مقال قانوني حول اثبات الواقعة السلبية – اثبات النفي
من الشروط المسلم بها والواجب توافرها في الواقعة محل الإثبات أن تكون “محددة”.
فمما لاشك فيه أن تجهيل الواقعة يجعلها غير قابلة للإثبات لأن الإقناع لا ينصب بداهة على أمر غامض أو مبهم. ويرجع ما تقدم إلى أن أساس الإقناع هو الفهم، والفهم لا بد له من الدقة والتحديد ووضوح البيان.
وهو ما يعبر عنه بعض الشراح بقولهم أن الواقعة يجب أن تكون “معينة” أو “محصورة”, وهذه كلها مترادفات تؤدي إلي نفس المعني.
وهكذا فإنه إذا كانت الواقعة محددة فإنها تصلح لأن تكون محلاً للإثبات, ويستوي في هذا أن تكون واقعة إيجابية أو أن تكون واقعة سلبية.([1])
فإثبات عقد أو إثبات فعل ضار كمصدر للحق هو إثبات لوقائع إيجابية, أما الوقائع السلبية المحددة فيمكن إثباتها بإقامة الدليل على واقعة إيجابية منافية لها([2]), ذلك أن كل واقعة سلبية محددة تتضمن واقعة إيجابية مضادة لها وإثبات الواقعة السلبية إنما يكون بإثبات الواقعة الإيجابية المضادة لها.
وعلي ذلك فالواقعة محل الإثبات هي الواقعة المحددة دون الواقعة غير المحددة التي لا تصلح لأن تكون محلاً لأي إثبات ومن أمثلة الوقائع غير المحددة:
– أن يدعي أحد الأشخاص الملك المطلق (أي دون بيان سبب التملك) أو يقول أنه مالك بعقد ولا يحدد ماهية ذلك العقد هل هو عقد شراء أم هبة …الخ
– أو أن يدعي أحد الأشخاص مرض الموت دون أن يبين ماهيته
– أو أن يدعي وضع اليد دون أن يحدد عنصره الزمني أي مدته وتاريخ بدايته.
فمثل هذا الغموض كفيل بان يجعل الإدعاء مستعصياً على الإثبات ويؤدي بالتالي إلى رفض الدعوى لعدم إثبات المُدعي لدعواه.([3])
وإلى هنا نجد أن هذا الشرط لا صعوبة فيه بل ويكاد أن يكون بديهياً.
وحقيقة الأمر أن البلبلة إنما ثارت بسبب ما تردد في بعض المؤلفات من أن “إثبات النفي” مستحيل، لأن النفي أمر غير محدد.
وهذا الرأي ناتج عن خطأ وقع فيه بعض الشراح في فهم كلمة “النفي”, حيث لم يفهمونها على معناها الحقيقي وهو الإنكار بل فهموها علي معني الأمر السلبي أو الواقعة السلبية.([4])
ولعدم الوقوع في هذا الخطأ في الفهم يجب الاحتفاظ بالفرق بين تقسيم الوقائع إلى إيجابية وسلبية وتقسيمها – أي الوقائع – إلى محددة ومطلقة, فليست كل واقعة إيجابية محددة, كما لا تعني سلبية الواقعة أنها دائمة مطلقة.([5])
وفي هذا الصدد ذهب الدكتور عبد الودود يحي إلى القول بأن إثبات العقد أو الفعل الضار هو إثبات لوقائع إيجابية أما الوقائع السلبية المحددة فيمكن إثباتها بإقامة الدليل على واقعة إيجابية منافية لها،([6]) فإن صعوبة الإثبات لا تكمن في كون الواقعة سلبية ولكن تكون الصعوبة إذا كانت هذه الواقعة تتضمن إدعاءً مطلقاً أو مُجهلاً, وذلك لا يقتصر على الواقعة السلبية فحسب بل يمكن للواقعة الإيجابية أيضاً أن تتضمن إدعاءً عاماً مجهلاً وهنا لا تصح هذه الوقائع أن تكون محلاً للإثبات([7]). ولذلك فإنه يشترط في الواقعة التي تكون محلاً للإثبات أن تكون واقعة محددة سواء أكانت واقعة إيجابية أم سلبية.
ومع ذلك يجب أن نلاحظ أن الفهم الصحيح للمسألة هو أن من ينكر لا يجوز أن يكلف بدليل لأن وضعه هو الوضع الطبيعي والمألوف, ومن يدعي عكس هذا الوضع هو الذي يجب أن يدعم ادعاءه ويأتي ببرهانه حيث أن البينة – أي الدليل – على من ادعي خلاف الظاهر.
ولقد استغل البعض هذا الفهم الصحيح للمسألة في اتجاه آخر, أو غم عليهم, فذهبوا إلى أن من أقام إدعاء بواقعة سلبية لا يلتزم بالإثبات بل يفترض صحة ادعائه.([8])
وهذا فهم خاطئ للمسألة حيث أنه وبحسب الأصل إذا كان الإنكار يصلح وسيلة للدفاع إلا أنه لا يصلح وسيلة للدعوى (أي للإدعاء).([9])
ولئن كانت بعض هذه التفسيرات الخاطئة سالفة البيان قد شاعت حيناً من الدهر إلا أن الفقهاء قد تنبهوا إليها منذ زمن طويل([10])،([11]) وردوا الأمور في خصوصها إلى الوضع الصحيح وهو أن الواقعة السلبية كالواقعة الإيجابية قابلة للإثبات ما دامت محددة ومن ثم يجب على من يدعيها إقامة الدليل عليها.([12])
وإذا كان البعض لا يتصور كيف تثبت واقعة سلبية فإنه وكما أسلفنا فإن هذا يكون عن طريق إثبات واقعة إيجابية مضادة لها([13]) حيث أن كل واقعة سلبية تتضمن وبالضرورة واقعة إيجابية مضادة لها([14]) ntitheses immediate une a
فعلى سبيل المثال إذا أدعي عمرو بأن زيداً أحدث به إصابة وسأله عن تعويضها, وأراد زيد أن يثبت أنه لم يكن موجوداً في مكان الحادث حين وقوعه (وهذه واقعة سلبية) فإنه يستطيع إثبات هذه الواقعة عن طريق إثبات واقعة إيجابية مضادة لها, وذلك بأن يثبت أنه كان حينئذ موجود في مكان آخر, وهذا يؤكد أنه لم يكن موجودا في مكان الحادث وقت وقوعه وهي الواقعة السلبية محل الإثبات.([15])
وهذه الطريقة مألوفة في الإثبات وشائعة في القضايا الجنائية بوجه خاص ويسمونها في الاصطلاح ALIBI أي إثبات وجود المتهم في غير مكان الجريمة([16])، ومع ذلك وكما رأينا فهي معروفة أيضاً في المسائل المدنية.
وعلى هذا فمن الخطأ أن يقال أن إثبات الوقائع السلبية مستحيل وأنه لهذا لا يجوز التكليف به, بل أن القانون نفسه يتطلب أحياناً إثبات وقائع سلبية. وعلي سبيل المثال وفي باب استرداد ما دفع بغير وجه حق يلزم أن يثب طالب الرد أنه لم يكن مدينا بما دفعه, أي بما يبغي استرداده.([17])
وكذلك فقد يقتضي المنطق ذاته وجوب إثبات الواقعة السلبية في أحيان أخرى, ومن أمثلة ذلك أن من تحدى بحق معلق على شرط ينطوي على واقعة سلبية, فإنه يلتزم بإثباتها.
لهذا فإنه ومتى تعهد موظف مثلاً بأن يأجرك منزله بالقاهرة أن لم ينقل إليها في تاريخ معين فأردت أن تثبت أنه لم ينقل إليها, فإن إثبات هذه الواقعة السلبية يكون جائزاً وميسوراً من ناحية, وواجب عليك من ناحية أخري.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أن من يدعي أن حكماً ما قد أصبح نهائياً يجب أن يثبت أنه قد أعلن للخصم, وأن هذا الخصم لم يطعن فيه ويحصل هذا عادة بالحصول على شهادة (من قلم كتاب المحكمة المختصة) بعدم حصول الطعن.
وثمة حجة أخرى يضيفها الشراح وهي تتلخص في أنه حتى إذا كان إثبات الواقعة السلبية مستحيلاً فإن هذه الاستحالة التي يجد المدعي فيها نفسه لا تبرر إعفائه من الإثبات وتحميل خصمه به.([18])
وهكذا فإن كون الواقعة سلبية ليس من شأنه إعفاء مدعيها من الإثبات أو منعه من الإثبات, بل يباح له ويطلب منه إثباتها, فإن أخفق فلا يكون ذلك داعياً إلى تحميل خصمه بالإثبات, بل أنه يكون مدعاة لرفض دعواه.
ويفهم مما تقدم، في إطار أن إثبات النفي لا يكون مستحيلا, إلا إذا كان من قبيل النفي المطلق ـ على حد تعبير محكمة النقض – أو النفي الصرف. ومرد ذلك في حقيقة الأمر ليس إلى كون الواقعة سلبية, ولكن إلى كون الواقعة غير محددة INDEFINI ومثال ذلك أن يدعي شخص أنه لم يقترض أي مبلغ من المال طوال حياته. فمثل هذه الواقعة لا يمكن إثباتها, ليس لكونها واقعة سلبية, ولكن لكونها واقعة غير محددة.
ويخلص لنا مما تقدم أن استحالة الإثبات في الفروض السابقة ترجع إلى كون الواقعة غير محددة لا إلى كونها سلبية أو إيجابية([19]). لذلك فإنه يصبح أمراً بديهيا عدم تصور أن تكون مثل هذه الوقائع محلا لنزاع قضائي أو أن ترفع بشأنها دعوى.([20])
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً