مقال قانوني حول آليات التفاوض في القانون الدولي

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

شهدت بدايات القرن العشرين تطوراً في العلاقات الدولية وإنشاء أجهزة دولية للسهر على السلام العالمي وحل المنازعات بالوسائل السلمية. ومن أهم هذه الوسائل التي يمكن الاستعانة بها لفض أي نزاع هي المفاوضات. حيث تجري عملية المفاوضات بين أشخاص يطلق عليهم اسم المندوبين أو الممثلين أو المتفاوضين، وهم يُزودون بوثائق تمنحهم الصلاحيات المطلقة وتسمى وثائق التفويض التي تدبج بطريقة رسمية خاصة، وهي تحمل طابع الدولة الذي يرمز إلى سيادتها واستقلالها، وتحمل أيضاً تواقيع رئيس الدولة ووزير الخارجية. ويقدم المندوب وثيقة تفويضه أي وثيقة صلاحياته إلى الهيئة أو السلطة التي سيتفاوض معها، ويتأكد كل متفاوض من حيازة المتفاوضين الآخرين هذه الوثيقة.

ووثيقة التفويض الممنوحة تخول عادة إمكان التفاوض والتوقيع غير أنها تحرمه أحياناً من صلاحية التوقيع وتزوده بإمكان التفاوض فقط؛ فإذا وقّع في هذه الحالة متجاوزاً حدود تفويضه فإن توقيعه لا يلزم الدولة التي يتفاوض باسمها في شيء. ولذا فإن للكيفية التي حرر بها التفويض أهمية كبرى.

والمفاوضات يمكن أن تتم بالطريق الدبلوماسي العادي فيجتمع الممثلون الدبلوماسيون لدى دولة ما بمندوبي هذه الدولة أو الهيئة، ويناقشون معهم موضوع الخلاف أو الاتفاق، ويدبجون نصها ثم يوقعونها. وقد تتم المفاوضات بطريق المؤتمرات الخاصة التي يدعى إليها مندوبو الدول المتفاوضة، وفي هذه الحالة تنسق أعمال المؤتمر ويوضع لها برنامج أو نظام داخلي توافق عليه الدول المتفاوضة.

وعندما يتجاوز النزاع بأهميته أو حجمه أو خطره حدود الدول المتنازعة ليصبح هماً أو هاجساً مشتركاً لمجموعة دول مشاركة في منظمة دولية فليس مستغرباً أن تقوم تلك المنظمة بعملية احتضان جماعي لمسألة المفاوضات، وهذا ما يسمى بدملوماسية المؤتمرات أو الدبلوماسية البرلمانية.. كما هو الحال في المفاوضات (الحوار السياسي) بين الدولة السورية والمعارضات حيث قامت الأمم المتحدة بإصدار القرار الدولي رقم 2254 والذي حدد الخطوط العامة للحل السياسي في سورية وكلفت السيد ستيفان دي مستورا التنسيق بين المتفاوضين.

وتبدأ المفاوضات عادة بدعوة توجهها إحدى الدول إلى دولة أخرى أو أكثر وقد تكون مصحوبة بمشروع اتفاق أو معاهدة أو قد تكون مجرد دعوة لتبادل وجهات النظر حول موضوع معين تتم المفاوضة على أساسه، والمسؤول المختص بالمفاوضة هو في الأصل رئيس الدولة.. غير أنه اليوم نادراً ما يقوم بهذه المهمة. ويحق لرئيس الوزراء أو وزير الخارجية التفاوض نيابة عن الدولة ودون حاجة إلى استصدار تفويض خاص له من رئيس الدولة. ويجوز أيضاً لأي وزير أو دبلوماسي أو موظف فني مزود بتفويض صريح ومكتوب صادر عن رئيس الدولة تمثيل الدولة في مرحلة المفاوضات. وتنص المادة السابعة من اتفاقية قانون المعاهدات للعام 1969 على منح رؤساء البعثات الدبلوماسية صلاحية التفاوض مع الدول، يمثلون دولهم لديها دون حاجة إلى تفويض خاص بذلك. كما تنص على منح هذه الصلاحية لممثلي الدول لدى المنظمات الدولية بالنسبة إلى المعاهدات المقترحة في إطار المنظمات المعتمدين لديها.. وهو ما فعلته الدولة السورية عند تكليف الدكتور بشار الجعفري مندوب سورية الدائم لدى الأمم المتحدة رئاسة الوفد إلى مؤتمر جنيف3 كون الاقتراح بالتفاوض صادر من الأمم المتحدة.

وبما أن المفاوضات هي مشاورات ومباحثات تجري بين الأطراف المتفاوضة بقصد تسوية خلاف أو نزاع قائم بطريقة ودية ومباشرة، فإنها تشكل جزءاً من عملية صنع القرار الوطني في الدولة وتأتي التسوية لأي نزاع انعكاساً للاتصالات بين صانعي القرار في الدول المتنازعة وتعبيراً عن اقتناعهم بإمكان حل النزاع بطريقة ودية ومفيدة لجميع الأطراف.

ويؤكد البعض أن نجاح المفاوضات يتوقف في كثير من الأحيان على مدى ما يقدمه الأطراف من تنازلات.. ولهذا فإن فن التفاوض يفترض توافر قدرٍ من المرونة لدى الأطراف، يساعد على مراعاة حقوق كل طرف.. فلا يدخل أحدهم في المفاوضات بهدف الحصول وحده على كل المكاسب والامتناع عن تقديم أي تنازل كما هو الحال مع المعارضات السورية التي تعتقد أنها ذاهبة لجنيف لتوقيع وثيقة استلام السلطة والتنازل عنها.

وبالإضافة إلى المرونة فإن المفاوضات يجب أن تتميز بالسرية والكتمان لإبعادها عن التأثيرات الخارجية، وبسرعة الإجراء والإنجاز لتهدئة التوتر الذي ساد العلاقات بين الأطراف. وتبدأ المفاوضات عادة بعرض كل طرف موقفه من جوهر النزاع طارحاً حججه وأسانيده ثم يجري البحث عن أرضية مشتركة تصلح منطلقاً لإيجاد نوع من التقارب أو التفاهم المتبادل. وكثيراً ما تدخل الوعود والضغوط كعوامل للتأثير في أطراف المفاوضات، ويمكن أن ترقى الضغوط إلى التهديد بإلحاق الضرر والدمار بالطرف الآخر.

وقد استخدمت الولايات المتحدة هذا الأسلوب مع فيتنام الشمالية عندما عمدت أثناء المفاوضات إلى شن غارات وحشية بقصد التوصل إلى إيقاف الحرب التي كانت وبالاً على واشنطن. واستخدمت إسرائيل بعد اجتياح لبنان في عام 1982 هذا الأسلوب خلال المفاوضات التي كان يجريها المبعوث الأمريكي فيليب حبيب من أجل انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت.. وأيضاً ما صرحت به الخارجية الروسية من أن المنظمات الإرهابية في سورية بإيعاز من الخارج صعدت من عملياتها الإرهابية بشكل غير مسبوق قبل بدء المفاوضات.

وإذا كان الغرض الأساسي من دخول المفاوضات هو التوفيق بين المصالح المتضاربة، فإن هناك أمور ومراحل يجب أن تسبق إتمام التوفيق، منها؛ تحديد طبيعة النزاع وحصر أسبابه والتأكد من ملاءمة الظروف لإجراء التفاوض واختيار الوقت المناسب لبدء عملية التفاوض وتهيئة الوثائق والمستندات المتعلقة بالنزاع ودراستها بجدية ورزانة قبل بدء المفاوضات.

فالمفاوضات فن له أصوله وقواعده والدول لا تدخل عادة في مفاوضات معينة إلا عند توافر شرطيين أساسيين: وجود نزاع حقيقي وملح حول مسألة محددة ووجود مصلحة مشتركة لأطراف النزاع في إيجاد تسوية له. وليس هناك فترة زمنية محددة لإنجاز المفاوضات فهي قد تنتهي بسرعة وخلال ساعات أو أيام وقد تطول أحياناً أعواماً.. فإنهاء الحرب الكورية في الخمسينات تطلب عامين من المفاوضات وعقد مئات الاجتماعات. وليس لإجراء المفاوضات شكلاً محدداً لا تستقيم المفاوضات إلا بإتباعه، فالأمر متروك للمتفاوضين.. وقد تحصل المشاورات والمباحثات شفهياً.. أو تجري كتابة بتبادل المذكرات.. وقد يفضل الأطراف الانكباب عليها وإنجازها بمفردهم دون تدخل طرف ثالث.. أو ترتئي عقد مؤتمر دبلوماسي لمعالجة موضوع النزاع على صعيد أوسع.

وعلى المفاوض إن كان وفداً أن يكون فريقاً متضامناً متفاهماً ومنسجماً وقادراً على أداء مهمته بروح معنوية عالية، متسلحاً في كل وقت بقوة الحجة والإقناع، ومبدياً للطرف الآخر حسن النية وصدق الرغبة في التوصل إلى التسوية المنشودة. ومن مستلزمات النجاح في المفاوضات وضوح الرؤية وتوافر الحس الوطني وتفضيل المصلحة العامة على الخاصة. وأثبتت التجربة أن هذه الصفات تمتلكها الدبلوماسية السورية التي تتمتع بمهارة تمكّنها أن تبدع أفضل الحلول والصيغ.

وانتهاء المفاوضات بنجاح يسفر عن إصدار وثيقة (تسمى بياناً مشتركاً) موقعة من الأطراف تتضمن شروط الاتفاق أو البنود الأساسية للتسوية.. ومن الضروري أن يكون المفاوض في هذه المرحلة مزوداً بتفويض من الهيئات أو الدول التي يمثلها. ولكن ما يجري عادة في مثل هذه الحالات هو اكتفاء المفاوض بإبداء موافقته المبدئية (أو التوقيع بالأحرف الأولى) على الاتفاق الذي تم والتعهد بعرضه على السلطات المختصة في دولته. وتنص الدساتير في الدول الديمقراطية على وجوب موافقة البرلمان على المعاهدات التي توقعها السلطة التنفيذية وهذا هو الحال لدينا في المادة خمس وسبعون من الدستور الحالي.

أما في حال فشل المفاوضات، تصدر الأطراف المعنية منفردة أو مجتمعة بياناً تعترف فيه بالإخفاق.. غير أن المتعارف عليه أن تترك الأطراف – إلا إذا كان في نيتها اللجوء إلى الوسائل غير الودية – الباب مفتوحاً لمعاودة التفاوض أو للإفساح لطرف ثالث لتقريب وجهات النظر.

وختاماً وبعد هذا العرض لآلية التفاوض في القانون الدولي، نجد أن الدولة السورية احترمت المواثيق الدولية والأعراف المتبعة بالتفاوض بحذافيرها.. وما كان تصريح السيد وزير الخارجية وليد المعلم في الهند بأننا نريد معرفة مع من نتفاوض فلا يمكن التفاوض مع أشباح، إلا تعبيراً من الدولة السورية عن احترامها للآليات الدولية في التفاوض وصدق نواياها في حل سلمي للأزمة السورية. ولكن ثمّة سؤال يطرح نفسه وهو ممن سوف تأخذ وفود المعارضات التفويض ومن سوف يلتزم بما يتعهدون به إذا حصل اتفاق؟!

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.