الشركات المتعددة الجنسيات… هل تقود العالم؟
يتوزع الفاعلون الرئيسون في العلاقات الدولية المعاصرة كالآتي: “الدولة” التي تعتبر أقدمهم، المنظمات الدولية (حكومية وغير حكومية)، والشركات المتعددة الجنسيات، وبعض الأشخاص أصحاب النفوذ والتأثير الدولي.
وإذا كانت “الدولة”، بما تمتلكه من سيادة، الأقوى على الساحة الدولية؛ فإن قدراً لا يُستهان به من قوتها يتمثل في قوة ما تملكه من شركات متعددة الجنسيات، ومدى تناغمها معها. ولنا أسوة في ما تثيره شركة “هواوي” من تأثير واضح على الساحة الدولية أخيراً، فاختصامها من جانب أميركا يؤكد أهميتها، كما أنها نقطة خلاف حقيقية بين أميركا وبريطانيا بعد أن اعتمدتها الأخيرة لتطبيق الجيل الخامس على أراضيها، في ظل اعتراض أميركي يتهم “هواوي” بالتجسس لصالح الصين، بل أن تقارير نُشرت أخيراً اتهمت الشركة بالتواطؤ مع حكومات إفريقية ضد معارضيها. وللشركات المتعددة الجنسيات (Multinational Corporation أو MNC أوMultinational Enterprise أوMNE ) سمات محددة؛ فعلى رغم أن استراتيجياتها وسياساتها وما تنتهجه من خطط عمل تُصمم في مركزها الرئيس الموجود في دولة معينة تسمى الدولة الأم Home Country، إلا أنها، ولمعيار الكفاءة فحسب، تخضع لسيطرة جنسيات متعددة، ويتولى إدارتها أشخاص من جنسيات متعددة، وتمارس نشاطها في دول متعددة، وتتنوع منتجاتها وأنشطتها على نحو كبير بحيث تعوض مكاسب منتج أو نشاط خسائر منتج أو نشاط آخر، وسعيا نحو الربح؛ فإن التوسع الأفقي ضرورة لها، مثلما أن التخطيط الاستراتيجي يمثل مرتكزاً حقيقياً في إدارتها. ولتحقيق ذلك، ومع حتمية المحافظة على القوانين المحلية والدولية، تحرص هذه الشركات على استقلالها؛ ومن ثم امتلاك حرية تحريك مواردها وعناصر إنتاجها وما تمتلكه من تكنولوجيا ونقلها؛ أي أنها مؤسسات فوق القوميات Supra National.
ومع التنويه إلى أن القيمة السوقية للشركات المتعددة الجنسيات تتحرك بشكل يومي نتيجة حركة أسواق المال العالمية صعوداً وهبوطاً، فإن دراسات حديثة تُشير إلى أن العام 2018 كان عاماً لإعادة ترتيب القيمة السوقية لأكبر الشركات العالمية، بعد أن فقدت خلاله نحو 15 في المئة من قيمتها السوقية، غير أن شركات التكنولوجيا وتقنية المعلومات والإنترنت احتفظت بالقمة، ما يؤكد عمق صلة الشركات متعددة الجنسيات بالعولمة. إذ احتلت أول أربعة مراكز في القائمة شركات “مايكروسوفت” و”آبل” و”ألفابت” و”أمازون”، إضافة إلى “فيسبوك” في المركز السادس، بل القيمة السوقية لهذه الشركات ارتفعت إلى ما يزيد على 3.3 تريليون دولار بزيادة قدرها 20 بليون دولار عن قيمتها نهاية عام 2017.
وبعد مفاوضات هاتفية أخيرة، قررت أميركا، في الثالث عشر من آب (أغسطس) الجاري، تأجيل تنفيذ تهديد الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم بنسبة عشرة في المئة على البضائع الصينية المتبقية البالغة قيمتها 300 بليون دولار والتي لا تخضع للرسوم الجمركية في الوقت الحالي، حتى منتصف كانون الأول (ديسمبر).
وأفادت شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأميركية، في تحليل نشرته في الثامن من آب (أغسطس)، بأن القرار سيشمل أجهزة تكنولوجية منها الكمبيوتر المحمول والهواتف الذكية؛ ومن ثم ستتضرر بشدة صناعة التكنولوجيا الأميركية. ولذا يرى خبراء التكنولوجيا أن أرباح “آبل” ستنخفض بنحو أربعة في المئة في عام 2020. ويعتبرون أن تهديد ترامب أعاد سحابة مُظلمة فوق شركة “آبل”، ووصف بعضهم هذه الرسوم بأنها “لكمة للشركة”، وأجمع الخبراء على أن “آبل” عالقة في المواجهات بين واشنطن وبكين. وهنا تجدر الإشارة إلي أن شركة “آبل” كانت أول شركة أميركية تصل قيمتها السوقية إلى تريليون دولار في آب (أغسطس) عام 2018، ثم تراجعت بفعل هبوط أسهمها بضغط من تناقص المبيعات جراء ضعف الأسواق الناشئة، وهذه كلها أمور وثيقة الصلة بالحرب التجارية التي يشنها ترامب في كل الاتجاهات، حتى أن حلفائه في أوروبا لا يملكون استثناءً منها.
ولعل في ذلك نموذجاً يُبين كيف أن السياسات الحمائية التي يتبعها ترامب، تعادي قواعد التجارة الحرة التي أفرزت العولمة؛ مثلما يناقض أحد السمات الرئيسة للشركات متعددة الجنسيات التي أشرنا إليها، وهي القدرة علي نقل عناصر إنتاجها وما تملكه من تكنولوجيا؛ إذ يُصر ترامب على أن تلغي “آبل” إنتاجها في الصين وتنقله إلى أميركا. وهو الأمر ذاته الذي يطلبه من شركات أميركية كبرى يرفع في وجهها سلاح التعريفات الجمركية، بدافع من فكره الشعبوي المنغلق المناهض لفلسفة عمل الشركات متعددة الجنسيات.
أيضاً تحتل شركات التقنية المراكز الخمسة الأولى في قائمة أعلى 500 شركة في العالم وفقاً لقيمة العلامة التجارية في نهاية عام 2018. لكن المفاجأة كانت في تفوق الشركات الصينية التي حققت نمواً ملحوظاً في قيمة علاماتها التجارية، إذ جاءت ثلاث شركات صينية ضمن المراكز العشرة الأولى، وهي: “هواوي” و”علي بابا” و”تنسنت”، لكن الصدارة كانت لشركة “أمازون” بعد أن كانت في المركز الثالث في عام 2017، إذ ارتفعت قيمة علامتها التجارية بنسبة 42 في المئة لتصل إلى 150.8 بليون دولار.
في المقابل، وعلى سبيل المثال، أسَّست تركيا صندوقها السيادي عام 2016 برأسمال قدره 50 بليون دولار؛ علماً أن تركيا، وفق تقييم صندوق النقد الدولي احتلت في عام 2018 المركز التاسع عشر بين الاقتصادات العالمية من حيث الناتج المحلي الإجمالي وقدره نحو 713.5 بليون دولار. ومن ثم تتبين ضخامة تلك الشركات المتعددة الجنسيات؛ إذ تزيد قيمة علامتها التجارية فقط عن الموازنات أو الصناديق السيادية لمعظم دول العالم، فكيف الحال لو نظرنا إلى مجمل إيراداتها ووضعناها في مقارنة مع موارد العديد من الدول؟ وعليه إن فتأثير هذه الشركات ونفوذها على الساحة الدولية لم يعد أمراً يمكن تجاهله أو التقليل من شأنه.
من جهة أخرى، وكما تؤثر بشدة في حركة التجارة العالمية بضخامة إنتاجها، فإنه وبحكم الأصول الضخمة للشركات المتعددة الجنسيات، نجد تأثيرها مؤكد على السياسة النقدية الدولية واستقرارها؛ ذلك أن قرار إحدى الشركات بتحويل نشاطها من دولة إلى أخرى له تبعات لا يمكن الاستهانة بها في اقتصاد الدولتين على السواء. وتخفيض الصين لقيمة عملتها (اليوان) جاء كسلاح في الحرب التجارية التي تنهض فيها الشركات متعددة الجنسيات بدور بارز. حتى أن ترامب دخل في صراع مع شركة “جنرال موتورز” الأميركية لصناعة السيارات، وهدد برفع التعريفات الجمركية أمام منتجاتها، وله في ذلك تغريدات شهيرة منها: “أشعر بخيبة أمل كبيرة تجاه “جنرال موتورز” لإغلاق مصانع الشركة في ولايات أوهايو وميشيغان وميريلاند، فيما لم يتم إغلاق شيء في الصين أو المكسيك”، وكانت الشركة العملاقة أعلنت عن خطة إعادة هيكلة ضخمة لأعمالها التجارية العالمية، تتضمن وقف الإنتاج في خمسة مصانع في أميركا الشمالية، إذ رأت الشركة أن خطتها ستجعلها أكثر كفاءة، وستوفر نحو ستة بلايين دولار بنهاية عام 2020.
ولبيان قوة تأثير الشركات المتعددة الجنسيات على الاقتصاد العالمي، نذكر أن شركة الطيران الأميركية “بوينغ” تعرضت لأزمة عنيفة إثر سقوط طائرتين من طراز “737 ماكس”، أكثر طائرات العالم مبيعاً، خلال أشهر (29 تشرين الأول (أكتوبر) 2018 و10 آذار (مارس) 2019)، ما أدى إلى حظر إقلاع الطائرات من هذا الطراز عالمياً. وفي دراسة للخبير الاقتصادي مايكل بيرس، من مؤسسة “إيكونوميكس” للتحليلات الاقتصادية، إبفاد أن: “قرارات حظر إقلاع طائرة بوينغ 737 انعكست في الربع السنوي الثاني على استثمارات الشركات في صناعة التسلح وعلى الصادرات، وتسببت في خفض متوسط نسبة النمو المتوقع للاقتصاد الأميركي على مدى عام إلى 0.25 نقطة مئوية”.
ولا شك أن الشركات المتعددة الجنسيات تُعد ثقافة رأسمالية بالأساس، ووجودها يرتبط طردياً بقوة اقتصاد الدولة المالكة والأم Home Country؛ ولذلك نجد الإحصاءات تؤكد أن 44 في المئة من إجمالي الشركات المتعددة الجنسيات مملوك من أميركا، وأكثر من 30 في المئة منها يمتلكها الاتحاد الأوروبي، وتستحوذ هذه الشركات على 80 في المئة من حجم المبيعات عالمياً، وتتربع على عروش قطاعات أساسية مثل النفط والتكنولوجيا والأغذية والمشروبات والتواصل الاجتماعي. يدعم هذا المنطق أن الرئيس الروسي بوتين، أثناء قمة العشرين في أوساكا في اليابان، في حزيران (يونيو) الماضي، اجتمع بقادة مجموعة “بريكس” (البرازيل، الهند، الصين، جنوب إفريقيا، ومعهم روسيا)، ودعاهم إلى وضع ضوابط واضحة لعمل الشركات متعددة الجنسيات، بهدف منعها من احتكار السوق وضمان حرية الوصول إلى التكنولوجيا.
هكذا، يظل السؤال الذي طرحناه عنواناً لهذا المقال، في انتظار نتيجة الصراع بين الشركات المتعددة الجنسيات، بما تملكه من مال ضخم وفكر أخاذ وإدارة مُبتكِرة، و”الدولة” بما تحوزه من سيادة وعناصر قوتها الشاملة، علماً أن جزءاً مهما من هذه القوة، بات ينحصر في ما تملكه من شركات متعددة الجنسيات. ما يؤكد تشابك الأمر وتعقيده على نحو كبير.
* كاتب مصري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً