أثر الغلط والجهل في القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
عرف الأقدمون منذ أرسطو التمييز بين درجات المعرفة فتحدثوا عما يسمى بالجهل السلبي أي الغياب الكامل, والجهل الايجابي أو جهل الترتيب أو التنظيم، وهو يقوم عندما يكون لدى الشخص حكم في موضوع لا يتطابق وحقيقة الأمور. وقد ساد هذا الفكر الأرسطوطاليسي على كل الفكر اللاحق, ولكن ضبطت الاصطلاحات فقيل الجهل والغلط؛ فالجهل هو التخلف الكامل للعلم، والغلط هو التصوير غير الصحيح، أو الفكرة الخاطئة عن المسألة.
وعبّر الفقيه سافيني عن الفكرتين بقوله: “يقال الغلط عن الحالة الذهنية التي تكون فيها الفكرة الحقيقية مبهمة ومحجوبة بفكرة خاطئة. والنقطة الجوهرية هنا هي غياب الفكرة الحقيقية لأنه من الممكن ألا يكون لدى الشخص فكرة عن شيء دون أن تكون لديه فكرة خاطئة عنه. وهذا هو الفارق الأساسي بين الغلط والجهل”. وأضاف في موضع آخر: “يمكن أن تنقصنا الفكرة السليمة عن الشيء سواء لأنه ليس عندنا أي فكرة، أو لأن عندنا فكرة خاطئة عنه؛ في الحالة الأولى يكون الجهل وفي الحالة الثانية يكون الغلط؛ “فالغلط إذن هو الاعتقاد بغير ما هو كائن، والجهل هو عدم معرفة ما هو كائن, ولكن إذا كان هذا التمييز سليماً في النطاق النفسي, فهل يبقى سليماً على الصعيد القانوني؟
بمعنى؛ هل يرتّب القانون أثراً على التمييز بين الحالتين يبرر الإبقاء عليه، أم أنه من الأسلم أن يختفي هذا الازدواج لتشملهما فكرة واحدة، وذلك على اعتبار أنه يكاد ينعقد اجماع الفقه على ضرورة انطواء الفكرتين تحت فكرة واحدة, وإن اختلف الفقهاء في مسألة اصطلاحية بحتة، هي؛ أي التعبيرين يجب أن يحتوي الآخر؟! ويرى العلامة سافيني أنه “يجب من أجل زيادة الدقة والضبط عدم التحدث إلا عن الجهل لأن هذه الكلمة تعبر في عموميتها عن حالة نقص الفهم”.
ويُبرز راد يلسكو أن كلمة الجهل بكونها أكثر عموميةً، تشمل أيضاً معنى الغلط. ويفضل البعض الآخر الحديث عن الغلط على اعتبار أن هذه الصيغة هي الأكثر أهمية من الناحية العملية، ذلك أن من يجهل الصفة غير المشروعة لفعل، يعتقد ضمناً في صفته المشروعة فيخطئ. ويرى البعض أن الغلط القانوني يمكن أن يتجه إلى قيمة النص القانوني وليس إلى مضمونه فقط، وهذا ما يحدث عندما يعتقد الفاعل خطأً أن القاعدة التي خالفها مخالفة للدستور، وبالتالي باطلة. فالغالبية العظمى من الفقهاء لا ترى إذن أية فوارق فيما يتعلق بالآثار القانونية بين الجهل والغلط.
ولكننا نرى أنه في قانون العقوبات الاقتصادي بالذات، تبرز أهمية الاحتفاظ بهذه التفرقة, إذ يجب أن تكون المعاملة مختلفة بين الفكرتين؛ فالغلط دون الجهل هو دائما ً الأكثر صلاحية لاعتباره سبباً مبرراً أو مخففاَ, ذلك أن الذي يجهلُ تنظيماً عليه التزام بالسعي لمعرفته بمقتضى مهنته أو نشاطه المعتاد، لا يمكن أن يُقبل عذره. ولكن إذا كان قد عمل في نفس الظروف في ظل تفسير خاطئ للنص القانوني، فإن سلوك الفاعل يمكن أن يعذر فيه إذا أثبت أنه سبق له بذل جهده للوصول إلى المعنى الحقيقي للنص القانوني من مصدر مقبول.. كأن يكون قد استطلع رأي مستشار قانوني، أو قام بالاستعلام من مكتب إداري مثلاً.. ولا نعني بذلك أن الجهل لايصلح عذراً في قانون العقوبات العام، أو الاقتصادي، ولكن الغلط هو الأكثر صلاحية بحسب طبيعة هذا الفرع من القانون.
الغلط في الواقع.. والغلط في القانون:
يسود الفقه والتشريع منذ القدم تمييزاً أصبح تقليدياً بين ما يسمى الغلط في الواقع والغلط في القانون، وهو تمييز في غاية الأهمية بالنسبة للآثار التي رتبوها على كل نوع من نوعي الغلط. فالغلط في الواقع يرد على ظرف أو حالة مادية من الظروف التي ارتكبت الجريمة فيها، وهو يؤدي في حالات معينة وبشروط، إلى نفي الركن المعنوي للجريمة، بينما في القانون يتمثل في الجهل بقانون العقوبات أو في التفسير غير الصحيح لنصوصه. وهو لا يمكن الالتجاء إليه في الدفاع بسبب قاعدة لا يعذر أحد بجهله القانون التي بمقتضاها يُفترض بالناس جميعاً العلم بالقانون. فالغلط في الواقع هو الجهل أو سوء الإدراك أو الفهم للظروف أو عناصر “الواقعة” الداخلة في تكوين الجريمة؛ أما الغلط في القانون فهو الجهل أو سوء الإدراك أو الفهم لمعنى مشروعية الفعل.
على أنه يوجد في الفقه اتجاه جديد نحو توحيد الغلط في الواقع والغلط في القانون تحت مسمى واحد. وهذا الاتجاه الحديث جدير بالتأييد لأن كل غلط في الواقع بمجرد دخوله في النطاق القانوني أصبح غلطاً في القانون؛ فالشخص على أية حال ارتكب الفعل المؤّثم وهو يعتقد خطأ أن القانون يبيحه في كلتا الحالتين.. ذلك أن العلم بالقانون يتضمن العلم بالتكييف القانوني للوقائع، والعلم بالتكييف الجزائي لها. وأكثر ميدان تبرز فيه أهمية التكييف القانوني للوقائع هو الجرائم الاقتصادية؛ فلا يتوافر القصد الجنائي مثلاً لدى من استورد أو صدر مواد يحظر القانون استيرادها أو تصديرها.. إلا إذا علم بهذا الحظر من القانون الذي يفرضه, ومن وجود عقاب جنائي على مخالفته؛ فمعظم الغلط في الجرائم الاقتصادية هو غلط في القانون. أما الغلط في الواقع فليس له سوى نطاق محدود للغاية نظراً لأن قانون العقوبات الاقتصادية، قانون يحمي قواعد قانون آخر.. لذا كان نطاق هذا القانون أوسع نطاقٍ ظهر فيه التردد بين ما يعتبر غلطاً في الواقع، وما يعتبر غلطاً في القانون؛ فقد قبل البعض الغلط في قانون العقوبات الاقتصادي على أساس أنه غلط في القانون الاقتصادي، وهو قانون غير جنائي؛ فيأخذ حكم الغلط في الواقع، بينما رأى البعض الآخر أن الغلط في القانون الجمركي وقوانين الضرائب يعتبر غلطاً في قانون العقوبات.
فالقانون السوري للعقوبات تبنّى قاعدة (لاجهل بالقانون) وافترض العلم بجميع أحكام القانون الجزائي، وهذا الافتراض غير قابل لإثبات العكس، كما لا يشترط إثباته.. وأساس القاعدة عنده وغايته هو استقرار التعامل القانوني وكفالة تطبيق القانون. وعليه، عمل الشارع على ايصال النص القانوني إلى الكافة بنشره في الجريدة الرسمية، وإتاحة الفرصة للجميع للإطلاع عليه، ومعرفة أحكامه. وقد جاءت المادة 222 من قانون العقوبات صريحة في النص على افتراض العلم بقولها: “لا يمكن لأحد أن يحتج بجهله القانون الجزائي أو تأويله إياه تأويلاً مغلوطاً”. ولكن الفقرة الثانية من المادة المذكورة ترفع المسؤولية الجزائية عن الفاعل في حالتين تستثنيهما من القاعدة الأصلية وهما:
1ـ الجهل بقانون جديد إذا اقترف الجرم خلال الأيام الثلاثة التي تلي نشره.
2ـ جهل الأجنبي الذي قدم سورية منذ ثلاثة أيام على الأكثر بوجود جريمة مخالفة للقوانين الوضعية لا تعاقب عليها قوانين بلاده أو قوانين البلاد التي كان مقيماً فيها”.
إن المشكلة القانونية التي نواجهها في هذا البحث هي على وجه التحديد أثر الغلط في نفي ركن الخطأ في الجريمة الاقتصادية. وإذا كانت المشكلة في القانون العام قديمة منذ القانون الروماني، إلا أن الجهود التي بذلت لوضع حل لها لم تتوصل إلى حل مقبول حتى الآن. وإذا كانت إعادة النظر في قاعدة (لا يعذر أحد بجهله القانون) بدت ملحة في الآونة الأخيرة، فإنها في قانون العقوبات الاقتصادي على وجه الخصوص، تتمتع بوجه غريب ومعقد بل ومتناقض.. إذ بينما الرأي السائد في الفقه أن الركن المعنوي في الجرائم الاقتصادية ضعيف،
وإذ بمشكلة قبول الغلط في قانون العقوبات الاقتصادي تقرع الأذهان بشدة إلى حد أنْ قال الفقيه مارك أنسل: “إن قانون العقوبات الاقتصادية يطرح بحدة خاصة، مشكلة قبول الغلط في القانون كمبرر مبيح”.. وهذا التردد ينتج عنه حرج شديد عند القائمين على تطبيق قانون، لأنه عندما يوجد الشخص وسط عديد من القواعد المصحوبة بعقوبات جنائية ويكون القضاة المكلفون بتطبيقها يتجاهلون الدفع بحسن النية أو الجهل بالقانون، ويتمسكون بالقاعدة القانونية (لاجهل بالقانون)؛ في هذه الحال تفقد العقوبة فاعليتها وفائدتها، وكذلك المتهمون أمام المحكمة يفقدون الثقة بالعدالة الجنائية التي ترفض الأخذ بحسن نيتهم، والجمهور سوف يتلقى المحكوم عليهم بكثير من الشفقة بدل اللوم.
من هنا تبرز أهمية دور الإعلام في التوعية لأهداف السياسة العقابية والمصالح التي تهدف إلى حمايتها وذلك لتحقيق الفائدة من فرض العقوبة.
اترك تعليقاً