القواعد المنطقية في بناء القرار القضائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
إذا كانت القوانين في معناها العام تبدو عادلة, إلا أنها في تطبيقها على الوقائع قد تتصف بعدم العدالة, وهذا يزيد من عبء المهمة الملقاة على عاتق القاضي, حيث يتعين عليه أن يُقنع الخصوم والرأي العام أن تطبيقه للقانون على الواقعة يتصف بالعدالة.
ولكي يستطيع القاضي أن يقوم بهذا الدور فإنه لا بد أن يعلم أن للقضاء منهاجاً يجب السير عليه, وله قواعده الخاصة التي يتعين إتباعها وذلك فيما يُعرف بفن القضاء, والذي يقصد به كيفية التطبيق الصحيح والعادل للقانون على الواقع.
ويعتبر العلم بقواعد المنطق وسيلة القاضي لضبط تفكيره وسلامة استنتاجه بحيث يبتعد فهمه لواقعة الدعوى والأدلة القائمة فيها عن الشطط,؛ فالواقعة في علم القضاء حدث يترتب عليه حدوث شيء ما.. فالإنسان في جريمة القتل العمد, كان حياً ويتمتع بحق الحياة وبعد أن تعرض لفعل القتل حدثت وفاته وخرج من عداد الأحياء، وهذا لا يتأتى إلا بتحديد الواقعة التي تتمخض عن هذا الواقع وفقاً لعناصرها القانونية ثم إثبات هذه الواقعة وذلك بنسبتها إلى مقترفها.
ولكي يحيط القاضي بالواقعة والظروف المحيطة بها علماً، وأن يعيها فهماً, فإنه يجب عليه أن لا يغفل عن أي عنصر من عناصرها أو ظرف يحيط بها.. ثم بعد ذلك يجب عليه أن يقدر الأدلة التي قد تثبتها أو قد تنفيها, فإن انتهى إلى ثبوتها, فإنه يطبق القانون عليها وفقاً للنص القانوني الذي تخضع له. والقاضي ملزم قانوناً ببيان الأسباب التي قادته إلى إصدار حكمه على النحو الذي انتهى إليه, ليصل من ذلك إلى الرأي القانوني فيها، والذي يتعين أن يكون بقدر المستطاع عادلاً ومتفقاً مع القانون. ويجب عليه تسطير هذه الأسباب في ورقة الحكم الأصلية بشكل كاف ومنطقي. كما يجب عليه قبل هذا التسطير أن يكون قد فهم الواقع والقانون في الدعوى المعروضة عليه فهماً كافيا ً وسائغاً.. وهذا يتطلب منه أن يتخذ له عاصماً يعصمه من سوء الفهم والفساد في الاستدلال والتعسف في الاستنتاج.
ويكمن هذا العاصم في القواعد المنطقية حيث يجب أن يتم تقدير القاضي للواقعة وللأدلة في إطار قواعد الاستدلال القضائي الموضوعي التي تستمد أصولها من علم المنطق الموضوعي. ولا يمكن أن يعتمد على البرهان بحسبان أن أساسه النشاط البشري الذي يكون قابلاً للخطأ وللصواب, فهذا لا يتفق مع طبيعة البرهان الذي يعتمد على مقدمات يقينية أبدية لا تستحيل ولا تتغير؛ فالقواعد المنطيقة بالنسبة للقاضي تكون كالضوء الذي ينشر شعاعه على واقعات الدعوى والأدلة القائمة فيها، وعلى تطبيق القانون عليها, ويجب دائماً أن تكون المقدمات التي جعلها القاضي الأساس لحكمه سواءً أكان ذلك من حيث الواقع أم من حيث القانون، مؤدية وفق قواعد العقل والمنطق إلى النتيجة التي انتهى إليها, بحيث يتحقق التلازم والاتساق والوحدة المنطقية بين هذه المقدمات وتلك النتيجة. فيستطيع بهذا الفهم الصحيح أن يستنبط منها النتائج الصحيحة. وهذه القواعد إذا سار عليها القاضي في مرحلة تكوين اقتناعه يترتب عليها ضبط تفكيره وحمايته من الاقتناع المتعجل أو القاصر أو الفاسد, فيصل عن طريقها إلى الرأي الصحيح الذي يحسم به الدعوى المعروضة عليه.
لذلك يتعين على القاضي عند اتباع القواعد المنطقية أن يبذل نشاطاً ذهنياً منطقياً لكي يصل إلى التكييف القانوني الصحيح للواقعة المعروضة عليه، ولكي يختار النص القانوني الصحيح الذي تخضع له.. فلا يوجد أدنى شك في أنه إذا كان صناعة دقيقة تحتاج إلى نفاذ بصيرة ودقة فهم وسلامة تقدير وصحة استنتاج، فإن القواعد المنطقية تعدّ أهم الأدوات التي تمكّن القاضي من الوصول في الدعوى المعروضة عليه إلى الحكم الصحيح الذي يتفق مع الواقع والقانون، ويقترب قدر المستطاع من الحقيقة الواقعية، لاسيما وأن الحكم القضائي يتكون من ثلاثة أجزاء؛ هي الديباجة والأسباب والمنطوق.. وإن أهم هذه الأجزاء هي الأسباب لأنها ترجمان اقتناع القاضي وإظهار مدى فهمه للواقعة والأدلة القائمة في أوراق الدعوى ومدى سلامة تطبيقه للقانون عليها. ولذلك يمكن القول بأن وسيلة الكشف عن مدى صحة الحكم القضائي تكمن في أسبابه, بحيث أن هذه الأسباب لو تخلفت أو جاءت مبهمة أو قاصرة أو فاسدة, فلا يمكن معرفة لماذا صدر الحكم على النحو الذي صدر عليه.
لذلك فإن الحكم القضائي ليس مجرد نتيجة لعملية ذهنية آلية يقوم بها القاضي, وإنما هو نتاج عملية عقلية تعتمد على الفهم الواعي والكافي لواقعة الدعوى والأدلة القائمة في الأوراق، ولطلبات الخصوم ودفوعهم الجوهرية. ولا شك في أن الفهم الكافي لحقيقة الواقعة في حال ثبوتها وإنزال التكييف القانون عليها يؤدي إلى صحة التقاء الواقع بالقانون إلتقاء صحيحاً، ومن ثم صحة الحكم الصادر فيها؛ فالفهم الصحيح للواقعة والظروف المحيطة بها هو مفتاح التطبيق الصحيح للقانون عليها. ولكي يسلم هذا الفهم من سوء التقدير ومظنة التحكم, فإن القاضي يجب أن يكون عقلانياً ومنطقياً في مظاهر استدلالاته المختلفة.. وهذا لا يتأتى إلا بإلمامه بقواعد المنطق التي تضبط تفكيره وتؤدي إلى سلامة استنتاجه، وأهم هذه القواعد هي:
1ـ استخدام الاستدلال الاستقرائي لفهم الواقعة والأدلة؛ فلا ينظر إلى الواقعة والأدلة عليها نظرة كلية وإنما يقوم بتجزئة الواقعة إلى عناصرها القانونية والمادية المختلفة، وبعد ذلك يتناول الأدلة التي تثبت هذه العناصر أو قد تنفيها.. وذلك بأن يفهم كل دليل على حدة ليقف على حقيقته ومدى صدقه وعما إذا كان يصلح لأن يكون مصدراً للإثبات في المواد القانونية؛ فعن طريق الدراسة الجزئية للواقعة والأدلة يستطيع قاضي الموضوع أن يصل إلى الواقعة الحقيقة التي تكون الأساس القانوني للحكم، وبعد أن يفرغ القاضي من دراسته هذه لجزئيات الواقعة والأدلة، فإنه يتعين عليه أن يجري تركيباً لهذه الجزئيات ليصل إلى رأي كلي يكون الأساس لاقتناعه والمصدر الذي يعتمد عليه في بناء مقدمات الحكم الذي سينتهي إليه، وبه تنتقل الواقعة إلى دائرة القانون. فالتركيب يعد عملية عقلية من شأنها أن تكشف عن مدى صحة النتائج التي انتهى إليها التحليل.. وهذه العملية سوف تكشف عما إذا كان التأليف بينها مؤدياً إلى نفس المركّب الكلي الذي سبق تحليله أم لا؛ فاعتماد القاضي على المنهج الاستقرائي يشكل حاجزاً قوياً يمنعه من أن يفترض الصدق المبكر في هذه المصادر قبل أن يحللها ليرى وجه الحق والصدق فيها. وعلى القاضي أن يظل باحثاً عن الحقيقة من خلال دراسته الاستقرائية والتحليلية لواقعة الدعوى والأدلة القائمة فيها حتى تصل الحقيقة إليه.
2ـ الاعتماد على الاستدلال الاستنباطي لاستنتاج النتائج الصحيحة التي تتفق مع حقيقة الواقعة والأدلة التي استقرأها القاضي؛ لا يكفي لصحة اقتناع قاضي الموضوع أن يكون قد استقرأ العناصر القانونية للواقعة، وإنما يلزم فوق ذلك أن يستمد منها نتائج صحيحة تتفق مع طبيعتها ويصح وفق قواعد اللزوم العقلي والمنطقي أن يستنج منها.
ولا يغيب عن الذهن أن الحكم القضائي لا يصدر إلا عقب مداولة قانونية, قد يتداول فيها القاضي مع نفسه إن كان فرداً، وقد يتداول فيها مع غيره إن كانت هيئة المحكمة متعددة. وفي هذه المداولة يتم استقراء الأدلة للوصول إلى معناها والكشف عن حقيقتها وتقديرها التقدير الذي يجب أن يكون كافياً ومتفقاً مع قواعد العقل والمنطق.
3ـ الوحدة المنطقية بين أسباب الحكم ومنطوقه؛ لا يقف المنهج الاستدلالي الاستنباطي بالنسبة للقاضي عند مجرد البناء المنطقي للمقدمات التي يستمد منها اقتناعه, وإنما يتعين أن ينتقل أيضاً من هذه المقدمات إلى النتيجة التي تترتب عليها، وهي المنطوق وفق قواعد المنطق. وتبدو أهمية المنطوق في أنه يكشف عن مدى صحة فهم القاضي لواقعات الدعوى ومدى صحة تطبيقه للقانون عليها, بحيث لو شاب هذه المقدمات عدم كفاية أو عدم منطقية، فإن النتيجة التي تترتب على ذلك هي بطلان المنطوق أو مخالفته للقانون.
4ـ ابتعاد استدلال القاضي عن المسخ والتحريف؛ وكان أول تطبيق لهذا المفهوم في القضاء ما قضت به محكمة النقض الفرنسية حيث ابتدعت من خلال قضائها ما أسمته رقابتها على المسخ والتحريف الذي قد يلحق تفسير قضاة الموضوع للعقود والمستندات، فأخضعت هذا التفسير لرقابتها إذا خرج فيه القضاة عن المعنى الواضح لهذه العقود والمستندات واستنتجوا منها معنى لا تؤدي إليه عباراته الواضحة والمحددة.
من هنا كان اعتماد القاضي على القواعد المنطقية التي يحددها علم المنطق الشكلي أن يصل إلى القاعدة الكبرى “النص القانوني”، الذي يطبقه على القاعدة الصغرى “الواقعة”، ليصل إلى الرأي الذي يحسم به الدعوى المعروضة عليه.
وشأن علم المنطق في عمل القاضي شأن علم أصول الفقه الذي يتكون من المناهج التي تبين للفقيه الطريق الذي يلتزمه في استخراج الأحكام من أدلتها وترتيب الأدلة من حيث قوتها, فكلاهما ميزان يضبط العقل ويعصمه من الخطأ في الفكر ويمنعه من الخطأ في الاستنباط وعن طريقهما يتبين الاستنباط الصحيح من الاستنباط الباطل.
اترك تعليقاً