السـلطــــة: من قوة الحق إلى حق القوة
حبيب عيسى
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
(1)
بالتزامن مع هيمنة الأفكار، والنظريات الأوروبية في المجالات كافة، بدأ التسويق للفقه القانوني والتشريعي والفلسفي الأوروبي في العالم على أنه هو المصدر، والمآل، وما يزيد الأمر صعوبة أن الفقه القانوني، والفكري، والفلسفي في أوروبا لم يتعرض لمسألة “شرعية الدولة” إلا نادرًا، ذلك أنه اهتم بمشروعية القوانين النافذة الصادرة عنها، وطبيعية النظام: ديمقراطي، استبدادي، وتوجه الدولة: اشتراكي، رأسمالي، تعاوني، ونوعية الدولة: بسيطة، فيدرالية، اتحادية، كونفدرالية، ونوعية الدستور، كون النظام جمهوريًا رئاسيًا، أو نيابيًا، أو تعدد أحزاب، أو حزبًا واحدًا. وهذا الاهتمام طبيعي، وذلك العزوف عن التركيز على شرعية الدولة في أوروبا له ما يسوّغه، ذلك أن الفقه في التشريع الأوروبي لم يواجه بدول مصطنعة، تُفرض من الخارج على الأمم الأوروبية، وإنما حسم الصراع بين الإمارات، والكنيسة، واستطاعت الأمم الأوروبية، بدءًا من القرن السادس عشر أن تقيم دولًا، تتطابق حدودها الجغرافية والبشرية مع الحدود الجغرافية والبشرية للأمم الأوروبية، مكتملة التكوين، واتُفق على تسويات تشمل التخوم المختلطة بين تلك الأمم، فقامت دولة اتحادية لا تجور فيها أمم على أمم أخرى، ثم، وفي مرحلة تالية، جاء الفقه القانوني والسياسي الأوروبي للتشريع للدول التي قامت، وصوغ منظوماتها القانونية النافذة.
وهذا الفقيه لاسكي يعترف بإن الفقه القانوني الصادر عن المدارس الفقهية الأوروبية، وتأخذ عنه أغلب دول الأرض هذه الأيام منظوماتها القانونية، يستند إلى المعايير السائدة في الدول الأوروبية، على الرغم من الادعاء بأن هذا الفقه إنساني عام لكل زمان ومكان، يقول لاسكي: ” ما أعنيه بكلمة المجتمع، هو مجموعة من البشر يعيشون سويًا، ويعملون معًا من أجل إشباع حاجاتهم المشتركة…، ولكننا لأسباب تاريخية، وجغرافية مختلفة…؛ سنقصر اهتمامنا على مجتمعات مثل انجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وروسيا.. “(1).
(2)
وبما أن مشكلة “شرعية الدولة، ومشروعية ما يصدر عنها” تكاد تكون مشكلة عربية في الأوضاع الراهنة، وذلك بعد أن جرت تصفية أغلب الدول المُصطنعة التى نتجت عن حروب دولية عالمية، أو اتفاقيات استعمارية، فسقط جدار برلين مع سقوط الحرب الباردة، وكانت الحدود التي تُقسّم أمة فيتنام قد سقطت تحت أقدام ثوار فيتنام الموحدة، مُعمّدة بجثث المحتلين الأميركيين، وهذه كوريا تتلمس طريقها إلى الوحدة.. يبقى الوضع الشائه الصارخ في تحدي الأمة العربية وجودًا، حيث “دول”، و”أشباه دول” قررّتها الدول الاستعمارية، ونفذتها جيوشها، وأخرجها للوجود ساستها الذين صاغوا هياكلها، ونُظمها، وأدواتها، وهى منتشرة كالسجون بين المحيط والخليج، تُكبّل الشعب العربي، وتمنعه من التقدم والحياة بما يملك من ثروات..، وفي ظل وضع كهذا …، من الطبيعي أن يتصدى الفقه العربي لمعالجة هذا الوضع، وهذا الدكتور عصمت سيف الدولة يقول بأكبر قدر من الوضوح: “طبيعي أن الفكر الأوروبي في علم الاجتماع، أو علم القانون الذي غُرس في رؤوسنا، وما يتردد في الكتابات الغربية عن الشرعية، و”سيادة القانون”، قد تجاهل كل ما يُمكن أن يمد البحث في الشرعية إلى مطابقة الدولة للوجود الموضوعي للمجتمع، أولًا؛ لأن تلك مشكلة لم تكن مُثارة لدى أساتذة القانون في أوروبا الاستعمارية.
وثانيًا، لأنه لم يكن من مصلحة أوروبا الاستعمارية أن تُعلمّ أبناء المستعمرات، ما يُنبههّم إلى عدم شرعية النظم القانونية التي أقامها المستعمرون. وهكذا نفتقد في الدراسات القانونية المتداولة في الجامعات العربية، ذلك العنصر الأساس في قياس الشرعية (أو سيادة القانون)، وهو ما إن كانت الدولة – اصلًا -مشروع قيامها، وننسى حتى من الناحية القانونية الفنية أن البحث عن شرعية القانون الوضعي يجب أن يمتد إلى وجود الدولة بحساب أن الدولة نظام قانوني وضعي. ونتحدث عن الديموقراطية، ونحتكم إلى أغلبية الشعب. الأغلبية (العددية).
بدون أن نفطن إلى ضرورة معرفة (عدد) الشعب الذي يعنينا رأيه، في الغايات الاجتماعية التي يجب أن يستهدفها القانون الوضعي. ونغفل عن الملايين التي حُرمت من حق الاستفتاء، والانتخاب، والتمثيل لأن مليونًا في الكويت، أو مليونين في لبنان، أو عشرة ملايين في سورية قد يحتكمون في الشرعية إلى الأغلبية التي حددّها دستور دولتهم، مع أن دولتهم تلك ليست إلا حاجزًا مانعًا رادعًا لملايين الشعب خارجها من أن تُسهم في إرساء قاعدة للشرعية في وطنها العربي الواحد”(2).
(3)
إذن؛ وقبل البحث في مشروعية القوانين النافذة الصادرة عن أجهزة الدولة لا بد من تمحيص مشروعية تلك الأجهزة، ثم التحقق من أن هذه الأجهزة مستندة إلى شرعية الدولة المستندة بدورها إلى الحق، حق الأمة في أن تتطابق حدود دولتها القومية مع حدودها الجغرافية (أرضًا)، وحدودها البشرية (شعبًا).
فماذا عن هذا الحق
يُعرّف الفقهاء “الحق” بإنه تعبير يُطلق على ما يختص به الإنسان، ولا يشاركه فيه أحد غيره، وهو مُطلق من الناحية الموضوعية، ولكن عندما يُطلق هذا التعبير على العلاقات التى تنشأ في التعامل بين الأفراد، وبين الدولة، أو بين الدولة والأفراد، أو بين الدول، على حد سواء، وفي النواحي التنظيمية كافة، والتنفيذية. يُستعمل التعبير في هذه الحالة بلفظ العموم أي بلفظ “الحقوق “(3).
ويقولون: “الحق: 1- مكنة قانونية، 2- تهدف إلى مصلحة مشروعة، 3- وتخوّل صاحبها القيام بعمل، 4- أو إجبار آخر على أدائه، وعندما يُقرّر القانون حقًا من الحقوق في صدد تنظيمه الروابط والعلاقات، فإنه يفرض واجبًا يُقابل ذلك الحق”(4).
وفي عصر الرومان، رأى الفقيه سرفيوس: ” أن العدالة أساس القانون”(5)، واستنادًا إلى هذه القاعدة، قال الفقيه “ابليتون”: “بوجوب إغفال النصوص، والقواعد القانونية إذا ما أدى الأخذ بها إلى نتائج تتجافى وأصول الأخلاق، والعدالة “(6).
وفي العهد الأول من العصر الروماني، منح الرومان رب الأسرة أربعة حقوق مُطلقة، وغير مُقيدّة بأي قيد، وهي:
“1- حق الأب على بنيه”.
“2- حق السيد على عبيده”.
” 3- حق الزوج على زوجته”.
“4- حق الملكية”(7).
(4)
وقبل الرومان، وقبل التدوين، انتقل إلينا -عبر ذاكرة الأجيال المتلاحقة- أن الإنسان البدائي، ومنذ أن بدأ يتحّول إلى كائن اجتماعي على صعيد الأسرة، تولدت لديه الحاجة إلى السلطة، وبدأ التمايز بين البشر على صعيد الحق في السلطة لبعضهم، والواجب في الخضوع لدى بعضهم الآخر، وعلى الرغم من أن الإنسان القديم لم يمتلك ملكة التدوين، وصوغ النظم القانونية إلا نادرًا، فإنه بحث مبكرًا عن مستند للحق في السلطة، ومنذ تشكيل أول وحدة اجتماعية وهي (الأسرة).
ومنذ البداية تنوعّت مصادر الحق بتنوع الملكات المتوافرة لمن يدعّي حقًا في السلطة، فتارة يُسند هذا الحق إليه، كونه الأكثر حكمة، وتارة يُسند إليه كونه أكثر قوة، وبالتالي أقدر على توفير الحماية، والأمن للجماعة، وتارة لإنه مسؤول عن توفير الطعام، والكساء لهم، وفي مرحلة تالية السكن.. واستنادًا إلى هذا كله، أو إلى بعضه فإن له على الجماعة حق الطاعة، وعليهم واجب الانصياع، وله حق الإدارة، وتوزيع العمل، والتوجيه، وعليهم واجب التنفيذ.
(5)
وعندما توسعت الأسرة، وتعددّت فيها مراكز القوى ولم تعد هناك مرجعية واحدة قادرة على الإحاطة بتسيير شؤون الجماعة، وحمايتها، كان لا بد من إشباع هذه الحاجة بتشكيل العشيرة من مجموعة من الأسر المتسلسلة في نسبها، وكان لا بد من أن تُسند السلطة إلى شيخ العشيرة الذي كان يستند حقه في السلطة إلى أنه -ربما- أكثر حكمة، وربما؛ لأنه ينتسب إلى أكبر الأسر، وربما للنسب، كونه من صلب زعيم العشيرة الراحل، وربما لأنه الأقوى، والأقدر، فمشكلة الأمن، والحماية مشكلة رئيسة؛ إذ على حلها يتوقف بقاء العشيرة، أو زوالها، وغالبًا ما كان الحق في السلطة يستند إلى هذه الحالة (القوة)، وهكذا، فإن الحكماء والفقهاء وأصحاب الرأي في العشيرة تحولوا إلى مستشارين في مجلس شيخ العشيرة الذي هو الآمر الناهي، وهكذا فإن اقتراحاتهم نافذة، ليس بحسب قوتها واستنادًا إلى الحق، وإنما بحسب تفهّم شيخ القبيلة، وقوة سطوته، ومنذ ذلك العصر، وإلى الآن، والحق يدور في فلك القوة يبحث لها عن تسويغ ومستند، ويقونن أفعالها وممارساتها، لحظات قليلة في تاريخ البشرية تلك التي استطاع فيها الحق أن يُخضع القوة لمشيئته، صحيح أن مؤسسات الحق تطورت، وتشعبّت، لكن مؤسسات القوة تعززت أيضًا، ولعل الصراع بين الحق والقوة سيبقى يحكم مصير البشرية، والمعركة سجال، إلى أن تُحسم بإحدى النتيجتين التاليتين:
1- أن تنتصر القوة، ويتحول الحق إلى وضع شكلاني تابع لها نهائيًا، وفي هذه الحالة تتحول القوة إلى قوة غاشمة، تُدمّر نفسها، وُتدمر البشرية، خاصة بعد التطور الهائل في الأسلحة.
2- أن ينتصر الحق، ويُخضع القوة لنواميس مشروعة، تستند إلى أوضاع شرعية، وفي هذه الحالة تُستخدم القوة في حدود الإكراه المشروع للانضباط في ظل الشرعية والمشروعية؛ فتزدهر البشرية، وتواصل تطورها وتقدمها باتجاه فتح أبواب جديدة؛ لتلبية مزيد من الحاجات، ورفع راية الحرية المُسندة إلى المعرفة والعلم في مواقع جديدة، كانت مجهولة للإنسان.
هوامش ومراجع:
(1) هارولد لاسكى- الدولة في النظرية والتطبيق- مصدر سابق- صفحة (40).
(2) د. عصمت سيف الدولة- نظرية الثورة العربية- الجزء السابع- مصدر سابق- صفحة (109).
(3) د. زين العابدين بركات – مبادىء القانون الاداري – جامعة دمشق- صفحة (12).
(4) حسين عامر- التعسف في استعمال الحقوق والغاء العقود- مطبعة مصر- الطبعة الأولى – صفحة (1).
(5) و(6) و (7) المصدر السابق- صفحة (14).
اترك تعليقاً