبيق التقليدي لأساس الوجهة أكثر صعوبة مع تزايد تجارة الخدمات والبنود غير المنظورة بدلا من السلع، ومع تزايد أعداد البلدان التي تشكل تكتلات تجارية إقليمية و/أو تحد من الإجراءات الجمركية التقليدية (أو تفشل في تنفيذها بنجاح). وكما يرجح أن تخلص إليه التحليلات الجارية في هذا الصدد لدى منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، استنادا إلى التقرير المشار إليه أعلاه، فمن غير المرجح، بالرغم من صعوبة هذه القضية، أن يكون الحل الأمثل لها هو التحول إلى أساس المنشأ وإنما التركيز على الأساليب المختلفة لتنفيذ أساس الوجهة في التجارة على النحو الموضح آنفا.
وتتفاقم المشكلات في حالة البلدان النامية وبلدان التحول الاقتصادي، ذلك أن فرض معدل صفري على الصادرات يعني ضرورة توفير أسلوب ملائم لرد المسدد بالزيادة تحت حساب ضريبة القيمة المضافة على مدخلات الإنتاج إلى المصدرين، وهو ما تبين أنه يفضي إلى مصاعب إدارية خطيرة، كما نعرض بالنقاش لاحقا. وسوف تزداد أهمية إيجاد أساليب لعلاج هذا الوضع مع مواصلة تحقيق النتائج الاقتصادية الملائمة لتجنب حدوث تشوهات اقتصادية. ويعتبر هذا مجالا يقتضي مراقبة التطورات عن كثب للتأكد من أن تنفيذ وتحديث ضرائب القيمة المضافة في المستقبل يواكبان أحدث النظريات ذات الصلة ويتوافقان مع واقع النظام التجاري العالمي الجديد والآخذ في التطور.
النظام الفيدرالي
أدى النجاح واسع النطاق لضريبة القيمة المضافة إلى التساؤل حول إمكانية تطبيقها كضريبة على المستوى دون المركزي في البلدان الفيدرالية، مع السماح لمستويات الحكومة دون المركزية بقدر من الاستقلال في تصميم الضريبة. ولاتوجد الآن سوى أمثلة قليلة لهذه النظم ـ لا سيما في البرازيل التي تطبق منذ وقت طويل نظام ضريبة القيمة المضافة دون المركزية على أساس المنشأ، وفي كندا منذ عهد أقرب.
وهناك تحديات جسيمة أمام تنفيذ ضرائب القيمة المضافة على المستوى دون المركزي تطرحها التجارة بين مناطق الاختصاص المختلفة في البلدان الفيدرالية، حيث يندر وجود حدود جمركية حقيقية. وكانت المشورة التقليدية هي عدم تنفيذ ضريبة القيمة المضافة على مستوى الحكومات دون المركزية نظرا لعدم وجود حدود بين مناطق الاختصاص المختلفة وبالنظر إلى مشكلات الخصم الضريبي عبر هذه المناطق. غير أن المفاهيم الحديثة تشير إلى أشكال بديلة من ضريبة القيمة المضافة يمكن أن تخفف من وطأة مشكلات كثيرة، وإن كانت كلها تتطلب وجود إدارة عليا على المستوى الفيدرالي حتى تعمل على النحو المنشود، كما تتطلب وجود معدل واحد لضريبة القيمة المضافة يطبق على المبيعات الوسيطة بين مناطق الاختصاص في البلدان الفيدرالية. وهذه قضية أخرى يرجح أن تحظى بعناية مستمرة في السنوات القادمة.
إعادة نشر محاماة نت
اترك تعليقاً