أثر الكذب في القانون
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
إن طبيعة النفس البشرية مجبولة على حب الذات والأنانية والأثرة. ولطالما كانت الوسيلة لتحقيق هذه الرغبات لدى الإنسان تتجلى بالاعتداء على حقوق الآخرين ومحاولة سلبها بالقوة تارة, أو بالحيلة تارة أخرى, فتثور بين الناس المشاحنات والخصومات ويتم اللجوء إلى القضاء للفصل في هذه المنازعات وفض الخصومات وإقامة العدل في المجتمع ومنع الظلم والاعتداء والاحتيال، وإعطاء كل ذي حق حقه لتسود قواعد العدالة والإنصاف.
والقاضي مثل سائر البشر، يستحيل عليه الإحاطة بحقائق الأمور التي تجري بين الأفراد، كما يتعذر عليه الإطلاع على سائر الخصومات التي تقع في المجتمع. من هنا كان لا بد من وسيلة يتوسل إليها من يلجأ إلى القاضي للمطالبة بحقه لإقناعه بصدق ادعائه. وبغير ذلك لكان قد قُضي للمدعي بمجرد ادعائه كاذباً كان أم صادقاً، باطلاً أم محقاً.. فكان الإثبات لتمييز الحق عن الباطل والصدق عن الكذب، وهذا ما روي عن رسول الله (ص) قوله: “لو يُعطى الناس بدعواهم لأدعى رجال دماء رجال وأموالهم, ولكن اليمن على المدعي”.. وفي رواية أخرى: “البيّنة على من أدعى واليمن على من أنكر”.. وفي حديث آخر: “لا يستقيم إيمانُ عبدٍ حتى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه”؛ فالكذب آفة المجتمعات؛ فهو يسبب العديد من البلايا.. فما صلحت أمة والكذب متفش بين أرجائها, وما سادت أمة إلا عندما أصبح الصدق يسود أركانها. وإذا كان الكذب خصلة من خصال معظم البشر، فما يمهمنا في هذا البحث، هو الأثر القانوني لواقعة الكذب؟
وعلى سبيل المثال، لو اشترى احدهم سيارة من شخص ولم يخبره البائع أن عليها إشارة حادث مثلاً.. أو أنّ شخصاً اشترى عقاراً ولم يخبره البائع أن عليه حق ارتفاق بالمرور، أو قال له أن المنزل يساوي قيمة أكبر، أو أنه في منطقة مرغوبة للتعامل التجاري، أو الادعاء بأن البضاعة ذات نوعية ممتازة… الخ، وغير ذلك من أفانين الكذب التي نسميها أساليب الترغيب في الشراء أو الحمل على التعاقد. فهل يعتبر الكذب هنا عيباً من عيوب الرضا التي تنال من سلامة الإرادة وصحتها؟
في الحقيقة، إن القانون لم يتطرق لأثر الكذب بشكل خاص، وإنما تمت الإشارة إلى الحِيل عند الحديث عن عيب التدليس في المادة /126/ من القانون المدني، كعيب من العيوب التي تنال من سلامة الإرادة، وعند تحديد الأسباب التي تجيز إعادة المحاكمة.. لكن الاجتهاد القضائي في سورية هو من عالج هذه المسألة بالتفصيل؛ فقد جاء فيه أنه: “استقر اجتهاد محكمة النقض على أن مجرد الكذب لا يكفي للتدليس ما لم يتبين بوضوح أن العاقد المخدوع لم يكن يستطيع استجلاء الحقيقة بالرغم من هذا الكذب، فإذا كان يستطيع فلا تدليس،( قرار /457/ أساس / 1023/ تاريخ 22/ 3/ 1998).
وفي اجتهاد آخر أنه: “لكي يمكن إبطال العقد لعلة التدليس يجب أن تكون الحيل التي لجأ إليها أحد المتعاقدين من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد.. كما أنه يكفي لاعتبار الكذب تدليساً أن يكون الكذب قابلاً للتصديق بالنسبة لبراعة الكاذب وحالة الطرف الآخر”، (قرار / 437/ أساس/ 43/ تاريخ 27/ 11/ 2000).
وعند الحديث عن إعادة المحاكمة جاء في الاجتهاد القضائي:
“إن المشرّع ارتأى أنه في حال ثبوت حلف اليمن وثبوت الكذب إعطاء الحق للمتضرر من حلف اليمين الكاذبة، مراجعة القضاء المدني للاستحصال على حكم بالتعويض فقط، ولم يجعل المشرع ثبوت كذب اليمن من أحوال إعادة المحاكمة، وإن الغش يختلف اختلافاً كاملاً عن حلف اليمين”، (قرار / 1552 أساس / 2234/ تاريخ 24/ 10/ 1999).
وفي اجتهاد آخر يقول:
“الاجتهاد القضائي مستقر على أنه لابد من أجل إعادة المحاكمة استناداً للفقرة /ا/ من المادة /241/ أصول محاكمات أن يقع من الخصوم عمل إيجابي يعتبر غشاً, فالسكوت والكتمان وإخفاء الحقيقة لا يعد غشاً”، (قرار / 1707 تاريخ 29/ 12/ 1970).
وبناء على ما تقدّم، نجد أنّ الاجتهاد القضائي لم يعتبر مجرد الكذب سبباً موجباً لإبطال التصرفات القانونية ما لم يبلغ حداً من الجسامة بحيث لولاها لما أبرم الطرف الثاني العقد، ومن خلال استعمال الكاذب طرقاً احتيالية لتضليل المتعاقد تضليلاً يحمله على التعاقد، وذلك بأن يكون المدلّس قد ألبس على المتعاقد الآخر وجه الحق، فحمله على التعاقد واختار في ذلك الطريق الذي يصلح لهذا الغرض بالنسبة لهذا المتعاقد.. وهو ما يجوز إثبات وقائعه بجميع طرق الاثبات على اعتبار أن هناك مانعاً مادياً يحول دون استحصال المدلس عليه سند خطي من المدلس.. وأن اكتشاف هذا التدليس أو الكذب لا يمكن أن يتم في حال من الأحوال وقت إبرام العقد إذ لو اكتشف أمر ذلك الكذب لامتنع المدلس عليه من التعاقد.
وعليه فإن التقادم المنصوص عليه في المادة /144/ من القانون المدني إنما هو سنة واحدة تبدأ من وقت اكتشاف التدليس أو الكذب ويترتب على تقادم دعوى الإبطال المنصوص عليها في المادة /144/ مدني زوال البطلان وينقلب العقد صحيحاً ويحدث جميع آثاره من تاريخ صدوره لأن للتقادم أثر رجعي ولا يجوز إبطال العقد بعد ذلك.
اترك تعليقاً