إعادة نشر بواسطة محاماة نت
قضت المادة الأولى من القانون المدني السوري في الفقرة الثانية باعتبار “مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة” مصدراً احتياطياً يلجأ القاضي إليه إذا لم يجد نصاً تشريعياً أو عرفاً أو لم يجد في مبادئ الشريعة الاسلامية حلاً للنزاع المعروض عليه. فما هو المقصود بمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة؟
يمكن تعريف مبادئ العدالة بأنها: “تلك القواعد القائمة إلى جانب قواعد القانون الطبيعي والمؤسسة على وحي العقل والنظر السليم وروح العدل الطبيعي بين الناس والتي ترمي إلى تعديل قواعد القانون أو الحلول في مكانها بفضل ما فيها من القوة المعنوية المستمدة من سمو مبادئها”.
وتتميز العدالة بأنها لا تستند إلى هيئة حاكمة أو سلطة تشريعية وإنما إلى طبيعة مبادئها وإلى سلامتها، من حيث اتفاقها مع العقل والأخلاق، وهي بوجه عام روح القوانين في نصوصها وفي مضمونها، أو هكذا ينبغي.. ومن ثم على القاضي أن يتوخاها ويعمل على تحقيقها إذا وضح النص التشريعي، وعليه أن يستلهمها فيما لو افتقد النص أو شابه الغموض حتى أشكل عليه، لأن مهمة القاضي هي توطيد العدالة بتطبيق القانون القائم تطبيقاً عادلاً بين الناس بغض النظر عن رأيه الخاص مادام القانون المطبق يتفق مع حاجات المجتمع.
وأما القانون الطبيعي فهو مجموع القواعد التي تحكم السلوك الاجتماعي للإنسان والتي لا تمتّ بصلة إلى التقاليد والعادات أو نصوص التشريع، وإنما مصدرها الالهام الفطري السليم والإدراك العقلي الصائب. فهو قانون ثابت لا يتغير في الزمان ولا في المكان يستطيع الانسان أن يكشف عنه بالعقل السليم. وهو بهذا يتميز بخاصة فريدة إذ أن الإنسان يمتاز عن سائر الكائنات بالعقل والتفكير في حين تحكم الغرائز الكائنات الحية الأخرى؛ فالعقل هو الفيصل بين قانون الطبيعة وبين القانون الطبيعي الذي يحكم العلاقات الانسانية.
والقانون الطبيعي بالنسبة للإنسان ناموس فطري نابع من الذات الانسانية لا يتغير لأنه غير مرتبط بالأعراف ولا بالتقاليد المتجددة والمتباينة في البيئات المختلفة؛ فهو مستودع في أخلاق البشر منذ الأزل يتسم بالثبات والشمول والخلود, يدين له الناس كافة وتلقائياً لمجرد أنهم أناس، ودون اعتبار لجنس أو اعتداد بمستوى حضاري أو حسبان لزمان أو مكان.. وهو يتمثل في صورتين متكاملتين تتناول إحداهما المتطلبات الفردية اللصيقة بالشخص كإنسان، وتنظّم الثانية علاقته بالمجتمع ومبناها الشعور بالعدالة وإيفاء كل ذي حق حقه. وبهذا الشمول والأصالة يستلهم المشرّع منها أحكامه ومبادئه ويقتفي هداها لأنها أسمى من كل قانون وضعي وأقدم من كل تشريعي مسنون.. على أنه إذا اقتضت الظروف المحلية أن يُعطّل التشريع الوضعي قاعدة من قواعد القانون الطبيعي، فإن ذلك لا يعني أن هذه القاعدة محرمة بطبيعتها أو لذاتها، وإنما هو تحريم تشريعي موقوت يزول بزوال الظروف والملابسات التي اقتضته ودعت إليه.
فالقانون الطبيعي، كما يراه أنصاره، يتكون من مبادئ ثابتة خالدة مشتركة بين الأجناس البشرية وتتصل بحياة الإنسان وحريته. وتتفرع عن الحق في الحياة والحرية سائر الحقوق المدنية والاجتماعية. وقد بنى الفقيه الفرنسي بلانيول مبادئ القانون الطبيعي على العدل وسلامة الذوق وحصر معالمه في حريات الأفراد وضمان أرواحهم، وفي حرية العمل وحرية الملكية، ثم في صيانة النظام الاجتماعي والأدبي وحقوق الأسرة، وذلك على اعتبار أن هذه المبادئ حيوية للبشر كافة ومضمونها مشترك في كل القوانين الوضعية، وهي دائماً هدف المشرّع ونصب عينيه فيما يسنه من قواعد.
واليوم، تعتبر فكرة القانون الطبيعي الدستور المثالي للعدل الذي ينبغي أن تقوم على أساسه القوانين الوضعية المختلفة، وهو دستور لا ينزل إلى التفصيل والتفريع وإنما يقتصر على التوجيه والإلهام بما يتضمن من أصول عامة وموجهات مثالية لفكرة العدل لا تصلح بذاتها للتطبيق العملي ـ كمبدأ إيتاء كل ذي حق حقه ومبدأ عدم الإضرار بالغير ومبدأ عدم الإثراء على حساب الغير دون سبب مشروع ـ وإنما تسلتهمها القوانين الوضعية المختلفة فيما تضع من نظام للمجتمع حتى يخرج نظاماً عادلاً كما يستهدي الملاح بالبوصلة فيما يسلك من طريق حتى يقع على الطريق المأمونة الموصلة للغاية؛ فالقانون الطبيعي في معناه الحديث هو عبارة عن تلك الأصول والموجهات العامة للعدل التي تعتبر أساساً ومثلاً أعلى للتنظيم القانوني.
وبهذا المفهوم يكون عقل الإنسان المجرد هو المصدر الأساسي لكل قانون؛ فعقل الإنسان هو الذي يقنن القيم لتكون هادياً للقوانين الوضعية.. وإنّ رائد هذا المفهوم الحديث للقانون الطبيعي هو الفيلسوف الهولندي غروشيوس؛ فالقانون الطبيعي حسب رأيه هو القاعدة التي يوصي بها العقل القويم والتي بمقتضاها يجب الحكم بأنّ عملاً ما يعد ظالماً أو عادلاً تبعاً لكونه مخالفاً أو موافقاً لمنطق العقل، وإنّ قواعد هذا القانون أودعها الله النفس البشرية. وهي ثابتة لا تتغير ولا تتبدل.
ومن التطبيقات القانونية التي قامت في التشريع السوري على فكرة القانون الطبيعي وقواعد العدالة الفضالة المنصوص عليها في المادة 198 من القانون المدني، والتي تنص على: “الفضالة هي أن يتولى شخص عن قصد القيام بشأن عاجل لحساب شخص أخر دون أن يكون ملزم بذلك”، وكذلك الاثراء بلا سبب المنصوص عليها في المادة 180 من ذات القانون والوعد بالجائزة المنصوص عليها بالمادة 163 من القانون المدني.
ومن التطبيقات المعاصرة في القانون الحديث أحكام التجارة الدولية وفكرة النظام العام الدولي والأخلاق المشتركة وحرية التعاقد ومنع الاحتكار وحماية المستهلك وعقود الاذعان وقانون الإونسترال النموذجي التي وضعتها الأمم المتحدة لتوحيد أحكام التجارة الدولية ومكافحة الجرائم المعلوماتية، وكذلك القوانين الخاصة بالتجارة الالكترونية، ومنع التأميم، ومكافحة الفساد، ومنع الاتجار بالبشر والرقيق، ومنع انتشار الجريمة المنظمة، وغيرها الكثير من الاتفاقيات التي تعمل الأمم المتحدة على وضعها كنموذج استرشادي يستعين به المشرعون في الدول الأعضاء عند سن تشريعاتهم الوطنية.. وهذه القوانين والقواعد والاتفاقيات كلها اعتمدت مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لما فيها من شمولية وتجريد وعمومية تقوم على المفاهيم والأخلاق الإنسانية المشتركة بين جميع البشر وتتفق مع النظم القانونية القائمة.
من هنا نجد أنه لم يعد البحث في هذا الباب من أبواب القانون قاصراً على الدراسات الفلسفية لفكرة القانون وإنما أضحى اليوم من أهم المصادر وأكثرها تأثيراً في عالم القانون، لاسيما مع اتساع حركة التجارة الدولية ودخول البشرية عصر الثورة الرقمية.. وحبذا لو اهتم المعنيون لدنيا بهذا الموضوع بإقامة مؤتمرات علمية وبحثية تُعين القضاة والباحثين في معرفة المزيد عن هذا الموضوع وتطبيقاته وأثرها على حياتنا اليومية.
اترك تعليقاً