مقال قانوني حول القانونيين الدوليين

دعوة إلى استثمار العقول القانونية….. محمود المبارك

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

2007-10-11

في أحد لقاءاتي مع الرجل الذي تعلمت منه كثيراً عن القانون الدولي، حكى لي البروفيسور الكبير أستاذ القانون الدولي في جامعة كامبردج وأحد عباقرة القانون الدولي الأفذاذ، ديرك بويت، قصة ظريفة جرت له مع الشيخ راشد بن مكتوم أمير دبي الراحل.

فقد نشب خلاف حدودي بين دبي والشارقة، اضطر دبي إلى تكليف مكتب محاماة قانوني في لندن بدراسة المسألة دراسة قانونية وتقديم وجهة نظرها. وبعد أن بدأ الفريق القانوني بالعمل في المهمة التي كلف بها، طلب الشيخ راشد عقد لقاء مع الفريق القانوني في دبي على أن يحضروا معهم تفاصيل الدفعة الأولى من الفاتورة المستحقة.

فلما التقى الوفد القانوني الشيخ وقدم له الدراسة المبدئية، سألهم عن الفاتورة – والتي كانت بطبيعة الحال باهظة جداً – فتقدم المحاسب بملف ووضعه بين يديه. وما إن وقع نظره على السعر الإجمالي، حتى نظر إليهم وقال: «أظن أنكم قد حللتم المشكلة»! يقول البروفيسور: لم نفهم مأربه من تلك الكلمة، ونظر بعضنا إلى بعض متعجبين. فتابع قائلاً «أظن أنكم اشتريتم الأرض المتنازع عليها»!

ربما كان في تلك الكلمة التي عبر عنها الشيخ المكتوم – وهو صاحب عقلية تجارية بارعة – أفضل رسالة لمعرفة الحاجة الماسة للقانونيين الدوليين في عالمنا العربي عامة وفي دولنا الخليجية خاصة. إذ تشغل خلافات الحدود بين الدول حجماً كبيراً من مشاكل القانون الدولي المعاصر وتزداد هذه المشاكل في المستعمرات السابقة لأسباب لا تخفى.

وقد اعتادت الدول في هذه الحالات أن تلجأ إلى المحامين الدوليين لإسعافها بالحجج القانونية الدامغة، ولكن كما هو معلوم فإن أجر الواحد من هؤلاء المحامين في الساعة الواحدة يكفي لإطعام قبيلة كاملة في أفريقيا. وأما من يدفع أجور فريق كامل من المحامين الدوليين ذوي الكفاءات العالية والخبرة الكافية لسنوات طوال كما حدث في الخلاف القطري – البحريني على جزيرة حوار، أو الخلاف الحدودي بين الشارقة ودبي، فلا يعلم قدره إلا الله!

ذلك أن القانونيين الدوليين اليوم قلة في العالم العربي، وهم ندرة في دول الخليج. وغياب القانونيين الدوليين عن ساحاتنا الدولية، قد ينتج عنه أحد أمرين: فأما الأمر الأول فهو الاستعاضة عن القانونيين الدوليين بسياسيين غير مختصين، وهي طامة عظمى تسببت في كثير من خسائرنا القانونية الدولية سواء في القضايا التي طرحت في مجلس الأمن أو عند توقيع الاتفاقات الدولية من معاهدات سلام وغيرها.

فعلى سبيل المثال، وأثناء مفاوضات أوسلو التي قادت إلى المعاهدة الدولية الشهيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، تجلى الفهم القانوني للفريقين المتفاوضين في تشكيلة كل منهما. ففي حين خلا الوفد الفلسطيني المفاوض من خبراء مختصين في القانون الدولي في لقاءات هدفها توقيع معاهدة قانونية دولية، كان الوفد الإسرائيلي يحوي فريقاً كاملاً من القانونيين الدوليين والخبراء المختصين في توقيع المعاهدات الدولية!

وأما الأمر الآخر الذي قد ينتج عن غياب القانونيين المختصين في بلادنا، فهو الاعتماد على غيرنا من القانونين الدوليين، الأمر الذي يعني خسارة مادية ضخمة يستفيد منها قانونيون دوليون غربيون. وما الأمثلة السالفة إلا قطرة في بحر الخلافات الحدودية الدولية.

وغني عن القول أن الحاجة إلى المحامين الدوليين ليست مقتصرة على النظر في المشاكل الحدودية بين الدول. بل تشمل جوانب أخرى عديدة، أهمها الاعتماد عليهم – بعد الله – في الدفاع عن قضايا الأمة المصيرية في المحافل والمنتديات الدولية، باللغة القانونية التي يفهمها خصومنا، لا بلغة السياسة التي خسرها سياسيونا في منابر الجامعة العربية والأمم المتحدة.

فعلى سبيل المثال، بعد أن قامت الضجة الكبرى حول إساءة بعض الصحف الأوروبية إلى الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، خلت ردة الفعل العربية والإسلامية من الإشارة إلى الحقوق القانونية التي يتمتع بها أتباع الدين الإسلامي، والمنصوص عليها في كثير من الاتفاقات والمعاهدات الدولية، والتي منها على سبيل المثال المادة 3 (1) من ميثاق الأمم المتحدة، وإعلان مبادئ القانون الدولي الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم 2625 (1970).

وإعلان الجمعية العامة للأمم المتحدة الخاص بإزاحة جميع أشكال العنصرية ضد الأديان والمعتقدات، القرار رقم 36 / 55 (1981)، والمادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 18 (3) من الميثاق الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 9 (2) من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وغير ذلك من المواد القانونية التي كانت تحتاج إلى نظرة المختصين لاستخراج ما يناسب منها للرد بلغة القانون على المتعدين. وكنت قد فصلت ذلك في وقته في مقال نشر في هذه الصفحة بعنوان «نظرة قانونية في حرية التعدي على الأديان».

فالحاجة إلى العقول القانونية الدولية في عالمنا العربي ملحة لأن تكون في أعلى الهرم السياسي لكل دولة عربية. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من الرؤساء الأميركيين الذين حكموا الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية هم محامون في الأصل ويحملون درجة القانون. وكنت قد ذكرت في مقال سابق أن عدد المختصين في القانون الدولي لدى “إسرائيل” يفوق جميع القانونين الدوليين العرب جميعاً!

وبمناسبة الحديث عن “إسرائيل”، فإنها اليوم تستعد لمؤتمر الخريف الذي دعا إليه الرئيس الأميركي في واشنطن نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) القادم. واستعدادها لن يخلو من مشاركة وفد قانوني دولي ماهر في المفاوضات الدولية.

ولست أدري إذا كانت الدول العربية التي وافقت على حضور هذا المؤتمر الخريفي ستكتفي بإرسال السياسيين المخضرمين كما فعلت في الماضي، أم أنها تغير نهجها فتضم كل دولة وفوداً قانونية دولية مختصة؟

—————————

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.