الإعلام والعدالة
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
لا شك أن حرية الإعلام هي حرية أكيدة يجب الدفاع عنها وصيانتها سواء أكان الإعلام مكتوباً أو مسموعاً أو مرئياً أو الكترونياً، وهو نابع من حق الشعب في المعرفة الذي هو حق أصيل وثابت في كل الشرائع الدستورية، باعتبار الشعب صاحب السيادة الحقيقية ومصدر كل السلطات في كل مجتمع متمدن، وهو بهذه الصفة، ينبغي أن يكون عالماً بمجريات الأمور والأحداث. لذلك لا تثريب على وسائل الإعلام في إبلاغ الجمهور بما يقع من جرائم وأحداث وتسليط الضوء عليها ليحاط الناس علماً بما يحدث ويتخذوا الحيطة والحذر.
غير أن دور وسائل الإعلام يجب أن يتوقف عند حد نقل الوقائع بحياد وموضوعية دون إدانة للمتهم أو تبرئة لساحته، تاركاً ذلك الأمر لمحاكم القضاء باعتبارها صاحبة الاختصاص في الفصل بالقضايا الجزائية وإدانة المتهم وتبرئة البريء.
لكن ما يحدث عملياً عند نشر أخبار الجرائم أو وقائع الفساد أو غيرها من الأفعال والوقائع التي تهم المواطنين يختلف عن ذلك؛ فتخرج وسائل الإعلام عن دورها الأساسي في نقل الخبر وتتقمص دور الجهات القضائية أو الرقابية وتستعجل الأحكام والنتائج وتدين وتبرئ لمجرد الظن أو التخمين، وذلك لجذب اهتمام الجماهير وتحقيق سبق إعلامي، وغالباً ما تحبّذ وسائل الإعلام جانب الإدانة اختياراً للطريق الأيسر من حيث الظاهر والأكثر إثارة لفضول الناس، بذريعة تهدئة النفوس، خاصة إذا كان الجاني قد أصبح في حوزة السلطات المختصة التي ستقتص منه وتقي المجتمع شره.
وتتناسى تلك الوسائل قرينة البراءة اللصيقة بالاتهام والمعبَّر عنها بالقاعدة الدستورية المعروفة “المتهم بريء حتى يدان بحكم قضائي بات”؛ فهي تقطع في إدانة المتهم من خلال تسليط الضوء على التحقيقات الأولية وما يرد فيها من أقوال وأدلة وتُسهب في الحديث عن الضحايا واستنكار الجرم وبشاعة الفعل وإبراز صورة المجرم وملامح شخصيته، وتتناول حياته وأفراد أسرته، وخاصة إذا كان من عامة الناس أو من الطبقات الدنيا أو من القاطنين في أحزمة الفقر؛ فلا تأبه بالتشهير به وتشويه صورته أو الإساءة إلى سمعة أسرته، وهو الذي ما زال في حكم البريء قانوناً.
وفي بعض الأحيان تنحاز إلى تبرئة المتهم، خاصة إذا كان من المشاهير أو من علية القوم، فتسمح له بالدفاع عن نفسه وتبرز أسانيد براءته ونقاط الضعف في أدلة اتهامه، وتسعى إلى إقناع الرأي العام بسلامة موقفه وعدالة قضيته، والمصداقية في أقواله؛ بل قد تتيح له فرصة الحوار على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، كما يحدث عادة في بعض البرامج التلفزيونية العربية.. وما حدث عندنا في بعض الوقائع والأحداث فيما سبق.. وذلك قبل أن يقول القضاء كلمته أو يفصل في الواقعة. وفي مثل هذه الحالات يتذرّع رجال الإعلام بحق الدفاع ويقولون أنهم يساعدون المتهم في الدفاع عن نفسه أو القضاء او الجهات المختصة في عملها.
والأصل أن حق الدفاع إنما يُمارس أمام جهات التحقيق والمحاكمة ليحدث التقابل والموازنة بين أدلة الإثبات وأدلة النفي، وتتضح كافة العناصر المكونة للواقعة وتتمكن المحكمة الناظرة بالحادثة من دراستها بموضوعية وحياد تمهيداً للنطق بالحكم الذي يستقر في ضميرها ويتفق مع القانون والعدالة. وخلاف ذلك هو السماح للمتهم باستغلال انتشار وسائل الإعلام وعمق تأثيرها على الرأي العام والناس والمجتمع، ومحاولة توجيه المحكمة باتجاه معين قد يكون مخالفاً للأوراق والمستندات التي بين يديها على اعتبار أن قناعة القاضي الشخصية تلعب دوراً في البت بالدعوى.. والقضاة هم بشر قد يتأثرون كغيرهم بما تنشره وسائل الإعلام، وبذلك تتأثر أحكامهم بما لا ينبغي أن تتأثر به.
من هنا، يجب على كافة وسائل الإعلام تطبيق المادة 12 من قانون الإعلام الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 108 لعام 2011 لاسيما الفقرة /4/ منها(يحظر على الوسائل الإعلامية نشر…
4- كل ما يحظر نشره في قانون العقوبات العام والتشريعات النافذة وكل ما تمنع المحاكم من نشره(. وأن تتوخى الحذر في التعرض للقضايا المطروحة على القضاء وخاصة في المسائل الجزائية، وهذه الدعوة لا تعني التنكّر لحق وسائل الإعلام وحق المجتمع في معرفة ما يقع من أحداث ومن جرائم وتجاوزات، ولكن هي من باب الدعوة إلى أن يتم النشر بحياد وموضوعية ودون اتخاذ موقف المهاجم أو المدافع عن المتهم.
وحبذا لو استهدفت وسائل الإعلام من وراء نشر أخبار الجرائم توعية الناس وتحذيرهم من مخاطر الوقوع في براثن الجريمة والمجرمين، وخاصة عندما يتناول الحديث المواضيع ذات الصلة بآداب مهنة الطب أو المحاماة أو ضمانات القروض البنكية، أو انتشار الرشوة والفساد، أو غيرها من الأمور التي تهم المواطنين.. وبذلك تتحقق حرية الإعلام بالمعنى الدقيق والسليم وتقوم بالدور المراد منها وهي إبلاغ الناس بالأخبار ونشر الثقافة والعلم ورفع مستوى الوعي العام.
اترك تعليقاً