(استقلال القضاء في الأنظمة السعودية)
استقلال القضاء في السعودية منذ نشأتها كان ناشئا عن قوة شخصية في رئاسة القضاء، حيث جرت عادة الملوك السابقين أن يسندوا رئاسة القضاء إلى أحد العلماء الذين لهم ثقلهم في الدولة والمجتمع، وغالباً ما يتم تعينه بالتوافق مع السلطة الدينية، وقد بدا أن الأمر امتداد للاتفاق بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب والإمام محمد بن سعود رحمهما الله تعالى.
وقد أكسب ذلك القضاء استقلالا ناشئا عن قوة تلك الشخصية التي ترأس القضاء، وليس ناشئا عن النظام القضائي، حيث إن النظام ينص على أن رئيس القضاة يعين بأمر ملكي وأنه يعزل بأمر آخر، وليس لأي هيئة حق الاعتراض على ذلك، لكن مع أن للملك حق العزل إلا أنه جرت العادة أن الرئيس يبقى لحين الوفاة أو طلبه الإعفاء بنفسه للظروف الصحية غالباً، ومع التحديثات العدلية التي جاءت ضمن برنامج إصلاح القضاء فقد تم استبعاد الشخصيات المذكورة لغرض:
“الإصلاح” وتحويل القضاء إلى مؤسسة إلا أن الأنظمة التي صيغت لم تكن كافية في الحفاظ على استقلال القضاء فشهدنا تعديلات متسارعة في القيادات القضائية، وهي وإن كانت تصب لدى مؤيديها في مقتضيات المصلحة العامة إلا أنها تنافي المبدأ الأساس وهو استقلال القضاء، ولأجل أن يكون إصلاحنا للقضاء متفقاً مع الأصول الشرعية والمنطقية للإصلاح فإنه لا بد من تعديل الأنظمة لتضمن هذا الاستقلال من ناحيتين :
الأولى:/ من ناحية التعيين فلا يتم تعيين القيادات القضائية الخمسة إلا بناء على توصيتين من مجلس الشورى ومن هيئة كبار العلماء، والقيادات القضائية الخمسة هي: ( رئيس المجلس الأعلى للقضاء والأعضاء المتفرغون فيه ـ رئيس ديوان المظالم والأعضاء المتفرغون في مجلس القضاء الإداري ـ رئيس المحكمة العليا ـ رئيس المحكمة العليا الإدارية ـ رئيس هيئة التحقيق ولإدعاء العام ) .
الثانية:/ من ناحية العزل فلا يتم عزل أصحاب تلك المناصب إلا ببلوغ سن التقاعد وهو سن السبعين أو بحصول العجز عن ممارسة العمل بناء على قرارات المجالس القضائية .
وختاما فتلك هي بداية استقلال القضاء وأساسه، وثمت أمور أخرى نتحدث عنها لاحقا إن شاء الله، ولنثق بأن مصلحة استقلال القضاء تفوق بكثير المصالح التي نتوهمها في جعل الأمور كلها بأيدينا .
(السلطة القضائية لا مرفق القضاء)
من المبادئ التي يعرف به القضاء المستقل من غيره ، مبدأ السلطة أو الولاية القضائية ، والذي يعني أن يمارس القضاة سلطاتهم على جميع المسائل التي لها طابع قضائي دون أن يكون ثمت حاجة إلى نص على هذه الولاية بأمر أو مرسوم أو قرار ، وإن منع القضاة من النظر في الحالات ذات الطابع القضائي وإحالتها إلى غيرهم من اللجان أو مسئولي الإدارة التنفيذية أو تعليق الإحالة إلى القضاء على موافقة أي جهة كانت كل ذلك هو في حقيقته طعن في استقلال القضاء ؛ لأنه يحيل القضاء من سلطة مستقلة إلى مرفق حكومي داخل تحت غيره من السلطات.
وهذا المبدأ العالمي هو أحد مجموعة المبادئ الأساسية لاستقلال السلطة القضائية
والتي اعتُمدت في مؤتمر الأمم المتحدة السابع حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين، المعقود في ميلان في الفترة من 26 آب/ أغسطس إلى 6 أيلول/ سبتمبر 1985، ووافقت عليها الجمعية العامة في قرارها 40/32، المؤرخ 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 1985، وقرارها 40/146، المؤرخ في 13 كانون الأول/ ديسمبر 1985.وذلك في الفقرة الثالثة منه ونصها ( يمارس القضاء الولاية القضائية على جميع المسائل التي لها طابع قضائي، وله وحده سلطة البت فيما إذا كانت المسألة المعروضة عليه تقع في نطاق صلاحياته كما يعرفها القانون ).
وفي الشريعة الإسلامية يعتبر التحاكم إلى الشرع شاملا لجميع مناحي الحياة ، ومن مقتضيات ذلك بسط السلطة القضائية نفوذها على الجميع، ويتمثل هذا بحديث الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ: جَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ مَوْعُوكًا قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ” خُذْ بِيَدِي يَا فَضْلُ ” فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْمِنْبَرِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ . ثُمَّ قَالَ : ” صِحْ فِي النَّاسِ ” فَصِحْتُ فِي النَّاسِ ، فَاجْتَمَعَ نَاسٌ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلا إِنَّهُ قَدْ دَنَا مِنِّي حُقُوقٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ ، فَمَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، أَلا وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ ، وَمَنْ كُنْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ مَالا فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ) ، ووجه الاستشهاد هنا خضوعه صلى الله عليه وسلم وهو في أعظم المقامات البشرية وهو النبوة لاستيفاء الحقوق في النفس والعرض والمال ، فمن دونه من الناس والهيئات أولى بذلك .
ولا يعارض هذا المبدأ ما يذكر في أحكام الاختصاص من اشتراط الاختصاص الولائي أو النوعي أو المكاني ذلك أن المقصود هو أن يكون للسلطة القضائية ولو تنوعت ( إداري، تجاري، أحوال شخصية ..) الولاية القضائية الشاملة غير المقيدة على جميع المواضيع المتعلقة بالصفة القضائية سواء نظرت لدى القضاء الإداري أو التجاري أو غيرهما .
وإذا نظرنا إلى أنظمة القضاء في المملكة العربية السعودية نجد أنها قررت قواعد تنظيمية يمكن أن يقال إنها لا تتفق مع هذا المبدأ ومنها ما يلي :
1) قصر القضاء الإداري على نظر التظلمات المتعلقة بالقرارات الإدارية وطلب التعويض والفصل في النزاع المتعلق بالتعاقدات مع الجهات الحكومية ، مع اشتمال المطالبات الواردة من المواطنين على غير هذه القضايا مما له طبيعة قضائية ، ومنها قضايا الحسبة العامة وامتناع الجهات الإدارية من تطبيق النظام العام فيما يتعلق بمصالح المواطنين .
2) تشكيل لجان قضائية متعددة غير خاضعة للسلطة القضائية للنظر في بعض التظلمات وجعلها تابعة للسلطة التنفيذية مثل اللجنة المصرفية واللجنة الجمركية .
3) تشكيل لجان شبه قضائية يمكن التظلم ضد قرارها بطلب إلغائه فقط لدى المحاكم الإدارية لتمارس النظر في موضوع الدعوى مثل اللجان الطبية .
4) امتناع المحاكم من النظر في بعض القضايا الخاصة كالسياسية بحجة صدور توجيه عالي بذلك .
5) قصر النظر في كثر من القضايا على شرط الإحالة من الجهة الإدارية ، وعدم قبول الدعاوى إلا بذلك ، وهذا قليل ، مع أن المتعين هو قبول الدعوى وإحالتها للجهات المختصة عند الحاجة لذلك بعد قبولها .
6) استثناء قضايا الحسبة من القبول من القيد في المحكمة إلا بعد الموافقة الملكية .
وهذه الأمثلة تجعلنا نحرص على تصحيح الوضع باستكمال ما يتعلق باستقلال القضاء من هذا الجانب أخذا بشريعتنا الغراء واتفاقا مع المعايير الدولية المعتمدة في دول العالم أجمع .
د.سليمان الخميس
اترك تعليقاً