الشـائعات فـي قانـون العقوبـات السـوري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
تلعب الحرب النفسية دوراً هاماً في حياة الأمم والشعوب في هذه الحقبة الساخنة من تاريخ البشرية حيث تتصارع الايديولوجيات والقوى للسيطرة على العالم شعوباً ومصادر الطاقة ومناطق النفوذ في ظل نظام عالمي جديد تسعى فيه الدول الكبرى إلى السيطرة على الدول الصغرى اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً. ومنذ بدء الخليقة ظهر نوع من الصراع يستهدف أعماق البشر وما يختلج في نفوس الناس من قلق وخوف وكراهية وآمال، يؤثر فيهم ويوجههم الوجهة التي يبتغيها لتحقيق أغراضه التي يطمح إليها. وإذا كانت الحرب المسلحة في ميادين القتال بين قوات حربية تتلاقى القوة المادية العسكرية بأخرى مثلها، فإن الحرب الخفية هي التي لا يظهر فيها العدو الحقيقي بصورة سافرة ولا يكشف عن غايته من هذه الحرب.. ولهذا يقع المواطنون الأبرياء فريسة سهلة في أيدي هذا العدو الذي يتخذ منهم جسراً يحقق عن طريقه ما لم يستطع تحقيقه في حرب فعلية مكشوفة، يطلق عليها “الحرب النفسية” تمييزاً لها عن الحرب العسكرية لأنها تستهدف عقل الإنسان وتفكيره ومشاعره بغية تحطيم روحه المعنوية واستدراجه إلى الانهزامية وإلى زعزعة الثقة والترابط بين جبهته الداخلية، والجبهة العسكرية.. وعلى الأخص في هذا الوقت الذي انتشرت فيه وسائل الاتصال انتشاراً واسعاً عن طريق السمع أو المشاهدة أو غيرها من الوسائل الأخرى.
وكما للحرب العسكرية في ميادين القتال أسلحتها المدمرة التي تفتك بالأنفس وتحصد الأرواح، فإن للحرب النفسية أسلحتها أيضاً، وفي مقدمتها، “الشائعات”؛ فهي حية “رقطاء” تثبط الهمم وتنفث سمومها في كل قطاعات الدولة، فتسري في الناس مسرى الهواء الذي يستنشقونه، لا يحدها حدّ ولا يوقفها جدار ولا يُعرف سامعها ولا مرددها أو ناقلها.. وأثرها فتاك على معنويات الناس والجيش. من هنا تبرز خطورة الشائعات على الأمن القومي خاصة أن جانباً كبيراً من أحاديثنا الاجتماعية العادية ينطوي على تداول مبتذل للشائعة؛ فنحن في أحاديثنا اليومية مع الأقارب والأصدقاء.. بل مع الغرباء نأخذ ملء الرئتين شهيقاً وزفيراً من الشائعات.
ولما كان علم الاجتماع يرى أن البحث العلمي لا يكون منتجاً إلا بوجود مشكلة وتحديد عناصرها والحلول لها، فإنه، ونظراً للوضع الحالي الذي نعيشه في سورية اليوم، كان لابد من دراسة موضوع الشائعات وأثرها من مختلف الجوانب؛ ومنها القانوني!! فهي سلاح رهيب من أسلحة الحرب النفسية يكاد يفتك بمعنويات الشعوب لما تبثه من أضاليل وأكاذيب وافتراءات بهدف شلّ الجيش والشعب عن مواجهة هذه الحرب القذرة، وجعله ينقاد كما ينقاد قطيع الغنم الذي يهيئه راعيه نحو المستقبل المجهول، أو ينطق نطق الببغاء الذي يردد ما لا يعقله ويحكي ما لا يفهمه. ولذلك كان منطقياً أن يتدخل المشرّع الجنائي في أي مجتمع ـ والسوري منه ـ لحماية مجتمعه من أثر الشائعات ومحاربتها بلا هوادة، كظاهرة من الظواهر التي تشكّل خطورة بالغة على أمن المجتمع وسلامته، وعلى الأمن القومي ومصلحته الوطنية.. لذلك نجد أن المشرّع السوري عاقب على هذه الجريمة تحت عنوان النيل من هيبة الدولة ومن الشعور القومي، فنص في المادة 285 من قانون العقوبات على:
“من قام في سورية في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوة ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت”.
إن المشرّع السوري عاقب من يستغل الضغط الاجتماعي والنفسي زمن الحرب أو عند توقع نشوبها، ويعمد إلى نشر التقولات الزائفة للتأثير على الروح المعنوية للناس والجيش مستغلاً حالة الغموض التي تُفرض على الأخبار ـ التي تهم الجمهور أن يعرفهاـ لدواعي الأمن القومي؛ فالتخريب المعنوي ليس بأقل أهمية عن التخريب المادي لأنه لو وجّه إلى أفراد الجيش، فمن الجائز أن يبث فيهم روح الهزيمة، وأن تنتشر بينهم هواجس الخوف والفزع والهلع من أهوال الحرب، فتنهار بذلك عزائمهم والتي لا قيمة للقوة المادية العسكرية بدونها، فيحدث الاستسلام..
وإن وجه التخريب المعنوي، للشعب فقد يضيق ذرعاً بمصاعب الحرب وقيودها وعلى الأخص أنه عند نشوبها تكون المعنويات مرتفعة نتيجة التعبئة الوطنية المكثفة، حيث تغمر كل أبناء الشعب موجة دافقة من الحماس الوطني والرغبة الخالصة نحو تحقيق النصر على العدو.. ولكن كلما طالت الحرب وتعقدت أحداثها لا يلبث أن يتناقص ذلك الحماس، حيث ينشغل الناس بالتفكير بالمشاكل والأزمات التي ولدتها تلك الحرب، فيعتريهم نوع من القلق والخوف والاضطراب على حياتهم الحاضرة والمستقبلية.. مما يكون له أسوء الأثر على معنويات القوات المسلحة ذاتها، لإحساسها عندئذ بفقدان دعائم المساندة والتأييد من الداخل، أو بالأصح بتفتيت الجبهة الداخلية التي تعدّ الركيزة الأولى في تحقيق النصر على العدو في ميادين القتال. وهكذا يتضح لنا لماذا ساوى المشرّع السوري في العقوبة بين صانع الشائعة وناقلها في المادة 286 من قانون العقوبات من أنه:
“1ـ يستحق العقوبة نفسها، من نقل في سورية في الأحوال عينها أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة”.
وبقراءة تحليلية للفعل المجرّم في المواد السابقة نجد أنها تندرج ضمن إطار التجريم العام الاحتياطي؛ فالتجريم العام يتجلى في أن الأفعال المذكورة تدخل في نطاق تجريم أصلي ومتصل به أشد خطورة وجسامة وأخص من حيث شروطه والقصد فيه، وهي الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي من خيانة وتجسس لمصلحة العدو وإقامة صلات غير مشروعة معه. والصفة الاحتياطية تتجلى في إرادة المشرّع بعدم الرغبة في إفلات من يخدم العدو بشكل غير مباشر، ولا تندرج أفعاله ضمن الخيانة أو التجسس أو إقامة صلات مع العدو، لأنه من الجائز أن تنتفي أحد الأركان المنصوص عليها في الجرائم السابقة عن فعل الجاني.
لذلك يمكن وصف الأفعال السابقة من قبيل التخريب المعنوي المقابل للتخريب المادي الذي يقوم به العدو، وهذا الأمر ضمن سياسة المشرّع في التجريم في جرائم أمن الدولة القائمة على العمومية والتجريد واعتماد العبارات المرنة وغير المحددة بدقة ووضوح. ويبرر هذا الخروج خطورة هذه الزمرة من الجرائم من جهة، وأهمية الحق المعتدى عليه من جهة أخرى. لكن الفقه الجنائي عرّف الشائعة أنها: “رواية لوقائع بحيث ترتفع إلى السامع على أنها ما يردده الناس سواء تعلقت بالماضي أو الحاضر أو المستقبل”، بينما يذهب الدكتور رمسيس بهنام إلى تقسيمها إلى نوعين:
أـ عادية: ويعرفها، بأنها التعليق على واقعة حدثت فعلاً، تعليقاً لا يتفق مع حقيقتها بخصوص الدافع إليها ومن كان طرفاً فيها.
بـ – مغرضة: ويعرفها، أنها التعليق على واقعة بأمر له ظل من الحقيقة وإنما مبالغ فيه.
وبناء على ما تقدم، يمكننا القول أن الشائعة تعتبر نوعاً من الأخبار الكاذبة التي يتناقلها الناس دون التحقق من صحتها، ودون أن ترتكز على مصدر موثوق يؤكد صحتها، وإن كانت تتضمن شيئاً من الحقيقة ولكن يغلب عليها أنها مختلقة، إلا أنها خلافاً للأخبار قد تتعلق بالماضي أو الحاضر أو المستقبل.
أركان الجريمة:
الركن المادي:
ويتجلى في إذاعة أخبار أو بيانات أو إشاعات كاذبة أو مغرضة من شأنها إلحاق الضرر بإحدى المصالح المبينة في المواد السابقة، ويراد بإذاعة الأخبار تداول روايتها وبثها بين الناس على النحو الذي يجعلها معلومة لعدد غير محدد من الأفراد.. وإلا فلا يصدق عليها وصف الشائعة؛ فلا بد من سلوك إيجابي، إذ مجرد الاستماع لمضمون الشائعة هو موقف سلبي لا تتوافر به هذه الجريمة قانوناً، وتتم الإذاعة التي يعاقب مرتكبها بأي وسيلة يترتب عليها انتشار الشائعة؛ فقد تكون شفوية أو بطريق الخطابة في محفل عام أو بالكتابة في خطابات أو مقالات تنشر في الصحف أو وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة. ولا يشترط لقيام الجريمة تحقق الخطر أو وقوع الضرر فعلاً، فيكفي لنشوء المسؤولية أن يكون الفعل متصفاً بالخطر أو بالأحرى، أن يكون من المحتمل أن يؤدي في الظروف والملابسات التي أحاطت به إلى إلحاق الضرر بإحدى المصالح محل الحماية الجنائية.
وتقدير قيام الخطر من صميم اختصاص قاضي الموضوع؛ فللمحكمة سلطة تقدير ما إذا كانت الشائعات الكاذبة قد بلغت درجة من الخطورة التي جعل الشارع منها جريمة مستوجبة للعقاب في المواد 285 و286 و287 التي تعد من جرائم الخطر التي يكتفي فيها المشرّع بأن يترتب الخطر على السلوك الإجرامي خطر على الحق محل الحماية دون اشتراط الإضرار الفعلي، أو بالأحرى تحقق النتيجة الإجرامية المرجوة من السلوك؛ فالنتيجة لا تدخل كعنصر لازم لتكوين النموذج القانوني للجريمة، ويتمثل هذا الخطر في التهديد بالضرر الذي هو تقييم قانوني للوضع الناشئ عن السلوك بالنسبة للحق محل الحماية. وهذه هي السمة العامة التي تميز جرائم أمن الدولة ـ سواء من جهة الخارج أو من جهة الداخل ـ فالمشرّع يعاقب فيها تحت وصف الجريمة الكاملة الأفعال التي تشكل خطراً ولو لم يتحقق ضرر بالفعل.
الركن المعنوي:
لا يكفي لتوقيع العقاب على الجاني الذي يذيع شائعات كاذبة أو مغرضة قيام القصد العام المكون من علم وإرادة، بل لا بد من توافر قصد خاص يتجلى في صورة سلوك يرمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية؛ فلا يكفي أن يكون عالماً بأن ما يذيعه مجرد شائعة، بل يتعين أن يكون “انتوى” الإضرار وتحقيق النتيجة المرجوة، وهذه النية الخاصة رغم عدم الإفصاح عنها صراحة في صياغة النص، إلا أنها مستخلصة من الشروط والملابسات التي أوجب المشرّع توافرها حتى يحق العقاب على مرتكب الجريمة؛ فالمعنى الظاهر في المادة يفيد فعلاً أن العمد منصبّ على الإذاعة بقصد إضعاف الشعور القومي، فإذا لم يتوافر العمد ونية الإضرار في فعله، فإن الفعل في هذه الحالة يكون مجرماً بموجب الفقرة الثانية من المادة 286 والتي تنص على أنه:
“إذا كان الفاعل يحسب هذه الأنباء صحيحة فعقوبته الحبس ثلاثة أشهر على الأقل”.
وفي الختام، لاعبرة لجنسية الفاعل سواء كان سورياً أو أجنبياً عند ارتكاب الجريمة أو مكان وقوعها؛ فالجريمة تأتي أهميتها من خطورة الشائعة على الرأي العام التي تسبب في لحظات معينة شلالات من العنف تجرف في تيارها الجموع من البشر وتتسلل إلى عقول وقلوب الجماهير وتغدو كوباء اجتماعي يصيب الإنسان والمجتمع، فلا يستطيع الابتعاد عنه أو التخلص منه بسهولة ما لم يتكاتف أفراد الشعب في مقاومتها بوعيهم ودرئها بكل قوة وحسم.
اترك تعليقاً