التجارة الالكترونية
بقلم محمد الماحي/دكتور باحث في قانون الأعمال والتجارة
إن التغلغل المستمر والمتعاظم لأنظمة الاتصال الحديثة ذات الطبيعة المعلوماتية في إبرام العقود والصفقات، وإدارة المفاوضات التجارية، والذي تشكل التجارة الالكترونية بأنظمتها وأساليبها المتعددة والمتشعبة، أبرز ملامحها، دفع كلا من التشريع والفقه والقضاء في كثير من البلدان على التفكير مليا في وضع صيغ تشريعية وتنظيمية جديدة، تسمح بوضع حلول وأفكار لمختلف الاكراهات والمشاكل التي تفرزها هذه التطورات
هذه المشاكل والاكراهات ركزنا على البعض منها في هذا الفرع الذي قسمناه إلى مبحثين اثنين، حيث خصصنا المبحث الأول للحديث عن المقتضيات القانونية العامة للتجارة الالكترونية في المجال المدني أما المبحث الثاني، فخصصناه للمجال التجاري وحماية المستهلك لإبراز هذه الاكراهات التي تعتري تنظيم التجارة الالكترونية، محاولين قدر الإمكان والمستطاع وضع دراسة مقارنة بين التشريع المغربي وباقي التشريعات المقارنة.
المبحث الأول: المقتضيات العامة للتجارة الالكترونية في المجال المدني
يبدو جليا وواضحا، أن المشكلة الجوهرية والحقيقية في مجال التجارة الالكترونية واستخدام الطرق المعلوماتية بصفة أعم، هي مشكلة الإثبات في المقام الأول، أما الشق الخاص بتلافي الإرادتين وتحديد لحظة إبرام العقد، فهو يتعلق بمشكلة تقليدية وهنا تجب الإحالة إلى قواعد قانون الالتزامات والعقود وبخاصة المادة 24 منه. لكن إذا كانت فكرة العقد الالكتروني ثابتة في أغلب التشريعات الوطنية، فإنه يبقى لنا تحديد طريقة هذا التعبير في هذه البيئة الجديدة، فهل يمكن أن نتصور في هذا الوسط الجديد إيجابا وقبولا الكترونيين؟
المطلب الأول: إبرام العقد الالكتروني
يمكن للعقد الالكتروني أن يكون وسيلة وأداة لإبرام العديد من العقود المعروفة في العالم الواقعي خارج الشبكة الرقمية، فالتعاقد عبر الانترنيت لا يثير إشكالا في خضوع أغلب جوانبه للقواعد العامة المعروفة في قانون الالتزامات والعقود سواء فيما يتعلق برضا طرفيه وسلامة إرادتهما من العيوب وأهلية المتعاقدين … إلخ.
ولعل المشرع المغربي أكد على هذا من خلال القانون الجديد الذي صدر مؤخرا والمتعلق بالتبادل الالكتروني وهو القانون رقم 05. 53.
لكن ما ينبغي أن نتناوله هو بعض أوجه الخصوصية للتعبير عن الإرادة ومدى احتياجها إلى بعض القواعد الخاصة.
لا يبدو أن الفقه قد ركز في تلك الخصوصية على ركن السبب أو المحل، بالقدر الذي ركز فيه على الإشكالات التي تطرحها البيئة الالكترونية سيما منها وجود الإرادة وشكل التعبير عنها والتي تؤدي فعلا إلى إحداث أثر قانوني معين.
الفقرة الأولى: الإيجاب الالكتروني L’offre électronique
الإيجاب عموما حسب جل التشريعات هو تعبير بات عن الإرادة الأولى التي تظهر في العقد عارضة على شخص آخر إمكانية التعاقد ضمن شروط معينة، وهو كلام صادر عن أحد المتعاقدين لإثبات التصرف القانوني، كما أن التوجه الأوروبي المتعلق بحماية المستهلك في التعاقد عن بعد، عرف الإيجاب الالكتروني بأنه “كل اتصال عن بعد يتضمن كل العناصر اللازمة بحيث يستطيع المرسل إليه أن يقبل التعاقد مباشرة ويستبعد في هذا النطاق مجرد الإعلان”، هذا التعريف في نظرنا يتلاءم وطبيعة التجارة الالكترونية خصوصا ما ارتبط بالشيء المبيع، كما أن المشرع المغربي من خلال قانون رقم 03. 53 الخاص بالتبادل الالكتروني سار في نفس السياق، وفي هذا الإطار يستعين المنتج بالشيء المبيع لتوجيه الإيجاب الالكتروني إلى الجمهور في صورة مغرية وجذابة، كما أنه يمكن تصور إيجاب الكتروني موجه إلى أشخاص محددين، كما يحدث في عروض التعاقد بواسطة البريد الالكتروني وفي حالة التعاقد عبر مواقع الكترونية، ففي الحالة الأولى حالة الإيجاب الالكتروني الخاص، تكون شخصية القابل محددة وذات أهمية، بل قد تكون معروفة أما في الحالة الثانية يكون الإيجاب مفتوحا في وجه العموم ويمكن لأي كان القبول والتعاقد.
والرجوع عن الإيجاب الالكتروني لا يختلف عن التقليدي، إذ يكون بسحب الموجب إيجابه من موقع العرض على شبكة الانترنت بشرط أن يعلن عن رغبته في الرجوع عن الإيجاب، فيعدم ذلك أثره القانوني، لكن هذا العدول لا يكون له أي أثر قانوني إلا إذا علم به الموجب له.
لكن الأمر يختلف عندما يكون الإيجاب مقترنا بأجل للقبول فهنا يكون ملزما خلال الأجل.
ورغم ما قد يجمع بين الإيجاب الالكتروني والإيجاب التقليدي فإن الأول له مجموعة من الخصائص يمتاز بها، فهو يتم عن بعد وبالتالي فهو ينتمي بذلك على طائفة العقود المبرمة عن بعد، كما أنه يتم عبر وسيط الكتروني، ولعل أهم خاصية يعرفها الإيجاب الالكتروني هي العالمية، فهو يتم عبر شبكة دولية للاتصالات والمعلومات، لأن المتعاقدان غالبا ما تفصلهما حدود كبيرة جدا، وبذلك يسهل عليهما الاتفاق وتحديد شروط العقد ومعرفة الخصائص الأساسية للمنتجات المعروضة وأوصافها ثم أثمانها.
الفقرة الثانية: القبول الالكتروني L’accord éléctronique
القبول هو التعبير عن رضا من وجه إليه الإيجاب لإبرام العقد، وبالشروط المحددة سلفا من طرف الموجب، ولما كان القبول بهذا الشكل فلا يكفي وحده، وإنما يجب أن يصدر والإيجاب لازال قائما، وذلك لمحدودية أجل سريانه، فإذا صدر الإيجاب على الخط (Offre en ligne) استلزم الأمر أن يصدر القبول فوريا قبل فض المحادثة، ولما كان تعديل الإيجاب إيجابا جديدا، فإن للموجب على الانترنت أن يقيد العميل فيما بعد بالعقود الالكترونية النموذجية ولا يمكن للقابل عندئذ إلا الموافقة أو الرفض، وعادة ما يتم لهذا الغرض تخصيص أيقونات خاصة يتم النقر عليها، أو يترك مجال لطبع كلمة “أرفض” أو “أوافق” في المكان المخصص لذلك.
ويتم التعبير عن القبول الالكتروني بطرق عديدة: الكتابة أو استخدام التوقيع الالكتروني أو عن طريق اللفظ من خلال غرف المحادثة أو التنزيل عن بعد من خلال تنزيل البرنامج أو المنتج أو السلعة عبر الانترنت، وبمجرد التقاء الإيجاب بالقبول يقوم العقد بشكل لا رجعة فيه.
ولا يفوتنا أن نشير أنه نظرا لعدم وجود طرفي العقد في مكان واحد أثناء إبرامه، تطرح إشكالية تحديد زمن إتمام العقد ومكانه، والتي انقسم الفقه بشأنها إلى اتجاهين: الأول يؤمن بنظرية تصدير القبول حيث يرى أن العقد يعتبر تاما بمجرد إرساله بينما يذهب الاتجاه الثاني إلى نظرية استلام القبول، حيث لا يعتبر العقد تاما إلا بإعلام الموجب بموافقة الطرف الآخر ونحن نميل إلى هذا الاتجاه الأخير لما في ذلك من حماية لأطراف العلاقة التعاقدية.
أما فيما يخص مكان إبرام العقد فإن القضاء الفرنسي، يميل إلى الأخذ بنظرية تصدير القبول، أي أن العقد يعتبر مبرما في المكان الذي تم فيه القبول، وهو المكان الذي سيحدد الطبيعة القانونية التي ستحكم أي نزاع قد يثار بين طرفي العقد، لذلك على المورد أو صاحب الخدمة التي يقدمها عبر الانترنيت أن يقبل ذلك.
المطلب الثاني: إثبات العقد الالكتروني في التشريعات المقارنة
لقد أفرزت وسائل الاتصال الحديثة أنماطا جديدة من العلاقات القانونية، مستغلة ما وفرته من قدرات اتصالية للأشخاص المتباعدين مكانا، لهذا فمسألة الإثبات تعد من أهم المعوقات التي تواجه التجارة الالكترونية وتطورها، الأمر الذي فرض بالنسبة للتجمعات الدولية والتشريعات الداخلية التدخل والعمل على تنظيم المحررات الالكترونية من حيث شروط ومفهوم الكتابة وكذا شروط التوقيع الالكتروني.
الفقرة الأولى: العقد أو الكتابة الالكترونية
يقصد بالكتابة بالمفهوم التقليدي كوسيلة للإثبات، ذلك المحرر الخطي الذي يذيله شخص ما بتوقيعه وفق حركات خطية معينة.
أما الكتابة بالمفهوم الحديث، فهي لا تشمل الأوراق التقليدية فقط، بل كذلك للأوراق المرسلة عبر وسائل الاتصال التقنية كالفاكس والانترنت، وترتيبا على ذلك فإن موضوع الكتابة بمفهومها الحديث يتصل بفكرة المصنفات الرقمية والمصنفات متعددة الوسائط.
تجدر الإشارة إلى أن كثيرا من التشريعات الحديثة عدلت أو أصدرت نصوصا جديدة، تتلاءم مع التطور التقني لوسائل الاتصال الحديثة.
وبالرغم من الاعتراف للكتابة الالكترونية بالوجود القانوني فإنها لا تكتسب حجيتها في الإثبات إلا بتوفرها على مجموعة من الشروط يمكن اختزالها في شرطين أساسيين:
أولا: أن يكون المحرر الالكتروني مقروء
المستند الالكتروني يتم تحريره أو تدوينه عبر وسائط الكترونية، يعجز الإنسان غير المتخصص في المجال المعلوماتي عن فهمها واستيعابها لكون تلك الوسائط تستعمل اللغة اللوغاريتمية، هذه الأخيرة التي دفعت بالمتخصصين إلى ابتكار برامج تمكن من ترجمتها إلى لغة الإنسان، وذلك بهدف حماية المتعاقد ومنحه كل الآليات والوسائل التي تجعله على بينة من موضوع التعاقد وشروطه وكذا الالتزامات المتولدة عنه.
وهنا يطرح إشكال اللغة المستعملة في التعبير الالكتروني وسهولة فهمها بالنسبة لمتلقي المعلومة، وسبب هذا الإشكال راجع على أن أغلبية المواقع الالكترونية تستخدم اللغة الإنجليزية والفرنسية، مما قد يثير لبسا لدى المستهلك، وهنا يطرح السؤال حول الحماية المقررة لهذا الأخير خصوصا في دولة لا تعتبر أي من تلك اللغتين لغتها الرسمية؟ وبالتالي ما مدى حجية التعامل مع الرسائل والبيانات الالكترونية التي تتضمنها تلك المواقع؟.
الحقيقة وحسب التشريعات التي اطلعنا عليها نجد أنها لا تحدد لغة التعامل وإن كانت قوانينها تتضمن قاعدة تعتبر مبدأ عاما في مجال التعامل والمتمثل في إبرام العقد باللغة التي يفهمها المستهلك باعتباره طرفا ضعيفا في العلاقة العقدية، وقد برر الفقه، عدم اشتراط استخدام اللغة الوطنية (للدولة العربية) في التعاقد الالكتروني، بكون شبكة الانترنيت شبكة عالمية والعقد الالكتروني هو في الغالب عقد دولي ومن ثم يصعب اشتراط اللغة العربية في التعاقد.
ثانيا: أن يكون المحرر الالكتروني مستمرا
حتى يمكن الرجوع إليه وهو نفس ما نصت عليه المادة 4 من قانون 03. 53، والحقيقة أن شرط الاستمرارية يصعب توافره في المحرر الالكتروني على عكس المحرر الورقي، وذلك بالنظر للمواد المستعملة في حفظ هذه المحررات المتمثلة في الشرائح الممغنطة، الشيء الذي يسهل معه تلفها مما أدى بالمهتمين بمجال الحاسوب إلى اختراع أدوات جديدة تحفظ البيانات الالكترونية لمدة أطول.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أنه لا تعد الكتابة دليلا كاملا في الإثبات، إلا إذا كانت مقرونة بتوقيع الشخص مصدر السند، هذا التوقيع الذي لا يمكن أن يكون في الكتابة الالكترونية سوى توقيعا الكترونيا، وهو ما سنتناوله في النقطة الموالية.
الفقرة الثانية: التوقيع الالكتروني Signature électronique
رغبة في حماية التجارة الالكترونية كعقد معلوماتي، وتماشيا مع الطبيعة الخاصة لذلك العقد وما يتطلبه من ضمانات الأمن والخصوصية على شبكة الانترنت، فقد عمل المتخصصون على خلق تقنية التوقيع الالكتروني، باعتبارها الآلية التي تمكن من الحفاظ على سرية المعلومات وكذا الرسائل المرسلة في إطار العلاقات التعاقدية، هذا بجانب كون الكتابة والتوقيع اليدوي لا يمكن تحققها إلا عند الحضور الشخصي للموقع أو لمن ينوب عنه.
فما المقصود بهذا النوع من التوقيع؟ وما هي القوة الاثباتية التي يتوفر عليها؟
أولا: تعريف التوقيع الالكتروني
بخصوص التعريف فإن قانون 03. 53، لم يعطي أي تعريف للتوقيع الالكتروني على عكس المشرع المصري في قانون رقم 5 لسنة 2004، وكذا المشرع الأمريكي في قانون 30 يونيو 2000 حيث عرفه بأنه: “شهادة رقمية تصدر عن إحدى الهيئات المستقلة وتميز كل مستخدم يمكن أن يستخدمها في إرسال أي وثيقة أو عقد تجاري أو تعهد أو إقرار”
كذلك قانون إمارة دبي رقم 2 الخاص بالمبادلات والتجارة الالكترونية لسنة 2002، حدد بشكل واضح المقصود بالتوقيع الالكتروني حيث جاء في المادة 10 منه أنه: “وثيقة رقمية صادرة عن هيئات مستقلة تستخدم لإرسال تعهد أو إقرار أو عقد تجاري عن بعد”.
جل هذه التعريفات تبلور إلى حد كبير التعريف الذي جاء به قانون اليونسترال النموذجي للتجارة الالكترونية لسنة 2001 المتمثل في كونها “بيانات في شكل الكتروني مدرجة في رسالة بيانات أو مضافة إليها، أو مرتبطة بها منطقيا، ويجوز أن تستخدم لتعيين هوية الموقع والتدليل على موافقته على المعلومات الواردة في رسالة البيانات” المادة 7 من القانون.
من خلال هذه التعريفات يتبين لنا أن التوقيع الالكتروني هو كل إشارة أو علامة أو رمز الكتروني يضاف على رسالة البيانات المعلوماتية، ينفرد به صاحبه ويمكن من التعرف على هويته وعن قبوله الالتزام بذلك البيان، وأن يتم ذلك الرمز أو العلامة بصورة تخول لصاحبه المحافظة عليه بشكل مستمر حتى يتمكن من كشف كل تعديل لرسالة البيانات قد يطرأ عليه لاحقا.
ثانيا: الحجية الثبوتية للتوقيع الالكتروني
(1) في التشريع المغربي:
المشرع المغربي في قانون 53/03 خاصة في المادتين 7 و21 منه، عمل على فرض حماية خاصة للتوقيع الالكتروني، حيث نص على ضرورة المصادقة على التوقيع أو اعتماده حتى يكون العقد المعلوماتي دليلا كاملا، كما أن المشرع المغربي يشترط لإضفاء الحماية القانونية وبالتالي القوة الثبوتية على التوقيع الالكتروني نحقق الشروط الآتية:
وجود رابط بين التوقيع ورسالة البيانات على نحو يمكن من التعرف على أي تعديل أو تغيير يطرأ لاحقا.
أن يتوفر صاحب التوقيع على المراقبة الاستئثارية للوسائل المادية للتوقيع.
من خلال هذه النصوص يتضح أن المشرع المغربي من خلال موقفه من التوقيع الالكتروني يوافق التشريعات المقارنة خاصة القانون النموذجي للتجارة الالكترونية، ذلك أن المشرع الأمريكي يساوي في الحجية بين التوقيع الالكتروني والتوقيع التقليدي. ونفس النهج سار عليه القانون البلجيكي، التونسي، الألماني، وكذا الفرنسي.
صحيح أن التوقيع الالكتروني لا يشبه التوقيع الخطي التقليدي من حيث الشكل، إلا أنه يناظره من حيث الوظيفة والهدف والحجية.
وتجدر الإشارة إلى أن صور التوقيع الالكتروني عديدة ومتشعبة، منها التوقيع الرقمي أو الكودي، التوقيع بالقلم الالكتروني، ثم التوقيع بالضغط على مربع الموافقة.
(2) في التشريع المقارن
أ/ التعديلات التي عرفتها نصوص القانون المدني الفرنسي في مسألة الإثبات
لقد تم تعديل التقنين المدني الفرنسي بموجب قانون رقم 230/2000 الصادر في 13 مارس 2000 المتعلق بتطويع قانون الإثبات لتكنولوجيا المعلومات والتوقيع الالكتروني.
شمل هذا التعديل كل من المواد 1316، 1317، 1326 من القانون المدني الفرنسي، وسنكتفي فقط بسرد نصوص المادة 1316 لإبراز التعديلات التي عرفتها وسائل الإثبات في التشريع الفرنسي، حيث أصبحت المادة 1316 من القانون المدني الفرنسي تنص على ما يلي:
“ينتج الإثبات بالكتابة عن طريق تسلسل في الحروف أو العلامات أو الأرقام وعن كل الإشارات والرموز التي تفيد مدلولا واضحا، كيفما كانت طبيعة دعامتها وطريقة إرسالها”.
أما الفقرة الأولى من المادة المذكورة فأصبحت كالآتي:
“الوثيقة الالكترونية لها نفس الحجية التي تتوفر عليها الوثيقة الخطية، بشرط أن تكون لها القدرة على تحديد الشخص الصادر عنه…”.
يظهر من خلال نص هذه المادة والمواد 1317 والمادة 1326، أن المشرع الفرنسي قد استجاب للتوجيهات الأوروبية الداعية إلى تطويع التشريعات الوطنية للدول الأعضاء لتنسجم مع قواعد هذه التوجهات، حتى تستجيب للتطورات الواقعة على وسائل الاتصال الحديثة، المشرع الفرنسي في هذه التعديلات وسع بشكل كبير من مفهوم الكتابة والتوقيع، بل إن المشرع الفرنسي أصدر مرسوما خاصا ينظم التوقيع الالكتروني، ليكون بذلك قد وضع أرضية تستوعب استخدام الوسائط غير الورقية في إثبات المعاملات الالكترونية في الحدود التي تكفل التنسيق بين التشريعات الإقليمية والتنظيمات الدولية.
ب/ التعديلات التي عرفتها نصوص القانون التونسي في مسألة الإثبات
بني تعديل نصوص الإثبات في المجلة التونسية للالتزامات والعقود على أساس المساواة الكاملة بين المحررات المكتوبة، دون تمييز بين وسائل الكتابة أو رموزها أو شكلها، وأيا كانت الدعامة التي دونت عليها، إلا أن المشرع الفرنسي حرص أن يذكر الكتابة على دعامات الكترونية والتوقيعات الالكترونية بوصفها عناصر في الدليل الكتابي المقبول في الإثبات.
كما أن التشريع التونسي، خاصة في الفصل 453 مكرر من المجلة التونسية للالتزامات والعقود، أقام نوعا من التكافؤ بين المحررات الورقية والمحررات الالكترونية، وهو الأمر الذي دفع بالمشرع التونسي إلى وضع تعريف للكتابة، بحيث يشمل كل تدوين لحروف أو العلامات أو الأرقام أو أي إشارات أو رموز أخرى ذات دلالة تعبيرية مفهومة للآخرين، أيا كان نوع الدعامة أو الحامل الذي دونت عليه.
لقد كانت غاية المشرع التونسي من هذه التعديلات وإصدار القانون رقم 83 لسنة 2000 الخاص بالتجارة والمبادلات الالكترونية، هي ضبط القواعد العامة المنظمة للمبادلات التجارية الالكترونية كما حدد القانون بدقة متناهية المصطلحات المتعلقة بالمبادلات التجارية وأهمها:
شهادة المطابقة الالكترونية
مزود خدمات المصادقة الالكترونية
منظومة إحداث الإمضاء
وسيلة الدفع الالكتروني
كما بين القانون التونسي طرق التعامل بالوثيقة الالكترونية والتوقيع الالكتروني والأجهزة المكلفة بالمصادقة الالكترونية.
المبحث الثاني: المقتضيات الخاصة للتجارة الالكترونية في المجال التجاري وحماية المستهلك
المجال التجاري وحماية المستهلك لا يقلان أهمية عن الميدان المدني، ولعل أهم الإشكال الذي يبرز في هذا المجال يتعلق بالأساس في كون أغلب الخدمات موضوع العقود والصفقات، والتي تقدم بالخصوص عبر شبكة الانترنت هي خدمات لا مادية “Incorporel” ومن ذلك بيع وشراء البرامج المعلوماتية “Les Logiciels” فمن المعلوم أن هذه البرامج تعتبر أشياء غير مادية أو غير محسوسة ومن ثم فمن المحتمل أن تثير العديد من المشاكل في أرض الواقع.
المطلب الأول: وسائل الأداء الحديثة والكشوفات الحسابية
إن المخاطر التي تثيرها وسائل الأداء التقليدية وانتشار التقنيات المعلوماتية والالكترونية، أدى إلى ظهور وسائل الأداء الحديثة والمتمثلة أساسا في البطائق البنكية والأوراق التجارية المعلوماتية.
فبخصوص البطائق البنكية، قد تم استعمالها في أول وهلة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال مطلع القرن 20، ثم انتقلت بعد ذلك إلى فرنسا التي أنشأت البطائق الزرقاء “Carte Bleu” لجعل حد لغزو بطاقات الأداء الأمريكية.
أنا بالنسبة للمغرب فقد كان الاستعمال الأول للبطاقات البنكية سنة 1929 وذلك في إطار قبول الأداء بواسطة البطاقات الدولية الأمريكية والفرنسية، وقد شكلت سنة 1982 نقطة الانطلاق لظهور أول بطاقة “أنتر بنك فيزا Inter Bank Visa “.
ونظرا لحداثة العهد باستخدام البطائق البنكية، فإنه لا يوجد تعريف جامع لها، ومع ذلك يمكن تعريفها من الناحية التقنية بكونها بطاقة بلاستيكية تقدمها مؤسسة بنكية لزبون يدعى المنخرط تسمح له حسب طرق تقنية أو أوتوماتيكية خاصة بكل بطاقة، بالأداء أو السحب.
والبطاقات البنكية عديدة ومتنوعة، حسب الوظيفة التي تقوم بها، وحسب تقنية استعمالها، من هذه البطاقات نجد:
بطاقة الأداء: “Carte de Paiement” تخول هذه البطاقة لصاحبها أداء جميع المبالغ المترتبة في ذمته اتجاه مورديه، حيث يلتزم مصدر البطاقة بالوفاء بالفاتورات التي يوقعها الزبون (حامل البطاقة) للتاجر المنخرط أو المورد الذي يقبل التعامل مع البنك مصدر البطاقة، ثم يعمل بعد ذلك البنك بإنقاص هذه المبالغ من حساب الزبون.
بطاقة السحب: “Carte de Retrait” هذه البطاقة تخول لحاملها سحب مبالغ مالية محددة من حيث المقدار عن طريق الشبابيك الأوتوماتيكية للبنك مصدر البطاقة أو غيرها من الأبناك المشتركة في إصدار هذه البطاقة.
البطاقة الخاصة: “Carte Individué” تمنح بواسطة المشروعات الكبرى حيث تخول لحاملها، الحصول على السلعة أو الخدمة دون دفع ثمنها حالا، حيث يتم تسويته فيما بعد بناء على الاتفاق المبرم بين صاحب المشروع وصاحب البطاقة.
المطلب الثاني: الحرية الفردية وحماية المستهلك
إن مضمون الحماية القانونية والاجتماعية، التي أقرها المشرع سواء فيما يتعلق بحماية الشغل أو صيانة المعطيات الاسمية للأشخاص وكذا تبادل المعطيات الالكترونية من شأنها أن تعمل على حماية المستهلك المعلوماتي، على الأقل في الجانب المتعلق بحياته، حيث خول له المشرع المغربي إمكانية الاطلاع على المعلومات والمعطيات المسجلة باسمه، حتى يتمكن من رفض المعلومات إذا كانت لا تمت إلى الحقيقة بصلة، هذا وقد عمل المشرع الفرنسي على تعريف حق الاطلاع بأنه حق الشخص الذي يدلي بما يثبت هويته بأن يسأل المصالح والمؤسسات المكلفة باستعمال معالجة معلوماتية وذلك لمعرفة إذا ما كانت هذه المعطيات تتضمن معلومات اسمية تخصه والتي يتعين أن تسلم إليه عند الاقتضاء.
بالإضافة إلى حق الاطلاع على المعطيات الاسمية فقد خول المشرع الفرنسي إمكانية تحرير المعطيات، هذه العملية التي من شأنها أن تسهل العمل، وذلك من خلال المعالجة المعلوماتية للمعطيات الاسمية، حيث جاء ذلك نتيجة لرغبة المشرع في توخي الدقة في إنجاز الأبحاث الإدارية والقضائية، والتأكد وبكل سهولة من صحة المعلومات التي يدلي بها الأفراد الخاصة لدليل التعريف الوطني وبجوازات السفر وغيرها من الخدمات.
وإذا كانت حماية الحرية الفردية للأشخاص وبالأخص الحياة الخاصة تتجلى من خلال حماية تحرير المعطيات أو حماية الاطلاع فإن ذلك لا يعني الحماية المطلقة للمستهلك المعلوماتي أو الالكتروني، فإلى أي مدى كان المشرع المغربي موفقا في تدخله التشريعي لحماية المستهلك من مخاطر التجارة الالكترونية؟
يتوقف تحديد نطاق حماية المستهلك يتوقف على تحديد مفهوم أو معنى المستهلك ولو بعجالة، فالاستهلاك “La consommation” لا ينصرف إلى فئة أو طبقة أو مجموعة مهنية، وإنما هو ضرورة يمارسها المجتمع، ومن ثم فكافة أفراد المجتمع في عداد المستهلكين، ومن ثم يجب عدم الوقوف عند المفهوم الاقتصادي للاستهلاك لتحديد المقصود بالمستهلك.
فالمشرع الفرنسي كان جريئا أكثر من المشرع المغربي حيث عرف المستهلك في قانون 28 لسنة 1978 الخاص بإعلام وحماية المستهلكين في مجال الائتمان، بأنه “من يقوم باستعمال السلع والخدمات لإشباع حاجياته الشخصية وحاجيات من يعولهم، وليس بهدف إعادة بيعها أو تحويلها أو استخدامها في نطاق نشاطه المهني”.
المستهلك في التجارة الالكترونية يكون عرضة أخطار كبيرة وسريعة، لذلك تتحد التشريعات ونظم الحماية بهذه التجارة في وضع المستهلك في قائمة أولوياتها لأن بدونه لن تنشط هذه التجارة، وما تجب الإشارة إليه هو أنه لا بد من تبني قوانين التجارة الالكترونية لمبدأ حماية المستهلك من الغش والتحايل الذي يقع ضحية له، ذلك أن المستهلك عبر الانترنت له ذات حقوق المستهلك العادي، ولا يفترقان سوى في التقنية التي يتعامل بها المستهلك في التجارة الالكترونية.
لكن الإشكال يبقى مطروحا وبإلحاح في ظل التجارة الالكترونية، حول القانون الواجب التطبيق في حالة وجود نزاع، خاصة وأن عقود الاستهلاك الالكتروني تتم من خلال شبكة الانترنيت لذلك فهي في الغالب عقود تنتمي لأكثر من نظام قانوني….
في هذا الصدد نجد أن التشريعات المقارنة (المصري، والفرنسي…) وضعت نصوصا خاصة لحماية المستهلك في مواجهة الطرف الأقوى في العقد، وتعد القواعد الواردة في قانون محل الإقامة المعتادة للمستهلك من أهم القواعد التي تعمل على حمايته، لذلك عملت القوانين المقارنة على سن قواعد إسناد تشير إلى تطبيقها.
محمد الماحي/دكتور باحث في قانون الأعمال والتجارة
اترك تعليقاً