إعادة نشر بواسطة محاماة نت
يهدف القانون إلى كفالة الأمن في المجتمع وتحقيق العدل بين أفراده, الذي هو فكرة مجردة تتصل بالمنطق والأخلاق دون مراعاة الظروف والملابسات الواقعية, لذلك فإن فكرة العدل واحدة في المجتمعات، أما العدالة فهي التي تراعي مثل تلك الظروف والملابسات. ولهذا تختلف المجتمعات والنظم في تحقيق فكرة العدالة بين أفراد المجتمع. وتحقيق هذه العدالة في مجتمع أو نظام معين يعتمد على الفلسفة التي يقوم عليها هذا النظام، وما إذا كانت هذه الفلسفة هي فلسفة المذهب الفردي أو المذهب الاجتماعي أو الاشتراكي. وقبل بيان موقف القانون السوري وفلسفته التشريعية والمذهب الذي استلهم أحكامه منه لابد من عرض سريع لهذه المذاهب.
فالمذهب الفردي:
يقوم على نظرة معينة للإنسان من حيث اعتباره هو محور الوجود, ويعتبر الفرد غاية في ذاته, وأن من الخطأ أن يعتبر وجود الفرد وسيلة لتحقيق غايات النوع الانساني, ذلك أن النوع الانساني لا يقوم إلا على الأفراد وبالأفراد, فالإنسان الفرد هو أساس الوجود وهو غاية الوجود في ذاته. وعليه فإن كل القيم لا بد أن يكون محورها الفرد فكل قيمة تعلي من شأن الفرد هي لدى هذا المذهب صحيحة وسليمة. وكل قيمة تنال من الفرد فهي مرفوضة وما دام الفرد سابقاً على المجتمع وأساس وجوده، فإن الفرد لا يكون وسيلة لتحقيق أغراض المجتمع وإنما العكس هو الصحيح؛ بمعنى أن يكون وجود المجتمع مبرراً باعتباره وسيلة لتحقيق غايات الفرد. ويرى هذا المذهب في المجال القانوني أنه يجب أن يعطى الفرد الحرية الكاملة فمن حقه أن يتملك ما يستطيع أن يتملكه ما دام لا يعتدي على غيره في التملك وأن حق الملكية هو حق مقدس لا يجوز تقييده أو العدوان عليه. كذلك فإن سلطان الإرادة الفردية ـ تعبيراً عن حرية الفرد وتأكيداً لها ـ يجب أن يسود العلاقات التعاقدية بين الأفراد، ويجب أن تظل السلطة بعيدة عن هذا الميدان لا تقترب منه، إلا من أجل إنفاذ سلطان الإرادة وحماية الفرد إذا تهدده خطر من أي نوع كان؛ فالعقد شريعة المتعاقدين لا يجوز نقضه أو تعديله إلا بالاتفاق. وعند تعارض حقوق الأفراد وحرياتهم يتدخل القانون لتحديد تلك الحقوق والحريات ويعمل على التوفيق بينها هذا التحديد أو التقييد هو تحديد أو تقييد متبادل بين الأفراد؛ فهو يحقق المساواة بينهم، وبناء على ذلك فإن الدولة ليس لها سوى دور سلبي تحدد الحقوق والحريات وتحميها دون أن تتدخل في الأنشطة الاقتصادية حيث تترك لمبدأ حرية العمل وحرية التداول سلطانه المطلق.
وهذا الموقف سبّب انتقاد للمذهب الفردي لمغالاته في تقديس الفرد وحريته وإطلاقه للجماعة ومصلحتها ولنأخذ أمثلة لنرى كيف تتحقق العدالة في ظل هذا المذهب في المجال القانوني فمبدأ سلطان الإرادة وهو يعني أن الإرادة والإرادة وحدها هي صاحبة السلطان الأكبر في إنشاء العقود وفي تحديد آثارها غير متقيدة في أنواع العقود التي نظمها القانون المدني والتي تعرف بالعقود المسماة وإعمال هذا المبدأ في نطاق عقد الايجار يقضي باعتبار كلاً من المؤجر والمستأجر على قدم المساواة؛ فكل منهما يتمتع بحرية مماثلة لحرية الطرف الآخر في مناقشة شروط العقد وإملاء ما يراه.. ولكن من الناحية الواقعية لا وجود لهذه الحرية وتلك المساواة؛ فأحد أطراف العقد يعد طرفاً قوياً وهو المؤجر يملك إملاء شروطه على الطرف الضعيف المستأجر.
المذهب الاشتراكي:
يراعي هذا المذهب حقيقة الإنسان في أنه كائن اجتماعي لا يعيش إلا في الجماعة ولا يرقى ولايسعد إلا بها. ولذلك يجب النظر إلى مصلحة المجتمع أولاً، فإذا تحققت سعادة المجتمع (المجموع) ورفاهيته، فإن سعادة الأفراد ورفاهيتهم تتحقق تبعاً لذلك.. وهذه هي الغاية من القانون وفقاً للمذهب الاشتراكي الذي اختلف الفقهاء من أنصاره ومشرّعيه في كيفية تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد؛ فمنهم من رأى الاحتفاظ بالملكية الفردية على أن توجه من قبل الدولة لصالح المجموع وحسب الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية المرسومة لها في القانون، والتي يجب أن لا تخرج عنها، وبالتالي القانون يتمتع بإيجابية واسعة حيث يتدخل في تنظيم جميع الروابط الاجتماعية بهدف تحقيق المساواة الفعلية بين أفراد المجتمع، ويرفع الظلم الذي يمكن أن ينشأ في هذا الصدد.. بينما يرى البعض الآخر من الاشتراكيين أن الملكية الفردية وما تؤدي إليه من جشع وتراكم رؤوس الأموال، هي مصدر كل الشرور الاجتماعية.. وكل محاولة لتغيير المجتمع من مجتمع استغلالي إلى مجتمع عادل لا يمكن أن تتحقق مع بقاء الملكية الفردية، لتحل محلها ملكية جماعية لكل وسائل الانتاج. وما قيل في تطرف المذهب الفردي يصدق في المذهب الاشتراكي الذي أهدر حقوق الفرد كلها وجعل الانسان آلة تعمل لمصلحة الجماعة.
مــوقف القانــون الســوري:
كانت الشريعة الإسلامية هي القانون المطبق في سورية قبل ظهور حركة التقنينات الحديثة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وأحكام المعاملات في هذه الشريعة الغراء لا تتشبع بالنزعة الفردية أو بالنزعة الاجتماعية على الاطلاق، وإنما هي تضع من المبادئ والقواعد ما يحقق التوفيق بين حقوق الفرد وحقوق الجماعة.. وإذا شئنا الدقة فهي ذات نزعة اشتراكية معتدلة تهدف إلى تحقيق العدالة والرفاهية للجميع.. وبالتالي، فإن تحقيق المساواة الفعلية ورفع الظلم والأضرار يعدان من مبادئها الأساسية. وعند صدور القانون المدني عام 1949حاول المشرّع الابتعاد عن المذهب الفردي والاقتراب من التيار المعتدل في المذاهب الاجتماعية أو الاشتراكية، وقد جاء في المذكرة الايضاحية للقانون المدني:
“الاتجاه الرئيسي الأخير أن القانون من ناحية ما يقوم عليه من أسس اجتماعية واقتصادية إنما يجاري نزعات عصره فلا يقف من الديمقراطية عند معناها القديم بل يماشي ما لحق بها من تطورات عميقة ستكون الآن بعد أن وضعت الحرب أوزارها أبعد مدى وأبلغ أثراً (فالقانون) لا يقدس حرية الفرد إلى أن يضحي من أجلها بمصلحة الجماعة ولا يجعل من سلطان الإرادة المحور الذي تدار عليه الروابط القانونية بل هو يوفق ما بين الفرد والفرد ولا يترك القوي يصرع الضعيف بدعوى وجوب احترام الحرية الشخصية، فليس الفرد حراً في أن يتخذ ما هيأته له النظم الاجتماعية والاقتصادية من قوة تكئة ليتعسف ويتحكم لذلك وقف (القانون) إلى جانب الضعيف ليحميه”.
ومعنى ما تقدم أن المشرّع السوري لم يأخذ بالمذهب الفردي على إطلاقه أو المذهب الاجتماعي على إطلاقه، وإنما توسط بين المذهبين، فاتخذ موقفاً معتدلاً بينهما؛ فحقق مصلحة الفرد، وحقق في ذات الوقت مصلحة الجماعة. ومن مظاهر حماية القانون المدني للفرد وتحقيق مصلحته أنه أفسح مجالاً للحرية الفردية، سواء في نطاق العقود أو الملكية؛ ففي نطاق العقود احترم المشرع مبدأ سلطان الإرادة بالرغم من القيود العديدة التي أوردها المشرّع على هذا المبدأ.. فلا يزال الفرد حراً أن يتعاقد أو لا.. كما لازالت لإرادته سلطانها في مجال تحديد آثار العقد. وفي نطاق الملكية قفز التقنين الجديد قفزة واسعة في جعل الملكية وظيفة اجتماعية أكثر منها حقاً فردياً. وقد تضمنت النصوص الخاصة بحق الملكية بعض القيود لجعل هذا الحق وظيفة اجتماعية، فأوجبت المادة 776 من القانون المدني في الفقرة الأولى منها: “على المالك ألا يغلو في استعمال حقه إلى حد يضرّ بملك الجار”.
وهذا الاتجاه الاشتراكي المعتدل الذي بدأ المشرع السوري يتبناه في سلوكه، تأيد بعد ثورة الثامن من آذار عام 1963، والحركة التصحيحية عام 1970 التي جعلت أحد أهدافها إقامة العدالة الاجتماعية والقضاء على الإقطاع والاحتكارات وسيطرة رأس المال. ولقد كان صدى هذا الاتجاه في قوانين الإصلاح الزراعي وقوانين العمل وقوانين الايجار.
وفي ظل الدستور الحالي نلمح اتجاهات المشرّع السوري نحو المذهب الاشتراكي الاجتماعي المعتدل؛ فطبقاً للمادة الأولى من الدستور تعتبر الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية. ويقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الانتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل. وتهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة وذلك حسب المادة 13 من الدستور.
ونلاحظ أن المشرّع قد كرس هذا النهج الاشتراكي المعتدل عندما لم يهدر حق الملكية كما هو الحال في المذهب الشيوعي؛ فأقرّ في المادة الخامسة عشر من الدستور الملكية الخاصة والجماعية وجعلها جميعاً مصانة وفق أسس محددة بالدستور والقانون.. مما يجعل النظام القانوني السوري نظاماً قائماً على فلسفة التوسط بين المذهبين الفردي والاشتراكي بعد أن استلهم مبادئ الشريعة الإسلامية وجعلها مصدراً رئيسياً للتشريع.. ومعنى ذلك، أن فلسفة التشريع السوري ستقوم من الآن فصاعداً على مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة الحقّة؛ أي على الجمع بين مزايا المذهب الفردي ومزايا المذهب الاجتماعي على حد سواء، وطرح ما لحق بكل منهما من مساوئ.
اترك تعليقاً