استقلالية القضاء الجنائي الجزائري
د عبد العزيز خنفوسي.
أستاذ مساعد قسم -أ-.أستاذ جامعي دائم. كلية الحقوق والعلوم السياسية، جامعة الدكتور “مولاي الطاهر” بسعيدة، الجزائر.
المقدمة:
إن استقلال القضاء الجنائي من بين المبادئ الأساسية والعامة التي يجب أن يتمتع بها القضاء الجنائي كسلطة بشكل عام، وكقضاة أفراد على السواء، فالقضاء الجنائي غير المستقل لا يمكن أن يستقيم حاله، أو يتحقق صلاحه، بل يبقى متأرجحاً بين تبعية مفرطة ومجاملات رخيصة وعلاقات شخصية سقيمة، وفي أحسن الأحوال بين ممارسات فردية واجتهادات شخصية. فاستقلال القضاء الجنائي قيمة وطنية عليا، وليس مجرد شعار. هذا ونجد أن استقلال القضاء الجنائي يرتبط إلى حد بعيد بالديمقراطية، فكلما اتسعت الديمقراطية تعمق الاستقلال، وكلما أضيقت الديمقراطية اضمحلت رقعته، بل يبدأ بالتلاشي إلى أن يزول، ومع هذا كله فإن استقلال القضاء الجنائي حق وليس منة من أحد، وعلى القضاة الجنائيين أن ينتزعوا استقلالهم انتزاعاً حتى تكون أحكامهم حيادية موضوعية بعيدة كل البعد عن شتى أنواع المضايقات والتدخلات والمناورات التي يراد بها التأثير على القاضي حتى لا يستقيم حكمه، وإنني على ثقة بأن القضاء مهما كان قادر على أن يصحح المسار ويقوم الاعوجاج على كافة الأصعدة سواء كان قضاء مشروعية أو جهة القضاء العادي والتي منها الجهة القضائية الجنائية، وهذا إذا ما أخذ دوره على نحو جاد، ووفق رؤى واضحة ومنهج سليم، فبالإضافة إلى أن الديمقراطية تبعث على الاستقلال، فإن الاستقلال يستنهض الديمقراطية، والقضاء كسلطة أو مؤسسة أو أفراد هم من يضعون أنفسهم حيثما يريدون.
وعليه سنحاول من خلال هذا المقال البحثي أن نستعرض أهم ملامح القضاء الجنائي الجزائري، وهذا من خلال الوقوف على عنصرين اثنين أراهما يستحقان الدراسة والتحليل، ألا وهما: استقلالية القضاء الجنائي وحيدة قاضيه.
المحور الأول: الدعائم والمرتكزات التي تؤيد استقلالية القضاء الجنائي الجزائري.
إن استقلال القضاء الجنائي لا يكمن في حكم القاضي الجنائي فحسب، بل يمتد لما هو أبعد من ذلك، إذ أن إناطة الوظيفة القضائية الجنائية بالمحاكم العادية يعتبر من أهم مظاهر الاستقلال القضائي الجنائي، وأن القاضي الجنائي تنتهي مهمته بإصدار الحكم.
إلا أن عدم تنفيذ أحكام المحاكم الجنائية يقتل مبدأ استقلال القضاء الجنائي، ويجعل الحكم لا قيمة له إذا لم ينفذ.
هذا ما قد يؤدي بنا إلى طرح التساؤل الآتي: ما هي مجموعة الدعائم والمؤيدات التي يمكن الارتكاز عليها من أجل تجسيد مبدأ استقلال القضاء الجنائي؟
للإجابة على هذا السؤال يمكن القول بأنه لتحقيق مسألة استقلال القضاء الجنائي، فإنه يجب البحث عن الدعائم والأسس الموجودة في النصوص التشريعية، والأخرى التي يمكن استنباطها من خلال الممارسة العملية لمهنة القاضي الجنائي، والتي نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: الحماية الدستورية.
نجد أن الدستور الجزائري بوصفة القانون الأساسي والأسمى، قد نص على استقلال القضاء بصفة عامة والقضاء الجنائي بصفة خاصة، وكذا تنفيذ أحكامه القضائية من خلال المادة (138) من دستور 1989 المعدل والمتمم التي تنص على: ” السلطة القضائية مستقلة، وتمارس في إطار القانون”، والمادة (145) من نفس الدستور بقولها:” على كل أجهزة الدولة المختصة أن تقوم في كل وقت وفي كل مكان، وفي جميع الظروف بتنفيذ أحكام القضاء”.
ثانياً: الحماية الجزائية.
بأن يتم تجريم الأفعال التي من شأنها أن تمس استقلال القضاء عامة والقضاء الجنائي خاصة، كما هو الحال في المادة (144) من قانون العقوبات الجزائري المعدل والمتمم التي تضمنت عقوبة الحبس من شهرين (2) إلى سنتين (2)، وبغرامة مالية من 20.001 دج إلى 500.000 دج أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أهان قاضيا، وتكون العقوبة بالحبس من سنة إلى سنتين إذا كانت الإهانة الموجهة إلى قاض أو عضو محلف أو أكثر قد وقعت في جلسة محكمة أو مجلس قضائي. هذا ونجد أن المادة (148) من نفس القانون السابق تؤكد على أن كل من يتعدى بالعنف أو القوة على أحد القضاة يعاقب بالحبس من سنتين إلى خمس سنوات.
كما نصت كذلك المادة (138) مكرر من ذات القانون على أنه:” كل موظف عمومي استعمل سلطة وظيفته لوقف تنفيذ حكم قضائي أو أمتنع أو اعترض أو عرقل عمدا تنفيذه يعاقب بالحبس من ستة (6) أشهر إلى ثلاث (3) سنوات وبغرامة من 20.001 دج إلى 100.000 دج”.
ثالثا: حماية القضاة الجنائيين كأفراد من هيمنة السلطة القضائية كمؤسسة، وحماية القاضي الجنائي من نفسه.
إن المجلس الأعلى للقضاء هو المؤسسة التي تقف على أعلي هرم السلطة القضائية والتي منها السلطة القضائية الجنائية، وهذا باعتباره الجهة التي خولها القانون إدارة شؤون القضاة، ومن هنا تبرز أهمية تحرر القاضي الجنائي في عمله بما يعرض عليه من دعاوى ونزاعات جنائية، ومن وَهْم التبعية ظناً منه أنه وبعمله هذا يكون قد سلك مسلكاً تقتضيه طبيعة التسلسل الهرمي للبناء القضائي الجنائي، خاصة وأن من يشغل عضوية المجلس الأعلى للقضاء يكون في أعلى المناصب القضائية، وهم بالتالي من يقفون في قمة سلم درجات المحاكم، ذلك أن التبعة الإدارية تختلف عن العمل القضائي الجنائي المتعلق بالفصل في النزاعات الجنائية.
وفي هذا الصدد نقول: إن على القاضي الجنائي أن يحرص كل الحرص بأن يحمي نفسه من غيره من القضاة، مميزاً في ذلك بين تبعيته في النواحي الإدارية وبين عمله كقاض جنائي يفصل في الخصومات الجنائية، إلا أن هذا لا يتنافى واحترام زملاءه من القضاة ممن هم في مواقع تتقدم موقعه، أو أقرانه في ذات الموقع، ذلك أن الاحترام شيء والتبعية شيء آخر، وفي سبيل ذلك لا بد أن نميز الغث من السمين، والمجاملة من النفاق، والإرشادات من الأوامر، وأن نفرق بين احترام الرأي وفرضه، وبين ما تجوز به المشورة وما لا تجوز، وما يصلح محلاً للسؤال وما لا يصلح ، وما يصلح محلاً للإجابة وما لا يصلح .
كما أنه من واجب القاضي الجنائي، بل من أوجب واجبات القاضي الجنائي أن يحمي نفسه من نفسه، كيف لا والنفس أمارة بالسوء، فكل التشريعات وأشدها صرامة لا تقوى على أن تخلق قاضياً مستقلاً إذا لم يكن هو كذلك، وأن يكون الاستقلال همه ويغدو جزءاً لا يتجزأ من شخصيته وعقيدته.
رابعا: مبدأ عدم وحدة القضاء الجزائي والقضاء المدني.
إن هذا المبدأ قد ظهر في الآونة الأخيرة، وهذا ليس فقط لاعتبارات عملية تساعد على استقرار العدالة، وإنما لدواع علمية تفرضها طبيعة العمل من ناحية وأهداف القانون الجنائي من ناحية ثانية، واستقلال القضاء الجنائي من ناحية ثالثة.
ومما لاشك فيه أننا نحيا في عصر “التخصص العلمي”، ولا جدال في أن القانون ليس فنا محضا ولكنه علم قبل كل شيء، وتطور أفكار القانون وانضباط أحكامه وتحديد قواعده واكتشاف مبادئه إنما هي وليدة البحث العلمي قبل كل شيء.
وفضلا عما سبق فثمة خلاف جوهري بين الخصومة الجنائية والخصومة المدنية لا يعود فحسب إلى اختلافهما موضوعا وسببا وأطرافا، وإنما يعود أيضا إلى اختلاف القانون الجنائي عن القانون المدني طبيعة وأهدافا.
فمن المسلم به الآن فقهاً وقضاءً ما يتمتع به قانون العقوبات من ذاتية تحمل المفسر على إعطائه دلالة خاصة لذات الأفكار التي يعرفها القانون المدني، ففكرة المنقول والحيازة والعقد الباطل والمركز الظاهر والإفلاس والمسؤولية والغلط هي دلالات تختلف في تكييفها في القانون الجزائي عما هو موجود في القانون المدني، الأمر الذي استوجب القول بما يسمى “بذاتية قانون العقوبات”.
كذلك من المسلم به الآن أن هدف القانون الجنائي لا ينحصر في فكرة الردع العام أو الخاص، وإنما يمتد إلى وقاية المجتمع وإلى إصلاح المجرم، ولهذا فقد وُجدت إلى جانب العقوبة تدابير احترازية أو وقائية وتدابير إصلاح (حماية وتأديباً)، وتطبيق هذه التدابير بل وتقدير العقوبة ذاتها لا يحتاج إلى بصيرة قانونية فحسب، وإنما يحتاج إلى ثقافة خاصة تتكفل بها الآن علوم متخصصة مساعدة لقانون العقوبات، وهذا مثل علم الإجرام وعلم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي وعلم العقاب، وهذا لا يتأتى إلا بتخصص القاضي الجنائي.
خامسا: تمتين الثقة بالسلطة القضائية الجنائية.
من شأن المبادئ الأساسية التي تحكم السلوك القضائي أن تعزز مبدأ استقلال القضاء الجنائي، وهذا من خلال القيام بتمتين ثقة الناس بالسلطة القضائية الجنائية وبأعضائها، وكل كلام على استقلال القضاء الجنائي يظلّ كلاماً نظرياً إن لم يترافق مع ثقة الناس بالقضاء الجنائي، والذي يعتبر ضروريا من أجل صون مبدأ الاستقلال (1)، وبالتالي فعلى القاضي الجنائي في ضوء ذلك، ألاّ يكتفي بالقول إنه مستقلّ، بل أن يعمل بطريقة توحي بأنّه مستقلّ بالفعل.
سادسا: معرفة القاضي الجنائي للحق وتطبيقه.
ويتجلى ذلك بوضوح من خلال ما يلي:
– استقلال القاضي الجنائي إزاء زملائه القضاة، سواء خلال المناقشة حول الأمور القضائية التي تمنحه ملء الحرية في التعبير عن الرأي وفي اعتماد الموقف المنسجم مع قناعاته، أو لدى ممارسة مهماته القضائية الجنائية في أي موقع يكون موجود فيه.
– يتوجَّبُ على القاضي الجنائي أيضاً في حال حصُول أي هيمنة أو تأثير عليه من أحد زملائه القضاة في أعماله القضائية الجنائية، أو وقوعه تحت التأثير أو الهيمنة أن يقوم فورًا بإبلاغ رئيس المجلس القضائي بذلك.
سابعا: ضرورة تأكيد وتعزيز قوانين السلطة القضائية الجنائية.
إن استقلال القضاء الجنائي واستقلال القاضي الجنائي، هما مفهومان متكاملان ولازمان لصيانة مبدأ الشرعية الجنائية، ولإشاعة العدالة عن طريق تحقيق أمنية المتقاضين في تأمين الظرف الذي يساعد على خلق الدعوى الجنائية العادلة.
ولا مجال لتحقيق هذا الاستقلال إلاّ في ظلّ قوانين تُعزّز مكانة السلطة القضائية الجنائية، وتضمن تمايزها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار التوازن والتعاون بين هذه السلطات، وفي ظلّ ثقافة قضائية جنائية تعكس يقين القاضي الجنائي الذاهب إلى أن المصدر الأساسي لاستقلاله هو شعوره الذاتي بجسامة مهماته، وتصميمه على الإنعتاق من كل العوامل الضاغطة الرامية إلى التأثير على قناعاته ووجدانه، وهذا بمعزل عن المعطيات الواقعية (2) والقانونية التي يحملها ملف الدعوى الجزائية.
المحور الثاني: ضرورة تدعيم مبدأ حياد القاضي الجنائي .
يقصد بحياد القاضي الجنائي هو تجرده حيال كل ما يعرض عليه من نزاعات وخصومات جنائية، أي بمعنى تجرده من أي هوى أو تحيز أو ميل أو رغبة، وإلا أصبح القاضي الجنائي خصماً مثله مثل أطراف الخصومة الجنائية، الأمر الذي لا يتفق أو يستقيم مع طبيعة مهمة القاضي الجنائي ودوره الذي أنيط به. هذا ولعل فصل سلطة الاتهام عن قضاء الحكم الجنائي هو أحد أشكال ضمان حياد القاضي الجنائي في الدعاوى الجزائية، وبالتالي فالحياد لا يقف عند حد الخصوم، بل يمتد إلى الخصومة الجنائية من حيث هي بمعزلٍ عن الخصوم ووكلائهم، فقد يكون القاضي الجنائي حيادياً تجاه الخصوم ووكلائهم، لكن ليس حيادياً تجاه الخصومة الجنائية.
وعليه فالسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل هناك قواعد تأسس وتدعم مبدأ حياد القاضي الجنائي أثناء النظر في الخصومة الجنائية؟
للإجابة على هذا السؤال، وفي سبيل دعم مبدأ حياد القاضي الجنائي، فإننا نشدد على أمور عدة نوردها إيجازًا على النحو التالي:
أولاً: ضرورة أن يتجرد القاضي الجنائي من ميوله الذاتية أو الشخصية.
من هنا قيل أنه على القاضي الجنائي أن يبحث في أغوار نفسه عن سبب ميله نحو اتجاه معين، وهل علة ذلك أسباباً قانونية محضة؟ بحيث أن الأمر لا يتعدى تطبيق القانون على الوقائع وفق مقدمات تصلح أساساً لترتيب النتائج، أم أن هناك مبررات أخرى تبقى خفية جنحت به إلى أن يصدر حكمه الجنائي على النحو الذي أصدره؟ وإن بدا الحكم الجنائي سائغاً سليماً، وأنه قد بني على أدلة وحجج لها أصل في أوراق الدعوى الجنائية، فإنه قد يصعب على الغير حتى من القضاة أن يعرف دوافع إصدار الحكم الجنائي على نحو معين، والسبب في ذلك أن القاضي الجنائي مصدر الحكم الجنائي أعلن عن حكمه بما تضمنه من أسباب حمل حكمه عليها، إلا أن الدوافع الخفية – من نزعات أو رغبات أو هواجس أو هوى أو غيرها- بقيت قابعة في نفسه بعيداً عن أعين الغير من خصوم أو قضاة، وعندها على القاضي الجنائي أن يعلم أنه وبعمله هذا قد لا يكون منصفاً، وهذا لأنه لم ينصف الخصوم من نفسه كونه حمل حكمه على أسباب وعلل بقيت في الظل غير تلك التي أفصح عنها، وبالتالي فحديثنا في هذا الجانب يتعلق بأمور نفسيه محضة تبقى بين ضلوع القاضي الجنائي وجنبات نفسه (3).
ونؤكد في هذا المقام على ضرورة أن يحذر القاضي الجنائي من أن يصف نفسه بالقاضي المتشدد أو القاضي الذي يميل للتجريم أو القاضي الهين اللين… وإذ كان حاله كذلك، فإنه يجب عليه أن يبحث في أغوار نفسه عن السبب الذي أدى به إلى هذا الاعتقاد، وليعلم أنه بحاجة إلى تقويم الأداء وإعادة تقييمه مرة تلو الأخرى حتى يطمئن أنه في المسار الصحيح.
ثانياً: الابتعاد عن التيارات السياسية.
قد يكون لكل قاض جنائي وجهة نظر سياسية وليس في ذلك عيب، فإذا كان من حيث الثقافة العامة قاضياً وقاضياً فقط فهو قاض فاشل ثقافياً، أما أن يكون فيما يعرض عليه من خصومات جنائية بغية إصدار الحكم الجنائي وما يسبق ذلك من إجراءات، فإنه في هذه الحالة يعتبر قاضياً ناجحاً، ذلك أن تحرر القاضي الجنائي من أية ميول سياسية أو حزبية (4) أمر لا مفر منه فيما يعرض عليه من خصومات جنائية، وبذلك حظر المشرع الجزائري على القاضي بصفة عامة والقاضي الجنائي بصفة خاصة ممارسة العمل السياسي وإلزامه بأن ينهي عضويته عند تعيينه بأي حزب أو تنظيم سياسي، وهذا حسب ما جاء في المادة (14) من القانون العضوي رقم (04-11) المؤرخ في: 06 سبتمبر 2004 الذي يتضمن القانون الأساسي للقضاء بقولها:” يحظر على القاضي الانتماء إلى أي حزب سياسي، ويمنع عليه كل نشاط سياسي”، أما المادة (15) من نفس القانون فتقول:” تتنافى مهنة القاضي مع ممارسة أية نيابة انتخابية سياسية “.
ثالثاً: الابتعاد عن أشكال الضغوط الشعبية والتدخلات والمناورات.
قد تعرض على القاضي الجنائي دعوى من دعاوى ما يعرف بالرأي العام، بحيث يظهر جلياً أن الرأي العام يتبنى موقفاً معيناً منها أو من المتهمين فيها، ويطالب بالإدانة وإنزال أشد العقوبات أو أن يطالب بإعلان البراءة. هذا ولعل أصدق مثال على ذلك ما عرفته الساحة القضائية الجنائية الجزائرية من قضايا تتعلق بجرائم قتل الأطفال والتنكيل بهم، والتي طالب فيها الرأي العام الجزائري تسليط عقوبة الإعدام في حق المتهمين.
إن حشد الرأي العام أو ما يمكن أن نسميه بالضغط الشعبي، يجب أن لا يمس حكم القاضي الجنائي أو يلامسه، وأن من شأن وقوع القاضي الجنائي تحت تأثير هذه الضغوط ما يخرجه عن الحياد، وينزلق به ليكون مجرد أداة تستخدم على النحو الذي يراد لها، لا على النحو الذي وجد من أجله. هذا ويستوجب الأمر أن تعقد المحكمة الجزائية في أجواء بعيدة عن الغوغاء، وتأثيرات الضغط الشعبي، كما يجب على القاضي الجنائي أن تكون أحكامه ناتجة عن عقيدته واقتناعه الوجداني الموضوعي، ومعبرة عن ضميره لا ينتظر جزاءًا ولا شكوراً، وعليه يمكن القول في الأخير أن المادة (148) من دستور 1989 المعدل والمتمم تحمي القاضي بصفة عامة والقاضي الجزائي بصفة خاصة من كل أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي يمكن أن تضر بمساره المهني، وتجعله غير قادر على أداء مهمته على أكمل وجه، أو أنها تمس بنزاهة حكمه القضائي الجزائي.
رابعاً: تسبيب الأحكام الجزائية.
إن الحديث عن تسبيب الحكم الجزائي يطول ويمتد، إذ من السهولة أن تجيب على أي سؤال بالنفي أو الإيجاب، كما أنه من السهولة بمكان أن تقرر بشأن واقع تراه لتعطيه وصفاً معيناً، إلا أن الصعوبة تكمن في تبرير الإجابة سلباً أو إيجاباً، وفي إثبات أن الوصف الذي أطلقته يطابق الواقع وينطبق عليه، ومن السهولة كذلك أن تنطق بالحكم القاضي بالإدانة وتوقيع العقوبة، أو البراءة أو عدم المسؤولية الجنائية أو عدم الاختصاص القضائي الجنائي أو انقضاء الدعوى العمومية، لكن الوصول إلى النتيجة التي خلصت إليها في حكمك تبدو صعبة، وبذلك لا يقبل منك أي حكم كان ما لم تبرره، والتبرير هنا يعرف بالأسباب الداعية إلى إصدار الحكم الجزائي على النحو الذي جاء فيه، ولا تقبل الأسباب إن لم تكن تقوى على حمل المنطوق، فالمنطوق يدور مع الأسباب وجوداً وعدماً، لا من حيث وجوده بالمفهوم القانوني فحسب، بل من حيث مطابقته للواقع أيضاً، وأنه فوق ذلك وقبله وبعده يمثل قدرة القاضي الجنائي في مواجهة الخصوم، وهو الدليل على أن القاضي الجنائي درس الدعوى ومحّص البيانات وأحاط بها إحاطة جامعة، كما أن في ذلك ما يمكن المحكمة العليا من فرض رقابتها على نحو واضح وسليم، فضلاً عن أن تسبيب الحكم الجزائي يحقق الرقابة بمفهومها العام، فالحكم الجزائي الذي قضى بالبراءة مثلاً ، وبما حمله من أسباب هو قدرة القاضي الجنائي ليس في مواجهة الخصوم فقط، بل في مواجهة الهيئة الاجتماعية أي المجتمع، وتسبيب الحكم الجزائي ليس مقصوراً على محكمة جزائية دون الأخرى، أو على نوع من الدعاوى الجزائية دون غيرها، بل هو متطلب وجوبي لدى كافة الجهات القضائية الجزائية على اختلاف درجاتها واختصاصاتها وأنواعها، وبالتالي فهو عمود الحكم الجزائي الذي يحمله وأوتاده التي تشده، كما أشاد بذلك المشرع الجزائري من خلال المادة (144) من دستور 1989 المعدل والمتمم بقولها: ” تعلل الأحكام القضائية، وينطق بها في جلسات علانية”، والمادة (379) ف 01 و02 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم التي قالت:” كل حكم يجب أن ينص على هوية الأطراف وحضورهم أو غيابهم في يوم النطق بالحكم، ويجب أن يشتمل على أسباب ومنطوق.
وتكون الأسباب أساس الحكم”.
خامساً: تنحي القاضي الجنائي.
أوجب المشرع الجزائري على القاضي الجزائي أن يتنحى عن نظر الدعوى الجزائية إذا توفرت فيه إحدى الحالات المنصوص عليها في المادة (554) من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري المعدل والمتمم، وإذ نكرر ما سبق قوله هو أن المشرع الجزائري إذ فعل ذلك كان بقصد رفع مظنة السوء عن القاضي بصفة عامة والقاضي الجنائي بصفة خاصة، وإذا ما توفرت إحدى الحالات المشار إليها في المادة (554) من نفس القانون السابق، ولم يتوقف القاضي الجنائي عن نظر الدعوى الجزائية ترتب البطلان، وهو بطلان لا يتوقف على رغبة الخصوم، بل يتجاوزها لتعلقه بما عرف بعدم صلاحية القاضي الجنائي والتي لها صلة بالتنظيم القضائي الجنائي، والتنحي قد لا يكون لأي من الأسباب الواردة في المادة (554) الباحثة عن حالات رد القاضي الجنائي، وإنما استشعاراً للحرج لأي سبب صريح كان، وفيما نرى أن استشعار الحرج وإن كان يصلح سبباً للتنحي، فقد يستشعر القاضي الجنائي الريبة في نفسه أو يستشعرها الخصوم، واستشعار القاضي الجنائي الريبة في نفسه يصلح سبباً لتنحيه من تلقاء نفسه، أما استشعار الخصوم الريبة بحياد القاضي الجنائي ليس مبرراً يمكن معه تقديم طلب لرده.
سادساً: سعة الصدر وحسن الاستماع.
إن من موجبات حياد القاضي الجزائي أن لا يضيق صدره في الإصغاء لأقوال الخصوم أو وكلائهم الختامية، وهذا استشعاراً منه أن كل ما يلقى على مسامعه من مرافعات ختامية لا حاجة له بها، وقد يترتب على ذلك الطلب من المحامي الوكيل – دون وجه حق- الاختصار في مرافعته، وربما يطلب منه السكوت لمبررات غير مستساغة. هذا وقد يكون مؤدى ذلك إخفاء لجزء من الحقيقة أو تشويه لها، كما قد يمتد هذا السلوك ليصيب شاهداً دعي للإدلاء بشهادته، بحيث يتم تقييده في أقواله على نحو لا يستقيم، وعليه يمكن القول أن مهمة القاضي الجزائي تكمن في استجلاء الحقيقة (5)، أما مهمة الشاهد فهي قول الحق، كما أن من مظاهر عدم الحياد – وإن بدت خفية في كثير من الأوقات – ما يعرف بترجمة أقوال الشاهد على نحو مخالف لما أدلى به من أقوال، وهذا كأن يقوم القاضي الجنائي بتلقف أقوال الشهود ثم يقوم بعد ذلك بصياغتها على نحو مخالف أو غير دقيق لما تم الإدلاء به، خاصة وأن الشاهد قد يدلي بأقواله بالعامية (اللغة المحكية)، وفي سبيل التغلب على ظاهرة ما يعرف بترجمة أقوال الشاهد وما يترتب عليها من آثار سيئة، فإننا نرى أن تسجل أقوال الشاهد بذات العبارات والألفاظ أياً كانت عامية أو فصحى، وإن بدت بعض العبارات العامية غير مفهومة أو غير واضحة، فيصار إلى سؤاله عنها للوقوف على معناها، وليتم تسجيل معناها إلى جانب اللفظ الذي عبر عنه الشاهد ابتداءً، ومثال ذلك قول الشاهد (ظهر الحيط) أي السطوح، أو غيرها من الألفاظ حتى ولو كانت تخرج عن حدود اللياقة، أو أنها توصف بالبذاءة أو السوقية.
الخاتمة:
إن استقلال القضاء الجنائي وحيدة قاضيه، هما مفهومان متكاملان ولازمان لصيانة مبدأ الشرعية الجنائية، ولإشاعة العدالة عن طريق تحقيق أمنية المتقاضين في تأمين الظرف المؤتي للدعوى الجنائية العادلة.
ولا مجال لتحقيق هذا الاستقلال إلاّ في ظلّ قوانين تُعزّز السلطة القضائية الجنائية، وتضمن تمايزها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية في إطار التوازن والتعاون بين هذه السلطات، وفي ظلّ ثقافة قضائية جنائية تعكس يقين القاضي الجنائي الذاهب إلى أن المصدر الأساسي لاستقلاله هو شعوره الذاتي بجسامة مهماته، وتصميمه على الإنعتاق من كل العوامل الضاغطة الرامية إلى التأثير على قناعاته بمعزل عن المعطيات الواقعية والقانونية التي يحملها ملف الدعوى الجزائية.
الهوامش والمراجع:
(1)- أنظر: الدكتور عبد الحميد الشواربي، المسؤولية القضائية في ضوء الفقه والقضاء، منشأة المعارف الإسكندرية، مصر، 1997، ص:06.
(2)- أنظر: فاروق الكيلاني، استقلال القضاء، ط2، المركز العربي للمطبوعات، 1999، ص- ص: 85-96.
(3)- من ديباجة وثيقة الرياض لأخلاقيات وسلوك القاضي العربي الصادرة عن الاجتماع السادس عشر لعمداء ومديري المعاهد والمراكز القضائية ورؤساء إدارات التأهيل والتدريب القضائي في الدول العربية، 4-8 مارس2007.
(4)- أنظر: القضاء والإصلاح السياسي، ط1، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، 2006، ص:125.
(5)- أنظر: مجلة العدالة والقانون، العدد 16، إصدار المركز الفلسطيني لاستقلال المحاماة والقضاء (مساواة)، آب 2011.
اترك تعليقاً