الفرد والدولة كأطراف في رابطة الجنسية
المؤلف : احمد عبد الحميد عشوش
الكتاب أو المصدر : القانون الدولي الخاص
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
الدولة كطرف في رابطة الجنسية
إذا كانت الجنسية هي أداة توزيع الأفراد بين دول المعمورة، حيث تحدد ركن الشعب في كل دولة، فلا غرو أن تنعقد سلطة منح الجنسية على الدولة منفردة. ويقتصر منح الجنسية على الدول المعترف لها بالشخصية الدولية، فلا تستطيع المستعمرات منح الجنسية لغياب شخصيتها الدولية نتيجة افتقارها لركن السلطة والسيادة المستقلة، ولا تملك هذا الأمر كذلك الأقاليم المضمومة لدولة بحيث تعتبر جزءاً من الدولة الضامة، مثل أقاليم الدولة الاتحادية لغياب كيانها الدولي المستقل. وبطبيعة الحال، لا يحق للقبيلة منح الجنسية لأبنائها لنقص ركن الإقليم فيها.
إنما ينتمي أبناء المستعمرات والأقاليم المضمومة والقبيلة إلى الدولة التي تعتبر الإقليم جزء منها. بيد أنه ومن جانب آخر، إذا اكتملت مقومات الدولة واعترف بشخصيتها في الأسرة الدولية، فإنها تكون صالحة لمنح الجنسية، ولا يؤثر في ذلك أن تكون حكومة الدولة معترف بها من عدمه. ولا يشترط أن تكون الدولة كاملة السيادة أو ناقصتها، حيث تملك الدول ناقصة السيادة )مثل الدول الخاضعة للانتداب أو الوصاية( منح الجنسية طالما ظلت محتفظة بشخصيتها الدولية، ومرد ذلك إلى السند الدولي الذي أنقص سيادتها، فإذا احتفظ لها بكيان دولي كان لها منح الجنسية، أما إذا سلبها شخصيتها الدولية، كما هو الحال بالنسبة للمستعمرات، فإنها لا تملك منح الجنسية.
والحال كذلك ومن باب أولى، يستبعد من منح الجنسية كافة أشخاص القانون الخاص وأشخاص القانون العام الداخلي والدولي – عدا الدولة- و تظل الرابطة التي تربط الفرد بتلك الأشخاص مجرد رابطة تبعية إدارية ولا تنعت أبداً بكونها رابطة جنسية. فعلى سبيل المثال، إذا منحت الأمم المتحدة جوازات سفر لموظفيها تيسر لهم التنقل بين الدول المختلفة وتوفر لهم بعض التسهيلات، فلا يقود ذلك إلى الفهم بأنهم يحملون جنسية الأمم المتحدة، إنما لا يعدو ذلك أن يكون مجرد تبعية إدارية.
من جانب آخر، إذ كانت الجنسية هي مناط تحديد ركن الشعب في الدولة، فإنه لا يجوز للدولة الواحدة – سواء أكانت دولة بسيطة أو مركبة – أن تمنح سوى جنسية واحدة. ولا تثير الدولة البسيطة – مثل مصر والسعودية وقطر وسوريا – أية صعوبات في هذا المجال، حيث تتمتع كل منها بشخصية دولية واحدة، ويحمل أبناؤها جنسية واحدة. إنما يكمن اللبس في الدولة المركبة المكونة من عدة أقاليم لها قدر من الاستقلال الذاتي، ويتميز أبناء كل إقليم في الحقوق والواجبات عما عداهم من أبناء الأقاليم الأخرى، وهو تمييز ناجم عن تبعيتهم الإقليمية. و
على ذلك يثور التساؤل عن تلك الجنسية التي يمنحها إقليم أو ولاية أخرى. وللإجابة على ذلك، واتساقاً مع ما قدمناه من أن الدولة ذات الشخصية الدولية الواحدة لا تملك منح أكثر من جنسية، فيتعين البحث عن طبيعة ارتباط تلك الأقاليم. فإذا اندمجت هذه الأقاليم بعضها في البعض وظهرت على المسرح الدولي باعتبارها دولة واحدة لها شخصيتها الدولية، فإن مثل هذه الدولة المركبة لا تستطيع أن تمنح سوى جنسية واحدة، أما تبعية الفرد لإقليمه أو ولايته مع ما يترتب على ذلك من بعض حقوق أو واجبات خاصة، فإن ذلك لا يعدو أن يكون رعوية محلية. ومثال هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية، ودولة الإمارات العربية المتحدة. أما إذا احتفظت كل دولة داخل الاتحاد بشخصيتها الدولية، بحيث لا يشهد هذا الاتحاد ميلاد دولة جديدة، فإننا نكون بصدد اتحاد دول تتعدد فيها الجنسيات بتعدد الدول الداخلة فيه.
ومثال ذلك اتحاد الجمهوريات العربية بين مصر وسوريا . وليبيا سنة ١٩٧١ ، وبين ليبيا وتونس سنة ١٩٨٤ ولا يغير من حق الدول في منح جنسيتها إتساع مساحة الدولة أو ضيقها، ولا يبدل منه كثرة سكانها أو قلتهم، فهناك دول صغيرة يحمل الأفراد جنسيتها كإمارة موناكو ودوقية لكسمبورج.
الفرد كطرف في رابطة الجنسية
تراكم الجنسيات، أو تعدد الجنسيات، أو ازدواج الجنسية، أو التنازع الإيجابي للجنسيات مسميات لمعنى واحد، يفيد تمتع الشخص بأكثر من جنسية وفقاً لقانون دولتين أو أكثر، أي أن يتراكم على الشخص أكثر من جنسية نتيجة تباين أسس تنظيم الجنسية في تشريعات الدول المختلفة. وبذلك يضحي الفرد متعدد الصفة الوطنية حيث يكون وطنياً في أكثر من دولة، فإذا كانت الصفة الوطنية قائمة على الولاء، فكيف لهذا الولاء أن يتجزأ أو ينقسم؟ ولا ريب أن ذلك الوضع الشاذ هو واحد من أمراض الجنسية وجسم غريب فيها، تنفر منه ويحاول فقهائها أو أطبائها استئصاله، ولكم فاضت مؤلفاتهم بحلول، ولكم خرجت مؤتمراتهم بتوصيات، ولكم أبرمت اتفاقيات، ولكم أدلى القضاء بدلوه..
ولكن ما زال المرض مزمن، وتلك نبت من نبت المشرع الوطني في مادة الجنسية وحريته شبه المطلقة في تنظيمها. ولسنا في حاجة إلى بيان خطورة مرض تراكم الجنسيات لدى الفرد، حيث يواجه تعارض في أدائه للتكاليف العامة المقررة على الوطنيين، مثل أداء الخدمة، وتتصاعد هذه المشكلة عند نشوب حرب بين دولتين يحمل جنسيتهما، كذلك لا تخلو ممارسته لحقوق السياسية من مشاكل وأوضاع مستغربة، إذ قد يمارس حقوقه الانتخابية أو الترشيح للمجالس التشريعية في كلا الدولتين التي يحمل جنسيتهما.
ومن جانب آخر، يمتد مرض تراكم الجنسيات إلى واحد من أبرز موضوعات القانون الدولي الخاص، وهو الموضوع الخاص بتنازع القوانين، حيث تثور مشكلة تحديد أية جنسية يعتد بها عند تحديد القانون الواجب التطبيق في مسائل الأحوال الشخصية عندما يكون القانون الشخصي هو القانون الواجب التطبيق. والأمر كذلك، فقد لاقت مشكلة تراكم الجنسيات نقداً شديداً من فقهاء القانون الدولي الخاص وشراحه، وعلت أصواتهم في المؤتمرات الدولية تستنكره، فخرجت توصياتها باستئصال هذا المرض أو الحد منه.
صور تراكم الجنسيات:
أدى تباين أسس تنظيم الجنسية في الدول المختلفة إلى أن تظهر – في كثير من الأحيان – حالات تراكم الجنسيات لدى شخص واحد. ومهما عددنا هذه الحالات، فهو لا يعدو أن يكون تعداد على سبيل المثال لا الحصر، فقد يطالعنا تبني تنظيم آخر للجنسية، على صور للتراكم لم نوردها. ويجري تقسيم صور تراكم الجنسيات، إلى تراكم جنسيات معاصرة لميلاد الشخص، وتراكم جنسيات يبرز في تاريخ لاحق عليه.
أولاً: تراكم الجنسيات المعاصر للميلاد:
ونسوق لذلك مثلاً، من حالة طفل ولد لأب يتمتع بجنسية دولة تأخذ بحق الدم كأساس لمنح الجنسية الأصلية، وكان الميلاد على إقليم دولة تأخذ بحق الإقليم. في هذه الحالة يولد الطفل مزدوج الجنسية حيث يمنح جنسية دولة أبيه إستناداً لحق الدم، كماي حمل جنسية الدولة التي ولد على إقليمها تأسيسا على حق الإقليم.
ثانياً: تراكم الجنسيات في تاريخ لاحق للميلاد :
وكثيراً ما يحدث عند تنافر أسس كسب الجنسية الطارئة، وزوالها في قانون دولتين. وتسوق لنا تشريعات الجنسية في الدول المختلفة أمثلة كثيرة لذلك. نذكر منها، حالة تجنس شخص يحمل جنسية دولة )أ( بجنسية دولة )ب( دون الحصول على موافقة سلطات الدولة)أ(، وكان قانون هذه الدولة الأخيرة يبقى عليه جنسيته، ولم يشترط قانون دولة(ب) تنازله عن جنسية دولة)أ( كذلك يتوافر ازدواج الجنسية، بالنسبة لتابعين المتجنس سواء أكانوا أولاداً قصر أو زوجة، إذا كان قانون دولتهم الأصلية يبقى عليهم كوطنيين، بينما قانون الدولة التي تجنس بها متبوعهم يكسبهم جنسيتها إعمالاً لفكرة التبعية العائلية في التجنس. وأيضاً نلحظ ظاهرة تراكم الجنسيات إذ لم يجز قانون دولة معينة للمرأة الوطنية التي تتزوج من أجنبي أن تفقد جنسيتها، بينما يقضي قانون الزوج بمنحها جنسيته دون أن يعلق ذلك على فقدها الجنسية التي تحملها عند الزواج.
طرق الوقاية من تراكم الجنسيات:
إذا كان تراكم الجنسيات يحمل مخاطر جمة، دفعت الفقه إلى استنكارها، وحثت المؤتمرات الدولية لبذل المجهودات للحد منها أو الحيلولة دونها، فإنه مع تقديرنا لهذه الجهود المضنية، إلا أنها لم تبلغ بعد حد استئصال هذا المرض، خاصة في دوره الذي يتحقق في تاريخ معاصر للميلاد. وسوف نعرض لطرق الوقاية من تراكم الجنسيات، في طوري هذا المرض، طور تراكم الجنسيات المعاصر للميلاد، وطور تراكم الجنسيات في تاريخ لاحق للميلاد.
أولاً: الوقاية من تراكم الجنسيات المعاصر للميلاد :
١- توحيد أسس كسب الجنسية:
لما كان حرية الدولة في تنظيم جنسيتها قد قادت في كثير من الأحيان إلى تراكم الجنسيات لدى الفرد، فقد قيل بأنه يمكن تفادي هذه المشكلة بتفادي سبب ظهورها. ومن ثم، فقد أعتقد بأن توحيد أسس كسب الجنسية في الدول المختلفة يقود بالضرورة إلى تفادي تراكم الجنسيات المعاصر للميلاد. بيد أنه وفضلاً عن تعذر قبول الدول أعمال هذا الاقتراح، ذلك أنها وهي تنظم جنسيتها تراعي مصالحها الوطنية الخالصة. وتستمدها من سياستها في تنمية عنصر الشعب أو الزهد فيه. فإن هذا الحل لا يحقق – دوماً – الغاية منه،
وللتدليل على ذلك نسوق المثال الآتي:
هب أننا بصدد دولتان تكتسب فيهما الجنسية على أساس حق الدم والإقليم معاً. فإذا ولد شخص لأب يحمل جنسية إحدى الدولتين على إقليم الدولة الأخرى، فإن هذا المولود سوف يحمل جنسيتين رغم اتحاد أسس كسب الجنسية في كلا الدولتين. وتقدم قضية )كارلييه(مثالاً واقعياً لقصور الاقتراح الخاص بتوحيد أسس كسب الجنسية، عن تحقيق الهدف المرجو منه وهو تفادي ظاهرة تراكم الجنسيات. وتخلص وقائع هذه القضية التي عرضت على القضاء الفرنسي، من أن المادتين التاسعة والعاشرة في كل من القانونين المدني البلجيكي والفرنسي كانتا متماثلتين تماماً حتى سنة ١٨٨٩ . بيد أنه لم يحل ذلك دون ظهور تراكم الجنسيات للمدعو )كارلييه( الذي ولد في بلجيكا سنة ١٨٦٠ لأبوين فرنسيين، حيث اعتبر فرنسياً تأسيساً على حق الدم (طبقاً للمادة العاشرة من القانون المدني)، كما اعتبر – وفي ذات الوقت – بلجيكياً تأسيساً على حق الإقليم، لأنه اختار الجنسية البلجيكية في خلال السنة من بلوغه سن الرشد (إعمالاً للمادة التاسعة من القانون المدني البلجيكي)، وهكذا أصبح يحمل جنسيتان فرنسية وبلجيكية في آن واحد. وعندما قام عمدة الشمال في فرنسا بقيد اسمه في قائمة القرعة العسكرية، قام “كارلييه” برفع دعوى أمام المحاكم الفرنسية مطالباً بشطب اسمه من القائمة، بيد أن دعواه رفضت ابتدائياً واستئنافياً. فلم يلبث كارلييه أن قدم شكاوى للبرلمانين الفرنسي والبلجيكي، أسفرت جهوده – في نهاية المطاف – إلى إبرام . اتفاق بني فرنسا وبلجيكا في ٣٠ أغسطس سنة ١٨٩١ سمي باتفاق كارلييه، ينظم مسألة الخدمة العسكرية بين الدولتين. بيد أن هذا الاتفاق وإن كان سببه تراكم الجنسيات، إلا أنه لم يتعرض لهذه المسألة على الإطلاق.
٢- تيسير ممارسة الأفراد اختيارهم :
حتى يتسنى لهذه الوسيلة أن تكون أكثر فعالية، يتعين على المشرع أن يكون أعمق فكراً وأوسع رؤية. فلا يفرض الجنسية بصورة مطلقة وفي كافة الأحوال، بل عليه أن يميز بين أسس كسبها ويدرج بينها بتغليب الأساس القوي على ما دونه، فيجعل من الأول أساس لكسب الجنسية دون ان يمنح الفرد الحق في رد الجنسية، فهب أن شخص اكتسب جنسية أبيه بناء على حق الدم، كما اكتسب جنسية إحدى الدول الأخرى لميلاده على إقليمها. ففي هذه الحالة يتعين على قانون الدولة الأخرى أن يمنح هذا الشخص الحق في رد هذه الجنسية عندما يبلغ سن الرشد، وبذلك يتمكن من التخلص من تراكم الجنسيات. ومع ذلك، فإن هذه الوسيلة لا تزال قاصرة، ذلك أنه يتعذر الزام المشرع الوطني في الدول المختلفة باتباع الأسس المثالية لتجنب تراكم الجنسيات المعاصر للميلاد، ذلك أنه يحكم صياغة أحكام الجنسية الاعتبارات والمصالح الوطنية الخاصة بكل دولة. فضلاً عن ذلك، فقد لا يستخدم الشخص حرية الخيار الممنوح له ويظل يحتفظ بجنسيتين. ولتفادي هذا القصور وحتى يتحقق الهدف من التخلص من تراكم الجنسيات، فإنه يتعين إلزام متعدد الجنسيات بممارسة حق الاختيار. وقضت المادة السادسة من اتفاقية لاهاي لتقنين القانون الدولي سنة ١٩٣٠ ، بمنح الشخص حق الاختيار إذا ثبت له أكثر من جنسية مفروضة، ولا يجوز لأية دولة من الدول التي يتمتع الشخص بجنسيتها حرمانه من حرية التخلي عنها، إذا كان مقيماً خارج إقليمها وتوافر بشأنه الشروط التي وضعها القانون للتنازل عن الجنسية. وقد خرجت صياغة هذا النص بدورها لا تحمل إجبار الشخص على ممارسة حق الاختيار، وبذلك ظلت تتيح له فرصة الاحتفاظ بأكثر من جنسية. صفوة القول، والحال كذلك، فإن هذه الوسائل المطروحة للوقاية من تراكم الجنسيات المعاصرة للميلاد تظل عاجزة عن تفادي مشكلة التراكم، ما دامت السياسة التشريعية في مسائل الجنسية متروكة للمشرع الوطني في كل دولة، يصوغها – بتقدير مطلق – وفق مصالحه العليا.
الوقاية من تراكم الجنسيات الذي يتحقق بعد الميلاد :
١- تعليق اكتساب الجنسية الطارئة على فقد الجنسية السابقة :
وإن كان تعليق اكتساب الجنسية الطارئة على فقد الجنسية السابقة، يحمل في ظاهره وسيلة ذات جدوى في تفادي تراكم الجنسيات، بيد أنه – وفي ذات الوقت – يحمل في طياته خطورة، حيث يقود – أحياناً – إلى مواجهة حالات انعدام الجنسية في حالة عدم اكتساب السابقة الجديدة. ولتفادي هذه المشكلة يتعين منح الشخص حق التخلي عن جنسيته السابقة خلال فترة محدودة من تاريخ حصوله على الجنسية الجديدة.
٢- تقرير حق الخيار واحترام إرادة الفرد :
وتبدو هذه الوسيلة مفيدة في الحالات التي يكتسب فيها الشخص الجنسية دون دخل لإرادته في ذلك .فعلى سبيل المثال، يتعين منح المرأة الأجنبية الحق في التخلي عن جنسية الزوج إذا قضى تشريع هذا الأخير بفرض جنسيته عليها بقوة القانون. كذلك يتوجب أن يخول تابعي المتجنس )سواء الزوجة أو الأولاد القصر)، الحق في اختيار جنسية متبوعهم المتجنس أو رفضها والاحتفاظ بجنسيتهم السابقة. وأيضاً منح الزوجة الأجنبية حرية استرداد جنسيتها السابقة أو البقاء في جنسية زوجها إذا ما انقضت الرابطة الزوجية، ودون إرغامها على استرداد جنسيتها السابقة بقوة القانون. وإذا كانت الوسائل السابقة قيل بها لتفادي تراكم الجنسيات أو الحد منها، فإنها – ومع ذلك – لم تغض إلى القضاء على هذه المشكلة بصورة نهائية، الأمر الذي قاد الدول إلى عقد الاتفاقيات للتخلص من آثار هذه المشكلة، فأبرمت الاتفاقيات لتنظيم الخدمة العسكرية، والضرائب، والقانون الواجب التطبيق.
حلول مشكلة تنازع القوانين لمتراكم الجنسيات:
لما كان الشخص تتحدد جنسيته وفق قانون الدولة التي ينتمي إليها، وبالتالي فإن مركزه القانوني يتحدد بالرجوع إلى قانون هذه الدولة. فيثور التساؤل حول مركز الشخص الذي ينتمي إلى أكثر من دولة وفق أحكام الجنسية في كل منها؟ فإذا سلمنا بأن هذا الشخص يمكنه تفادي بعض الصعوبات الناجمة عن تراكم الجنسيات، حيث يمكنه حمل أكثر من جواز سفر يتذلل له من خلالها الكثير من الصعوبات، كما يمكنه اللجوء إلى أياً من هذه الدول التي ينتمي إليها طالباً حمايته الدبلوماسية.
بيد أنه من المقرر بأنه لا يجوز لإحدى الدول التي ينتمي إليها ممارسة حمايته الدبلوماسية في مواجهة الدول الأخرى التي ينتسب إليها بجنسيته. بيد أنه قد تعرض بعض الحالات ويتعين معها تحديد ولاء الشخص الحقيقي لدولة واحدة من بين هذا الولاء المتعدد. وتبرز هذه المشكلة بالنسبة لمسائل الأحوال الشخصية عندما يستوجب الأمر نسبة متعدد الجنسية إلى دولة معينة، حيث تكون الجنسية هي مناط الإسناد المعول عليه في تحديد القانون الواجب التطبيق. ومن جانب آخر، تثور هذه المشكلة أيضاً، في حالة تعارض مصالح الدول التي يحمل الشخص جنسيتها، الأمر الذي يقتضي اختيار جنسية معينة واعتبار الشخص من الأجانب بالنسبة لدونها ومعاملته على هذا النحو. وتبرز أهمية هذه الحالة عندما تكون إحدى الجنسيات المتنازعة هي جنسية دولة معادية، ذلك أن رعايا الدول الأعداء يخضعون لمعاملة خاصة بالنسبة لأشخاصهم وأموالهم. وتجدر الملاحظة، وبطبيعة الحال، أن وصف تراكم الجنسيات، أو ما اصطلح عليه بتنازع الجنسيات لا يثور إذا كانت إحدى الجنسيات غير ثابتة قانوناً أو ثار شك حول شرعية ثبوتها، إنما يثور – فقط – ونكون بصدد تراكم جنسيات إذا توافرت لكل جنسية الشروط القانونية الواجبة في قانون هذه الدولة ولم يثار شك حول شرعية كسبها. ويعرض تحديد مركز الشخص متراكم الجنسيات، أما أمام إحدى الدول التي يتمتع بجنسيتها، أو أمام دولة ثالثة، كما قد يعرض تحديد مركزه أمام القضاء الدولي، وهو ما سوف نعرض له تباعاً.
أولاً:مركز متراكم الجنسيات أمام سلطات إحدى الدول التي يحمل جنسيتها:
إذا ثار التنازع بين جنسيتين، وكانت إحداهما هي جنسية القاضي المعروض عليه النزاع، والذي عليه البت في حكم هذا الولاء المزدوج للشخص الذي يحمل جنسية دولة القاضي وجنسية دول أخرى. فيكاد يجمع الشراح، إن هذا الشخص يعتبر وطنياً في كل دولة يحمل جنسيتها، وتطبيقاً لذلك نصت المادة ) ٢٥ ( من القانون المدني المصري على “أن الأشخاص الذين تثبت له في وقت واحد بالنسبة إلى مصر الجنسية المصرية، وبالنسبة إلى دولة أجنبية أو عدة دول أجنبية جنسية تلك الدول فالقانون المصري هو الذي يجب تطبيقه”.
ونلاحظ أن هذا النص وإن كان قد عالج مشكلة القانون الواجب التطبيق على مسائل الأحوال الشخصية، إلا أنه يعم في كل فروض التنازع الذي تكون فيه جنسية الدولة هي إحدى الجنسيات المتنازعة. ومؤدى ذلك، إن على القاضي الوطني أن يطبق قانونه، ولا ينظر إلى قانون أية دولة أخرى يحمل الشخص جنسيتها، فقانون القاضي يكشف عن وطنيو دولته، فيطبق هذا القانون ولو كان يقضي على خلاف أحاكم النظام الدولي، وقد أخذت بهذا الحل اتفاقية لاهاي سنة ١٩٣٠ لتقنين القانون الدولي، حيث قضت المادة الثالثة منها بأنه … إذا كان للشخص جنسيتان أو أكثر، جاز لكل دولة من الدول التي يتمتع بجنسيتها أن تعتبره من رعاياها… ومن ثم، فإن على السلطات الوطنية أن تأتمر بتشريعات الدولة وحدها وتخضع لها، ولا تلتفت إلى تبعية الشخص إلى دولة أخرى. بيد أن بعض المحاكم الإنجليزية، والأمريكية لم تطبق هذا الحكم في زمن الحرب، حيث كان يحمل بعض الأشخاص جنسية دولة القاضي وجنسية دولة معادية، وقد استوجبت اعتبارات الأمن في الدولة معاملة هؤلاء الأشخاص معاملة الأجانب، فأنكر القضاء صفتهم الوطنية وأخذ بجنسيتهم الأجنبية.
ومع ذلك، فإن هذا الحل الذي يرجح – في الأصل – قانون القاضي، ويعتد – فقط – بجنسية الشخص في دولة القاضي، ولا يلتفت إلى أية جنسية أخرى يحملها، يؤخذ عليه أنه لم يضع ضابطاً موحداً للترجيح بين الجنسيات المتراكمة والثابتة للشخص، سواء أثير التنازع بينها أو أمام سلطات إحدى الدول التي يتمتع الشخص بجنسيتها، أو أمام سلطات دولة ثالثة، فليس هناك ثمة ما يدعو إلى ترجيح جنسية الدولة التي أثير التنازع أمام سلطاتها.. والقول على خلاف ذلك يقود إلى عدم إستقرار المركز القانوني للشخص، ذلك أن صفته الوطنية ستختلف وفقاً للجهة التي يثور النزاع أمامها. ومع ذلك، فإن هذا الحل ما زال هو السائد والمطبق في مسائل تنازع الجنسيات أمام سلطات إحدى الدول المتنازعة، إعتماداً على استئثار المشرع الوطني بتنظيم أحكام الجنسية، وإنفاذاً لانصياع سلطات الدولة لأوامر مشرعها الوطني.
ثانياً: مركز متراكم الجنسيات أمام سلطات دولة ثالثة:
تفترض هذه الصور أن تحديد ولاء متراكم الجنسيات معروض أمام سلطات دولة ثالثة لا ينتمي إليها الشخص متراكم الجنسيات، حيث يكون الأمر متعلق بمشكلة يتعين فيها نسبة الشخص إلى دولة واحدة. ومثال ذلك في الحالات التي يعتد فيها بجنسية الشخص كضابط للإسناد وتحديد القانون الواجب التطبيق. اتجه جانب من الفقه، إلى القول بوجوب إعمال نظرية تكافؤ السيادات، ومؤداها أنه لا تملك أية دولة إنكار أية جنسية تثبت للشخص وفق أحكام قانون دولة أخرى، بل يتعين الاعتراف له بالجنسيات المتعددة، والشخص وحده هو الذي يتمسك بالجنسية التي يختارها.
أما إذا تعلق النزاع بالمصالح السياسية للدولة الثالثة، فإن هذه الدولة الأخيرة ينعقد لها حرية اختيار الجنسية التي تحقق مصالحها، ومثال ذلك حالات تطبيق الإجراءات الاستثنائية على رعايا الدول المعادية. ويعيب هذا الرأي بدوره أنه لا يقدم ضابطاً ثابتاً أو حلاً موحداً لهذه المشكلة، بغض النظر عن المصلحة السياسية للدولة أو المصلحة الخاصة للأفراد. فلم يقدم معالجة موضوعية ثابتة لمشكلة تحديد المركز القانوني وجنسية الشخص الذي تراكمت لديه عدة جنسيات. وقد خولت بعض التشريعات الوطنية للقاضي تحديد القانون الذي يرى تطبيقه بالنسبة لجنسية الشخص الذي تثبت له جنسيات متعددة في آن واحد. وعلى ذلك، يخول القاضي حرية الاختيار، ونسبة الشخص إلى دولة واحدة، والمعايير التي يهتدي بها القاضي معايير تستند إلى وقائع، فلا تعد فصلاً في مسألة قانونية، ذلك أن الشخص يتمتع بكل الجنسيات وفق قانون كل دولة ينتمي إليها.
ومن ثم، لا تكون مهمة القاضي ترجيح جنسية على أخرى وفق أسس قانونية، إنما تخير إحدى الجنسيات وفق اعتبارات عملية. وقد تعددت المعايير المقترحة لاختيار جنسية للشخص من بين الجنسيات الثابتة له، إذا ما أثير هذا التحديد في دولة ثالثة، فاتجه البعض إلى وجوب الاعتداد بإرادة الفرد. وترك التحديد لحرية الفرد في اختيار الجنسية التي يريد أن تحكم مركزه القانوني، بيد أن هذا الاتجاه يفسح المجال للتلاعب والغش، فقد يمارس الشخص هذه الحرية وفق مصالحه المتغيرة، دون أن يتمسك بالجنسية التي يباشر بها حياته القانونية. وذهب جانب آخر من الفقهاء، إلى الإعتداد بالجنسية التي تتشابه أحكامها مع أحكام قانون دولة القاضي، وهذا الترجيح بدوره لا يستند إلى مبرر مقبول، حيث يمنح قانون جنسية دولة القاضي حجية عامة، ويجعل منه نموذجاً واجب الإعتداد به للترجيح بين الجنسيات الأخرى.
وتبني بعض الفقهاء فكرة الحق المكتسب كأساس للترجيح، يحث ذهبوا إلى إختيار الجنسية الأولى التي اكتسبها الشخص. بيد أن هذا الرأي لا يقدم حلاً لتراكم الجنسيات المعاصر للميلاد.فلا محل للمفاضلة بين جنسيات ثبتت كلها في لحظة واحدة، كما أنه يخفق في الرد على القول بأن الجنسية الأولى زهد فيها الشخص وأحس بعدم رغبته في التمسك بها، فاكتسب الجنسية الثانية وباشر بها حياته القانونية. وأمام هذا القول ذهب البعض إلى أنه يتعين إذن ترجيح الجنسية الأخيرة وتفضيلها على الأولى، ولكن يظل هذا الرأي يعيبه عدم تقديم الحل للازدواج المعاصر للميلاد. فضلاً عن أن الجنسية اللاحقة قد تكون مفروضة على الشخص دون أن يكون لإرادته دخل فيها فلا تعبر عن واقع حال إرادته، كما اقترح أيضاً معياراً للترجيح الاعتداد بالجنسية التي اتخذها الشخص موطناً أو محلاً لإقامته. بيد أن هذا المعيار قاصر في مواجهة الحالة التي يكون فيها الشخص موطناً ثابتاً في إحدى الدول التي يحمل جنسيتها. وأمام عجز هذه المعايير جلها، اتجه الرأي السائد إلى وجوب الاعتداد بترجيح الجنسية الفعلية أو الواقعية. فهي أكثر الجنسيات التي يتعايش بها الشخص ويفضلها عما دونها، وتترجم ظروفه الفعلية ومعيشته، وتكشف عن إرادته الحقيقية للخضوع لها.
فيمكن استنباطها من ممارسته لحقوقه الوطنية في دولة معينة، كحق الانتخاب والترشيح للمجالس المحلية أو التشريعية، وكذا اتخاذه إقليم إحدى الدول التي يحمل جنسيتها موطناً له أو محلاً لإقامته الدائمة أو مقراً يباشر فيه نشاطه التجاري أو الصناعي مثلاً، كما يمكن الاستناد في ذلك إلى اللغة التي يجيدها، أو أي عناصر أخرى تكشف عن ارتباط الشخص بدولة معينة ارتباطاً أكثر توثقاً من غيرها.
ومن جانب آخر، إذا كانت الجنسية الفعلية هي المعيار السائد في زمن السلم، وإذا كن هذا المعيار لم يلق قبولاً في التطبيق في وقت الحرب، حيث رجحت المصلحة السياسية للدولة وبالتالي رجحت الجنسية المعادية واعتبر الشخص متراكم الجنسيات من رعايا دول الأعداء، بحيث يخضع للإجراءات الاستثنائية التي تتخذ ضد أشخاصهم وأموالهم، باعتبار أن الإنتماء لدولة معادية يقيم قرينه ضد متراكم الجنسيات تقود إلى إثارة الشكوك حوله والإرتياب في مسلكه. إلا أن الاتجاه الغالب يدعو دوماً إلى إعمال ضابط موحد للترجيح بين الجنسيات المتراكمة، ووجدوا ضالتهم في الجنسية الفعلية. ولا ريب أن هذا الاتجاه هو الأجدر بالترجيح، بحيث تستخلص إرادة الشخص الحقيقية وجنسيته الفعلية من واقع مسلكه، وهو الأمر الخاضع لتقدير الدولة في الكشف عن هذه الجنسية.
اترك تعليقاً