التنافس التجاري في الشريعة الإسلامية
د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقد ذكرت المنافسة في النصوص الشرعية في مواطن كثيرة في معرض الذم، كما وردت أحاديث تدل على التنافس على الخير، ولو كان ذلك في الأمور الدنيوية إذا خلت من المفسدة، ولذا فيمكن أن يقال بأن حكم المنافسة على اكتساب عملاء جدد وتسويق السلع وزيادة الحصة السوقية وتعظيم الأرباح يحتمل أمرين:
الأول: الجواز، ويدل عليه الآتي:
1- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – سابق بين الخيل المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع[1].
وجه الدلالة: أن من يسبق سيحصل على نفع مادي.
ويمكن أن يجاب عنه بأن السبق إنما أجيزت المنافسة فيه لما فيه من استعداد للجهاد في سبيل الله، والتنافس على الدنيا ليس كذلك.
2- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – باع حلساً وقدحا، وقال:” من يشتري هذا الحلس والقدح؟ فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال – صلى الله عليه وسلم -:” من يزيد على درهم؟…” [2].
وجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أذن للصحابة في أن يتنافسوا في الحصول على السلعة المعروضة للبيع عن طريق المزايدة.
الثاني: الكراهة، ويمكن أن يستدل عليه ما يأتي:
1- قوله – صلى الله عليه وسلم – “أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها” [3].
ووجه الدلالة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ذكر التنافس في معرض الذم، وهذا دليل على الكراهة.
وأجيب عن ذلك بأن من معاني التنافس التحاسد، وهو المقصود من الحديث.
1- حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا” [4].
وجه الدلالة: أنه – صلى الله عليه وسلم – نهى عن التنافس، والمقصود التنافس في جمع الأموال.
ويجاب عن ذلك: بأن معنى الحديث، التنافس المسبب للحسد، قال ابن العربي [5] – رحمه الله – : قولُه: وَلَا تنَافَسُوا ولَا تَحَاسَدُوا” هل هما شيءٌ واحدٌ وفيهما معنى؟ فالجواب: أنّهما بمعنى واحد؛ لأنّ القرآن لا يتكرر إِلَّا لفائدة. وهذا الحديث أصل في الفصاحة، وعليه تتركَّب اللُّغة؛ لأنّ النّبيّ -عليه السّلام- أفصح ولد آدم. وقوله: “وَلَا تَنَافُسوا” والتّنافس هو التَّحاسد في الجملة، إِلَّا أنَّه يتميز عنه بأنّه سببه، وكأنّه قيل له: لا ترى نفسك خيرًا من أحد حتّى يحملك ذلك على الحقد والحسد [6].
2- حديث يزيد بن الأخنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” لا تنافس بينكم إلا في اثنتين: رجل أعطاه الله عز وجل القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ويتبع ما فيه، فيقول رجل: لو أن الله تعالى أعطاني مثل ما أعطى فلانا، فأقوم به كما يقوم به، ورجل أعطاه الله مالا، فهو ينفق ويتصدق، فيقول رجل: لو أن الله أعطاني مثل ما أعطى فلانا فأتصدق به”[7].
3- وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”إني لأعرف آخر رجل خروجا من النار رجل خرج زحفا، فقيل له: ادخل الجنة فيدخل ثم يخرج فيقول: يا رب قد أخذ الناس المنازل فيقال له: أتذكر الزمان الذي كنت فيه في الدنيا فيقول: نعم فيقول: تمنه، فيقول: يا رب تنافس أهل الدنيا في دنياهم وتضايقوا فيها فأنا أسألك مثلها، فيقول: لك مثلها وعشرة أضعاف ذلك فهو أدنى أهل الجنة منزلا”[8].
والراجح أن التنافس الذي يؤدي إلى مصلحة تطوير التجارة وتكوين فرص عمل جديدة، ونفع المستهلك يعد من التنافس على الخير، فإن كان على جمع حطام الدنيا مع التكاثر والتحاسد فهو من التنافس المذموم.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] رواه البخاري برقم 1053 ومسلم برقم 1491.
[2] رواه أبو داود 2/120 والترمذي 3/522 وحسنه، وابن ماجه 2/740، وفيه أبو بكر الحنفي مجهول الحال.
[3] رواه البخاري برقم 3158 ومسلم برقم 7535.
[4]رواه مسلم برقم 2563.
[5] هو محمد بن عبد الله بن محمد ، أبو بكر ، المعروف بابن العربي . حافظ متبحر ، وفقيه ، من أئمة المالكية ، بلغ رتبة الاجتهاد .ولد سنة 468هـ وتوفي سنة 543هـ . من أهم كتبه : ” عارضة الأحوذي شرح الترمذي ” ، و ” أحكام القرآن ” ، و ” المحصول في علم الأصول ” . شجرة النور الزكية ص 136، والأعلام للزركلي 7 / 106.
[6] المسالك في شرح موطأ الإمام مالك لابن العربي 7/272، وانظر القبس 3/1099، والاستذكار 26/146.
[7] رواه أحمد في مسنده برقم 16966، وقال عنه شعيب الأرناؤوط: صحيح لغيره.
[8] رواه ابن حبان – الإحسان برقم 7427، وصححه شعيب الأرناؤوط في تخريجه للإحسان، وقال الألباني: صحيح – «مختصر الشمائل» (197).
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً