الدكــتـور الطــيب لمــنـوار : أستاذ باحث بدار الحديث الحسنية بالرباط وعدل سابق.
مقدمة :
لا يخفى أن التوثيق العدلي يلعب دورا محوريا في منظومة العدالة إلى جانب القضاء ومساعديه، باعتبار المهام النبيلة المنوطة بالعدول دينا وتاريخا وتشريعا.
فشرف العدول في شرف الشهادة التي يؤدونها أمام الله وأمام المجتمع وأمام الضمير. والشهادة بالعدل هي أشرف عمل، وأسمى هدف، وأنبل خدمة تقدم للإنسان في لحظة يكون فيها أحوج إلى العدل والحق أكثر من أي شيء آخر، من أجل ضمان حقه، أو حفظ ماله أو حماية عرضه أو صيانة نسبه.
وعلى هذا الأساس فلا جدوى من إصلاح منظومة العدالة دون التركيز على تأهيل مساعدي القضاء، وعلى رأسهم مهنة العدول التي يعتبر موضوع تأهيلها وتحديثها ضرورة تشريعية آنية، تتطلب شجاعة سياسية-مشحونة بوعي ديني وحس وطني- تضع مصلحة الوطن وحقوق المواطنين فوق كل اعتبار.
ولا يمكن صياغة أي مشروع للتأهيل، ولا الحديث عن أي إمكانية للتحديث في هذا المجال، دون مراعاة التوجهات الكبرى للمشروع إزاء خصوصية البلد، وطبيعة المعاملات، وإكراهات الواقع، وتحديات المستقبل.
ومن هذا المنطلق آثرت أن أسهم في ثراء النقاش وإبداء الرأي وإغناء الحوار حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة من زاوية تأهيل المهن القضائية بموضوع: “التوثيق العدلي بين إكراهات الحاضر وتحديات المستقبل“، مستهدفا ملامسة أهم الإشكالات الجوهرية المرتبطة بالتوثيق العدلي، وإثارة مختلف الصعوبات العملية الناتجة عن نصوص تشريعية غير سليمة، أبان الواقع العملي على محدودية تطبيقها، فضلا عن اعتماد آليات ووسائل تقليدية تتنافى ومشروع المجتمع الحداثي المأمول.
ومن أجل استكمال التصور بوضوح حول تأهيل وتحديث قطاع التوثيق يتعين وجوبا تناول الموضوع في ضوء المحورين الآتيين.
المطلب الأول: تحيين النصوص التشريعية من أجل ضمان الحقوق وجودة الخدمات
المطلب الثاني: تحديث مؤسسة التوثيق العدلي من أجل ضمان الاستمرارية ومواجهة التحديات
المطلب الأول: تحيين النصوص التشريعية من أجل ضمان الحقوق وجودة الخدمات
يجب أن ينصب الاهتمام أساسا في هذا الإطار على جوانب ثلاثة وهي:
جانب توثيق التصرفات العقارية،
جانب توثيق عقود الأسرة،
جانب أرشيف العدول.
الفقرة الأولى: توثيق التصرفات العقارية
تتوقف ممارسة التوثيق في ميدان المعاملات العقارية بشكل عام على ضرورة وجود ضمانات تشريعية، تضمن للبائع حقه في قبض الثمن بأمان، وتحفظ للمشتري حقه في حيازة الملك بسلام.
وهذه الضمانات غير موجودة في التشريع الحالي المتعلق بخطة العدالة (القانون رقم 16-03). مما يؤكد أن التعامل مع التوثيق العدلي الحالي في مجال المعاملات المالية يعتبر مغامرة حقيقية، لأن البائع يغامر بملكه حين يوقع على البيع في مذكرة الحفظ أمام العدلين في غياب أدنى ضمانة قانونية بخصوص الثمن وطبيعة الورقة المالية المقبوضة. وفي المقابل يغامر المشتري بالتوقيع على دفع الثمن أمام العدلين دون أي ضمانة تشريعية بخصوص الملك المشترى ووضعيه القانونية.
وأمام هذه الخطورة المضمرة وراء نظام توثيقي ملغوم، فإننا في الهيئة الوطنية للعدول نبرئ أنفسنا مما قد ينتج عن هذا النظام التوثيقي البئيس من مطبات، ونعتبر ما يكتنفه من مظاهر التقليد، وخاصة ارتباطه الشديد بموضوع الشهادة الدينية، ما يستلزمه من النزعة الذكورية سببا جوهريا حال دون تحديثه وعصرنته. ونغتنم هذه المناسبة الثمينة لاقتراح حلول عملية موازية، توازن بين الخصائص الدينية والمصالح المستجدة، وتتجلى فيما يلي:
أولا: ضرورة الفصل بين الكتابة والشهادة
إن اعتماد مبدأ التلقي الثنائي في نظام التوثيق العدلي يبرر التمسك بازدواجية الكتابة والشهادة، هذه الأخيرة التي كرست طابع التقليد في مهنة العدول، وحاولت دون تجاوز إشكالية المذكر والمؤنث في هذا النطاق.
ومن أجل التحرر من القيود أعلاه وإقرار مبدأ تكافؤ الفرص بين الرجال والنساء في مزاولة مهنة التوثيق العدلي بالمغرب يتعين تعديل نظام التلقي، وذلك بإقرار نظام التلقي الفردي الموازي لنظام الكاتب بالعدل المنصوص عليه شرعا، والذي يعتمد أساسا مبدأ استقلالية الشهادة على الكتابة في التوثيق. وهو النظام التوثيقي الشرعي المعمول به حديثا في معظم دول الشرق العربي وجمهورية مصر والمملكة العربية السعودية[1]. حيث يقتصر دور الكاتب بالعدل على التوثيق بالكتابة فقط، ويتولى الشهود مهمة الشهادة على التصرفات والالتزامات وفق أحكام الشريعة الإسلامية السمحة. وفي هذا السياق تنص المادة 8 من قانون التوثيق المصري رقم 1947/68 الجاري به العمل منذ يناير 1988 على أنه “لا يجوز توثيق أي محرر إلا بحضور شاهدين كاملي الأهلية مقيمين بمصر لهما إلمام بالقراءة والكتابة ولا صالح لهما في المحرر المطلوب توثيقه ولا تربطهما بالمتعاقدين أو الموثق صلة مصاهرة أو قرابة لغاية الدرجة الرابعة”.
وهكذا فلو تم إقرار العمل بنظام الكاتب بالعدل المقرون وجوبا بشهادة الشهود، سنكون حينئذ قد وضعنا حدا ناجعا لإشكالية تأنيث الوثيقة العدلية، وسنكون قد فتحنا بابا واسعا أمام النساء بالمغرب لمزاولة مهنة التوثيق العدلي بدون أي إنكار مجتمعي أو وجود حرج ديني. لأن الكاتبة بالعدل سيقتصر دورها على التوثيق فقط، أما الشهادة التي هي مبعث الإشكال فسيتولاها شهود العقد على منوال النص التشريعي المصري المذكور أعلاه.
ثانيا: ضرورة تمكين العدول من آلية حفظ الودائع
يجب تمكين العدول من حق فتح حساب خاص لإيداع ودائع المتعاقدين تحت إشراف مؤسسة مالية تابعة للدولة، دون أن يكون للعدول حق السحب ولا حق قبض الثمن نقدا. بحيث يقتصر دور العدل على التوثيق فقط، ويبقى حق صرف ثمن المبيع ودفعه للبائع منوطا بالمؤسسة المالية الوسيطة، بحيث لا تسلم (المؤسسة المالية) الثمن للبائع إلا بعد اكتمال جميع الإجراءات، واستيفاء جميع الواجبات اللازمة التي بموجبها أصبح حق انتقال الملك إلى المشتري مضمونا ومؤمنا ومجردا من شبهة المغامرة أو المخاطرة.
وبالنسبة للعمليات الجاهزة المنصبة على العقارات غير المحفظة، والتي يكون فيها البائع مليء اليد جاهزا لأداء الثمن وما عليه من التزامات، بحيث يكون قد أدلى بما يفيد أداءه لجميع الضرائب المترتبة على العقار محل التفويت، ويكون قد أحضر جميع الوثائق المشروطة. وفي المقابل يكون المشتري كذلك جاهزا ومستعدا لأداء الثمن كاملا فورا. فإننا بخصوص هذه الحالة نقترح أن يؤدى الثمن وجوبا عن طريق شيك البنك، أو شيك بنكي (عادي) غير قابل للتظهير ومؤشر عليه من طرف المؤسسة البنكية، وتكون العملية على الشكل الآتي:
“حيث يسلم البائع الشيك بالمواصفات المذكورة أعلاه إلى العدل الموثق تحت مسؤوليته قبل الشروع في توثيق العقد، وبعد تفحص العدل للشيك والتأكد من الجهة الساحبة والمسحوبة، والاتصال إن اقتضى الحال بالوكالة البنكية الصادرة للشيك للاطمئنان على سلامة الشيك والجهة الموقعة والإطلاع على ظروف الحال، وبعدئذ يشرع العدل في عملية التوثيق مع تضمين مراجع الشيك في العقد، وبعد توقيع المتعاقدين على العقد بحضور شاهدين من عامة المسلمين، يسلم العدل موجزا من العقد إلى البائع مجردا من توقيعات الأطراف من أجل التصريح بالأرباح العقارية، ولا يتسلم البائع الشيك من العدل الموثق إلا بعد مرور أجل يتجاوز 20 يوما حماية لحقوق المشتري وضمانا لمستحقات الدولة”.
الفقرة الثانية: توثيق عقود الأسرة (الزواج والطلاق)
نتناول في هذه الفقرة التمظهرات التالية:
أولا: إجراءات عقد الزواج
إن الظروف الحالية التي يتم فيها الحصول على أذونات الزواج من أقسام قضاء الأسرة، والإجراءات المصاحبة لذلك لا تشرف العدالة ولا تخدم مصلحة المواطنين. فلا يعقل أن يتوجه يوميا عدد من أفراد الأسرتين (الخاطب والمخطوبة) لا يقل عن أربعة أو خمسة أشخاص إلى قسم قضاء الأسرة من أجل إيداع ملف الزواج صباحا، ثم يعودوا مساء ثلاثا ورباعا لسحب الإذن، أو لإبلاغهم من طرف الموظف خبر رفض القاضي طلب الإذن بالزواج بسبب خطأ مادي أو في إحدى الشواهد الإدارية المرفقة أو شيء من هذا القبيل.
وعليه، فبالرغم من نجاعة الفصل 65 من مدونة الأسرة الموجب للإذن بتوثيق الزواج لما فيه من الحماية القانونية لمؤسستي الزواج والعدول معا، فإنه ينبغي عند تنزيل مضمون النص على الواقع مراعاة كرامة عموم المواطنين والأخذ بأيديهم والرفق بهم، بدلا من الاستخفاف بهم مع قلة ذات اليد بإلزامهم بالذهاب والإياب إلى المحاكم من أجل الحصول بمشقة على الإذن بالزواج. هذا الإذن الذي لا نرى مانعا أن يحصل عليه العدول بوصفهم مساعدي القضاء لما يتوفرون عليه من مؤهلات فحص الوثائق والشواهد الإدارية اللازمة للزواج، تيسيرا على المواطنين الراغبين في الزواج، وتخفيفا للعبء على قضاء الأسرة.
وعلى هذا الأساس نقترح بهذا الخصوص أن يسند أمر تجهيز ملف الزواج إلى مكاتب العدول، ويعهد إليهم حفظ وثائق الملف بعد التأشير عليه من طرف قاضي الأسرة المكلف بالزواج، ويحتفظ بمحكمة الأسرة بنظير رسم الزواج وبصورة طبق الأصل من الإذن بالزواج.
ثانيا: إجراءات الطلاق
إن تخويل المحكمة حق الإشراف على إجراءات الطلاق أمر محمود وعمل يحسب من حسنات المشرع الأسري الحديث، لاسيما وأن الأصل في إجراءات الطلاق هو التشديد والتضييق، عكس إجراءات الزواج الأصل فيها هو التيسير والتسهيل. إلا أنه لما كان مكتب العدول أول مرفق قضائي (أو شبه قضائي) يعرفه الخاطبان، ثم يعاودان زيارته ويترددان عليه مثنى وفرادى وهما زوجان سعيدان، فلماذا لا يكون هذا المرفق محلا لجلسة الصلح والوئام حين يختصمان؟ لعل أحد العدول يكون أبلغ أثرا في نفس الزوجين لما يتميز به العدول من ثقافة دينية، ومهارة التواصل مع المتعاقدين، بوصفهم سرة أسرارهم (المتعاقدين)، وشهودا مستأمنين على التزاماتهم.
ومن هنا أقترح ضرورة تأهيل مكاتب العدول لتكون مرافق عمومية (شبه قضائية) متميزة، يلجأ إليها المتخاصمون ويوقع فيها المتصالحون، وتحرر فيها محاضر حسم النزاع بين مختلف المتنازعين، فيكون بذلك مكتب العدول مرفقا للوساطة والصلح بامتياز.
الفقرة الثالثة : أرشيف العدول واستخراج النسخ.
إن الأرشيف المتكون من الوثائق العدلية والشواهد المرتبطة به، أو الأرشيف الناتج عموما عن شهادة العدول، سواء كانت أصلية أو لفيفية أم علمية يعتبر قانونا من قبيل الملكية الفكرية للعدول، لا ينازعهم فيها منازع ولا مشاكس، ما داموا هم الذين كانوا وراء إنتاجه وإليهم يرجع فضل وجوده. وهذا ما كرسه القانون رقم 69-66 المتعلق بالأرشيف الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 167-07-1 بتاريخ 30 نوفمبر 2007 حيث نصت المادة الثالثة منه على ما يلي: “… وتشمل الأرشيف العامة كذلك الأصول والفهارس التي يكونها الموثقون والعدول وسجلات الحالة المدنية وسجلات مصلحة التسجيل”[2]. وبموجب هذا النص الصريح يكون المشرع المغربي قد قطع دابر النزاع في الموضوع، حيث لا يحق لأي جهة كيفما كانت أن تترامى على حق العدول المشروع في استخراج النسخ العدلية من أرشيف محكمة التوثيق أو من أرشيف مصلحة التسجيل أو من المحافظة العقارية.
ولما كانت الوثيقة العدلية تحمل اسم العدلين ابتداء وتحمل توقيعهما انتهاء، وكان مضمونها يتكون من شهادة العدلين، وشكلها مصوغا بصياغة العدلين، والمسؤولية إزاءها يتحملها العدلان، شأنها شأن العقد التوثيقي المتداول في العالم المعاصر، الذي يحرره ويوقعه الموثق، ويتحمل مسؤوليته الموثق، ويتولى أمر تسليم النظائر واستخراج النسخ من الأرشيف، من أجل هذا كله كان حق استخلاص واجب الدمغة المفروضة على النسخ العدلية حقا مشروعا لفائدة الهيئة الوطنية للعدول بقوة القوانين الحالية (القانون رقم 16-03 المتعلق بخطة العدالة المطلوب تحيينه، والقانون رقم 49-00 المتعلق بمهنة النساخة الآيلة للزوال لا محالة، والقانون رقم 69-99 المتعلق بالأرشيف اللازم تنفيذه)، وبقوة ما سيأتي من القوانين التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتنكر لحقوق العدول المكتسبة والمشروعة.
المطلب الثاني: تحديث مؤسسة التوثيق العدلي من أجل ضمان الاستمرارية ومواجهة التحديات
لقد بات مؤكدا أن تحديث قطاع التوثيق العدلي أصبح ضرورة اجتماعية بعدما كان مطلبا مهنيا، ذلك أن توثيق الحقوق والالتزامات يعتبر مظهرا من مظاهر الرقي فقي السلوك المعاملاتي في المجتمع، أو بالأحرى مظهرا من مظاهر العدالة الاجتماعية بصفة عامة باعتبار الوثيقة المحكمة شريعة عادلة ضابطة لسلوك المتعاملين وحافظة لعهود المتعاقدين والتزاماتهم.
ونظرا لأهمية التوثيق العدلي في المجتمع كان لزاما أن يحظى بعناية فائقة من طرف المشرع، وتعطى له الأولوية اللازمة عند كل إصلاح.
ومن هذا المنطلق يبدو أن الوثيقة العدلية في أمس الحاجة إلى هذه الأولوية التشريعية، لكونها لا زالت وثيقة تقليدية شكلا ومضمونا، تتنافى جملة وتفصيلا مع مطلب الحداثة المنشودة، وتتجافى قلبا وقالبا مع الخصائص التي تتوفر في العقد التوثيقي العالمي.
لذا أصبح التحديث ضروريا لمهنة العدول إذا ما أريد لها البقاء والاستمرارية في ظل التطور الملحوظ للمعاملات المعاصرة.
وعليه يجب أن يشمل التحديث كل المستويات بدءا من تجديد الإرادة السياسية، ومرورا بتحديث الآليات والوسائل والتقنيات، وانتهاء بإحداث جهاز توثيقي متكامل ومستقل، يواكب المستجدات ويواجه التحديات، ويتجاوز كل مظاهر التقليد والإجراءات البالية العاتية.
ويمكن اختزال الكلام على المستويات المشار إليها أعلاه في النقط الآتية:
الفقرة الأولى: تحديث الآليات والوسائل والتقنيات
يجب التركيز في هذه النقطة بالذات على وجوب إعادة النظر في الوسائل المستعملة من طرف العدول عند ممارسة مهمة التوثيق، خاصة وأن هذه الوسائل تشكل مظهرا تقليديا عاتيا وخطرا حقيقيا على المتعاقدين وعلى العدول أنفسهم، وأخص بالذكر ما يلي:
أولا: مذكرة الحفظ
وهي بمثابة اللوح المحفوف بالألغام، يدبج فيه العدل المتلقي بخط يده بطريقة مباشرة ما يسمعه من المتعاقدين دون مراعاة أهداف العقد الرسمي الذي يجب أن يكون محكما ومضبوطا بعيدا عن أي إغفال، ومستوفيا لجميع الشروط، ومستجمعا لمختلف قواعد الشكل والمضمون، وهذا لا يتأتى إلا لكاتب حاذق لم يعد موجودا في الوقت الحاضر، مما يستوجب إعادة النظر في نظام العمل بمذكرة الحفظ ضبطا للمعاملات وحماية للعدول من الوقوع في الزلات، وذلك باعتماد بدلا من مذكرة الحفظ أسلوب النظام المعمول به في جل الأنظمة التوثيقية المعاصرة. بحيث يحرر العدل موضوع الشهادة في نظائر متعددة ويسلم نظيرا منه لكل متعاقد، ولا يوقع المتعاقدان أسفل المحرر العدلي إلا بعد قراءة المضمون، وبعد أخذ رأي مستشاره القانوني إن اقتضى الحال وبحضور شاهدين مسلمين.
وبعد ذلك يتم التوقيع أسفل جميع النظائر، ثم يضع العدل شكله. على أن يجوز كل متعاقد نظيرا من العقد، ويحتفظ بنظير في مكتبه للرجوع إليه عند الحاجة. ولا بأس أن يكون للعدل كناش مفهرس يسجل فيه ملخصات العقود الجاهزة.
وبهذه الطريقة يمكن التوفيق بين التوثيق الشرعي للتصرفات والالتزامات وفق أحكام الشريعة الخالدة وبين مسايرة تطور المعاملات وأنظمة التوثيق الموجودة في العلم.
ثانيا: كناش التضمين
يعتبر العمل بكنانيش التضمين بأقسام التوثيق التابعة لقضاء الأسرة مظهرا من مظاهر التقليد، وأسلوبا قديما متجاوزا، يتنافى ومتطلبات التحديث الواجب مراعاتها مبدئيا في الوقت الراهن قبل الشروع في تنفيذ أي مبادرة تتعلق باقتراح أو تقديم أو تعديل أي قانون.
وإنما يلزم الأخذ بعين الاعتبار مبدأ مراعاة منطق التحديث من طرف المشرع الحالي من أجل أن يكون التشريع منسجما مع التوجهات العامة للمجتمع، هذه التوجهات التي أجمعت على خيار مشروع المجتمع الحداثي.
وإذا كان خيار التحديث محل إجماع وطني فإنه لم يعد مستساغا عقلا ومنطقا ومنهجا أن توجد ضمن مكونات العدالة في عصر العولمة والتكنولوجيا مهنة يدوية عتيقة يزاولها النساخ بمقتضى القانون رقم 00-49, هؤلاء النساخ ينحصر عملهم في نسخ جميع الوثائق العدلية حرفا حرفا بخط اليد في كنانيش التضمين المعدة لهذا الغرض، وليس لهذه المهنة من جدوى في حدود نظري عدا إدخال المتعاقدين في متاهات وإشكالات ناتجة عن أخطاء مادية لاحقة في عقودهم يتسبب فيها النساخ بشكل ملحوظ ومتزايد، فتضاف هذه الأخطاء إلى أخطاء العدول غير المتعمدة. حتى أصبح الشغل الشاغل للمواطن هو إصلاح الأخطاء المادية، وما يترتب عن ذلك من ضياع الوقت والمال تعسفا وعدوانا. وليس هناك من تفسير لمهنة النساخة الحالية غير العدوان والتعسف على حقوق المشهود عليهم، وواقع الحال يشهد.
وأمام هذه الحقائق الملموسة، وما خفي أعظم، يتعين وجوبا إلغاء العمل بكنانيش التضمين، وإعفاء النساخ من التضمين واستخراج النسخ. وفي المقابل يجب اعتماد نظام النظائر تحت إشراف كتابة الضبط، لما لها من الاختصاص في تنظيم أرشيف المحكمة وحق مراقبته وتحمل مسؤولية حفظه، مع تخويل العدول حق تسليم النظائر والنسخ من الأرشيف بعد مطابقتها مع الأصل، حفاظا على حقوقهم المكتسبة، وموازاة مع التشريعات المقارنة في هذا المجال.
ثالثا: خطاب القاضي
إن مشروع إلغاء خطاب القاضي لا يرمي بتاتا إلى بخس حق القضاء في الإشراف على التوثيق العدلي أو التقليص من اختصاصاته، وإنما يتجه المشروع نحو هدف صياغة قانون ينظم مؤسسة مستقلة خاصة بالتوثيق، يراعي مصلحة المتعاقدين ومصلحة الدولة على حد سواء، ويوازي في نفس الوقت أنظمة التوثيق المعمول بها في مختلف التشريعات المقارنة.
وفي هذا السياق وانسجاما مع الهدف المنشود من الإصلاح، لا يمكن الحديث عن إنشاء جهاز توثيقي مستقل ومتكامل دون فك الارتباط الحاصل بين التوثيق العدلي وقاضي التوثيق، مع أن هذا الأخير يمكن أن تحفظ له اختصاصاته بصفته قاضيا للمحاجير وشؤون القاصرين، ولكن من غير أن يكون هذا الاختصاص حائلا دون حصول الوثيقة العدلية على الصبغة الرسمية. لاسيما وأن عنصر السرعة في الإنجاز وقضاء حوائج الناس، من العوامل المحافظة على استقرار المعاملات في المجتمع.
الفقرة الثانية : تحديث الهياكل والمرافق
لا يمكن الحديث عن التحديث دون الأخذ بعين الاعتبار منطق العلاقة الجدلية بين العضو والجسم، وبين المكان والكائن. لذا كان لزاما على المشرع الحديث أن يولي بالغ الاهتمام للهياكل والمرافق إلى جانب العنصر البشري، باعتبار المكان أو المرفق عاملا محفزا على جودة الأداء وتقديم الخدمات، فضلا عن كونه دليلا ملموسا على تكريم المواطنين وحسب استقبالهم.
ومن أجل تلخيص الكلام حول ما هو كائن وما ينبغي أن يكون بخصوص تحديث الهياكل والمرافق المرتبطة بمنظومة العدالة، أكتفي بالإدلاء باقتراحات تهم الإطار المنظم للعدول ومرفق قضاء الأسرة.
أولا: الهيئة الوطنية للعدول والمجالس الجهوية
لا يخفى أن هذه الهياكل تعتبر مؤسسات اجتماعية فاعلة من شأنها أن تسهم في تنشيط الحركة الثقافية والاقتصادية في المجتمع.
ونظرا لما لها من الأهمية وما يتوقف عليها من مهام جسيمة، ينبغي أن تحظى بعناية تشريعية من أجل سن قانون يخول لها حق القيام بالأنشطة المذكورة بهدف إبراز دور العدول في المجتمع، وتكون طاقات قادرة على المشاركة في تأطير المجتمع والدفاع على الخصوصيات والثوابت على غرار المؤسسات الاجتماعية الأخرى. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يتعين إعادة النظر في القانون رقم 03-16 وصياغة قانون محفز للهيئة يخول لها حق تنظيم العدول عن طريق الإلزام القانوني بدفع واجب الاشتراك والانخراط، وإلزامهم بالامتثال لأعراف وتقاليد المهنة، وفرض الاشتغال في ظروف مشرفة ومكاتب لائقة. مع تخويل الهيئة حق ردع المخالفين وتأييدهم بوسائل ناجعة بديلة عن الزجر القضائي بخصوص علاقة العدول بهياكلهم.
أما ما يتعلق بالمخالفات المهنية للعدول التي تمس حقوق المواطنين، فيجب أن يخول للمجالس الجهوية وجوبا تحت إشراف الهيئة الوطنية للعدول حق الدفاع على كرامة العدول أمام القضاء، والأخذ باقتراحاتها ومقرراتها، بيانا للحق وكشفا للالتباس ومساعدة للقضاء ليس إلا.
ثانيا: تحديث مرفق قضاء الأسرة
يشكل قضاء الأسرة محورا رئيسا في المجتمع_، لما يتميز به من شرف الإشراف القضائي والولائي على مؤسسة الأسرة من جهة، ولما يتحمله من مسؤولية العمل على إقرار العدالة الأسرية من جهة أخرى. وانطلاقا من حجم المسؤولية الملقاة على القضاء الأسري، وبالنظر إلى ما ينبغي أن يكون عليه هذا المرفق المتميز، وما يجب أن يتوفر عليه من وسائل وإمكانات، فإنه يتعين وجوبا إحداث محاكم للأسرة مستقلة عن المحاكم العادية حتى يتسنى للمواطن الشعور بالانتماء إلى قضاء أسري غير عادي، يكون فيه العدل مقرونا بالإحسان، ويكون الحكم في نطاقه مشمولا بالرحمة.
لأجل هذا يجب أن يراعي في اختيار العنصر البشري- قضاة وموظفي وأعوانا- الذي يتولى العمل في هذا المرفق ضابط التدين بالأساس، والقدرة على الصبر والتحمل إلى النخاع، والكفاءة على استيعاب ووعي طبيعة السلوكات والمشاكل التي يعاني منها الوافدون على محكمة الأسرة، والتي هي بالتأكيد مشاكل ذات طابع خاص يجب أن ينظر إليها بمنظار خاص، ويسند أمر علاجها إلى خاصة الخاصة.
كما يجب أن يراعى في بناء محاكم الأسرة خصوصية هندسة العمران الإسلامي ، ذات طابع القداسة الدينية التي تحمل في دلالتها مؤشرات تذكر الوافدين عليها بامتثال الأخلاق الإسلامية، وتبعث فيهم نفس الحياة الهادئة، هذه الأخيرة (الحياة الهادئة) التي تعبد الطريق أمام المتخاصمين للتفكير في مآل الخصام ووضع الحد للشقاق والشنآن.
خاتمة :
لما كان النهوض بالمؤسسات الاجتماعية والالتحاق بالركب ومعانقة التطور خيارا مجتمعيا استراتيجيا، كان لزاما أن يحظى موضوع التأهيل والتحديث بالعناية اللازمة من طرف الهيئة الوطنية العليا للحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة.
ومن أجل تحقيق الأهداف المرجوة من هذا الإصلاح أقترح ما يلي:
يحتم وجوبا نهج سياسة تشريعية جادة وفاعلة، تضع ضمن أولوياتها تفعيل مبدأ الحوار المسؤول، وتتحلى بمسؤولية الالتزام، وتعتبر الهيئات المهنية شريكا فعليا في صناعة القرار، وليس مجرد طرف استشاري الغاية منه ملء الفراغ ومغازلة الديمقراطية،
ضرورة اعتماد منهجية تشاركية بين جميع الفاعلين في حقل العدالة من أجل اقتراح حلول عملية ناجعة، تسهم في صياغة قوانين متكاملة، وتساعد على إقرار عدالة اجتماعية شاملة،
تكريس مبدأ الاستقلالية الكاملة للمؤسسات الفاعلة في حقل العدالة،
ضرورة مراعاة مقتضيات التشريعات المقارنة قبل سن أي قانون من أجل تعبيد الطريق مسبقا، والتمهيد لاتفاقيات دولية مستقبلية في مختلف المجالات المتعلقة بالقضاء ومساعديه،
ضرورة تجاوز كل مظاهر التقليد في قطاع العدالة-وخاصة مهنة العدول- انسجاما مع خيار التحديث المعقلن والمنضبط، ومواكبة للركب الحضاري العالمي والعولمي،
التعجيل بمقترح مشروع قانون يتعلق بمدونة التوثيق تجمع ما تفرق من الأحكام وتوحد العملي التوثيقي والقضائي.
الهوامش :
ينظر د. العلمي الحراق: التوثيق العدلي بين الفقه المالكي والتقنين المغربي وتطبيقاته في مدونة الأسرة، الطبعة الأولى 2005، مطبعة دار السلام بالرباط، ص 56.
2. منشور بالجريدة الرسمية عدد 5586 بتاريخ 13 دجنبر 2007.
نشر هذا المقال بمجلة الحقوق-العدد المزدوج 16 و 17-فيراير/دجنبر 2014.
اترك تعليقاً