الوساطة في القانون الجنائي الإجرائي المقارن
يقصد بالوساطة الجنائية وسيلة لحل المنازعات ذات الطبيعة الجنائية، والتي تؤسس على فكرة التفاوض بين الجاني والمجني عليه على الآثار المترتبة على وقوع الجريمة، عن طريق تدخل عضو النيابة العامة، أو من يفوضه في ذلك سواء أكان شخصاً طبيعياً أم شخصاً معنوياً، ويترتب على نجاحها تعويض الضرر الواقع على المجني عليه، وإصلاح الآثار المترتبة على الجريمة، وإعادة تأهيل الجاني بالشكل الذي لا يكون فيه حاجة للاستمرار في الدعوى الجنائية.
وتمثل الوساطة الجنائية نمطاً جديداً من الإجراءات الجنائية، التي تقوم على الرضائية في إنهاء المنازعات الجنائية. كما أنها تعتبر خياراً ثالثاً يجوز للنيابة العامة أن تلجأ إليه للتصرف في الدعوى الجنائية، حيث كانت النيابة العامة في الغالب ما تتجه إلى أحد طريقين تقليديين: الأول هو الأمر بحفظ الأوراق، والثاني هو متابعة الإجراءات ، وقد أثبت التطبيق العملي عدم صلاحيتهما في التعامل مع الجرائم البسيطة، حيث يؤديان إلى حلول لا تلاءم احتياجات المجني عليه أو المعاملة السليمة للجاني. فيجوز للنيابة العامة حال نظرها القضايا الجنائية البسيطة، والتي تتسم بوجود روابط دائمة بين أطرافها- وقبل اتخاذ قرارها بشأن الدعوى الجنائية- أن تحيل القضية إلى وسيط، حيث يتم الحصول على موافقة الأطراف، بدلاً عن إصدار أمر بحفظ الأوراق بالشكل الذي لا يؤدي إلى حل الخصومة، أو تحريك الدعوى في قضايا، لا يفضل أن تشغل بها المحاكم. وبذلك يمكن اعتبار الوساطة الجنائية أحد الوسائل لإنهاء الدعاوى الجنائية قبل تحريكها بمعرفة النيابة العامة؛ أي من بدائل رفع الدعوى الجنائية.
ولقد أصبحت الوساطة الجنائية في الوقت الحاضر أحد المصطلحات المألوفة، والواسعة الانتشار في القانون الجنائي المقارن، وذلك باعتبارها وسيلة لضمان تعويض المجني عليه وتفعيل مشاركة الأفراد في نظام العدالة الجنائية. بالإضافة إلى اعتبارها وسيلة اجتماعية مناسبة لعلاج الآثار المترتبة على الجرائم البسيطة، والتي يصعب على المحاكم التعامل معها. فضلاً عن أن الوساطة يمكن أن تؤدى إلى توسيع النطاق القضائي لسلطة الدولة عن طريق إدخال صور العدالة الرضائية، وقضاء الأفراد ضمن الأجهزة القضائية التي تباشر الدعوى الجنائية. فقد أظهر التطبيق الحالي للعدالة الجنائية عزوف من جانب المجني عليه للسير في الإجراءات الجنائية، وبالتالي يمكن عن طريق الوساطة، تشجيع المجني عليه على المشاركة الفعالة في الإجراءات الجنائية.
– الاهتمام الدولي بفكرة الوساطة الجنائية:
أدى انتشار تجارب الوساطة الجنائية في القانون المقارن إلى اتجاه العديد من المؤتمرات الدولية والندوات العلمية إلى تناول موضوعها بالبحث و الدراسة؛ نذكر منها مؤتمر الأمم المتحدة العاشر لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، والذي عقد في فيينا بالنمسا، و الذي نص الإعلان الصادر عنه – والذي يعرف بإعلان فيينا – على إقرار الأعضاء المشاركين في المؤتمر على استحداث خطط عمل وطنية وإقليمية ودولية لدعم مكافحة الجريمة كآليات الوساطة والعدالة التصالحية. أضف إلى ذلك مؤتمر الأمم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة والعدالة الجنائية، والذي عقد في بانكوك بتايلاند، و الذي كانت أحدى حلقات البحث فيه تتناول موضوع تعزيز إصلاح العدالة الجنائية بما في ذلك العدالة الإصلاحية، والتي تضمنت بحث موضوع الوساطة الجنائية باعتبارها أحد تدابير العدالة التصالحية. وقد أشار بعض المتكلمين في هذه الحلقة إلى التوفيق والوساطة بين الجناة و المجني عليهم باعتبارهما عاملين هامين في مواصلة الحوار بشأن المنازعات وضمان تحقيق المصالحة التي تعود بالمنفعة على الطرفين. وقد نص إعلان بانكوك الصادر عن المؤتمر على ضرورة تبني الدول أشكال العدالة الإصلاحية و منها الوساطة.
و قد تناولت بعض الندوات الدولية والمحلية موضوع الوساطة؛ نذكر منها حلقة طوكيو، والتي عقدت باليابان سنة 1983، وكان موضوعها التحول عن الخصومة الجنائية والوساطة. وكذلك ندوة دور المجتمع المدني في منع الجريمة، والتي عقدت في أكاديمية الشرطة بالقاهرة، ومؤتمر تطوير العدالة الجنائية الذي عقد بالقاهرة من 13- 15 أكتوبر 2003 بالتعاون مع معهد العدالة الجنائية بولاية كاليفورنيا الأمريكية. ناهيك عن اهتمام العديد من الجامعات الأوربية كجامعة باريس وليون في فرنسا وجامعة ليوفن في بلجيكا بتدريس الوساطة الجنائية في مناهج كليات الحقوق على مستوى الدراسات العليا، إلا أن الأمر الذي يوضح لنا مدى انتشار الوساطة في الأنظمة الإجرائية المقارنة، هو إقرارها من جانب اللجنة الوزارية للمجلس الأوربي.
– الوساطة الجنائية في توصيات المجلس الأوروبي:
تبنى المجلس الأوروبي آلية الوساطة الجنائية، فقد نصت التوصية الصادرة عام 1987 على ضرورة حث الدول الأوربية على تنظيم وساطة بين المجني عليهم والجناة، وإعداد برامج لمساعدة المجني عليهم مع تقديم الوساطة. وكذلك التوصية الصادرة في سنة 1989، والمتضمنة العمل على تطوير الإجراءات غير القضائية في نطاق القانون الجنائي، ومنها الوساطة الجنائية. إلا أن أهم توصيات المجلس الأوروبي بشأن الوساطة الجنائية على الإطلاق هي التوصية رقم (99)19 الصادرة في 15/9/1999، و هو ما سوف نتناوله بشكل مفصل أثناء تناولنا لموضوع الوساطة الجنائية.
– التوصية رقم (99)19 الصادرة في 15 سبتمبر سنة 1999:
تناول المجلس الأوروبي موضوع الوساطة الجنائية من خلال التوصية رقم (99) 19 الصادرة في 15 سبتمبر سنة 1999، والتي تقضي بحث الدول الأوربية على تطبيق الوساطة الجنائية في تشريعاتها الوطنية، من خلال مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن تلتزم بها الدول الأعضاء في موضوع الوساطة الجنائية، وذلك بالنظر إلى التطورات الحادثة في الدول الأعضاء والتي اتجهت إلى إقرار الوساطة الجنائية باعتبارها إجراءً يتسم بالمرونة، بالإضافة إلى اعتبارها أحد البدائل الهامة للإجراءات الجنائية التقليدية. وكذلك رغبة في تفعيل المشاركة الشخصية الفعالة لكل من المجني عليه والمتهم في الإجراءات الجنائية، وكذلك الاعتراف بالمصلحة المشروعة للمجني عليه في الاستماع إلى آرائه، وحقه في الاتصال بالجاني لكي يحصل منه على الاعتذار عن الجريمة المرتكبة، إلى جانب الحصول على تعويض الضرر الناشئ عنها. وفي نفس الوقت ينبغي العمل على تدعيم الشعور بالمسئولية لدى الجاني، وأن تقدم له الوسائل الواقعية الملائمة لإصلاحه وإعادة اندماجه في المجتمع من خلال شعوره بالمسئولية وإتاحة الفرصة له بتدارك خطأه. وتتمثل هذه المبادئ في ضرورة أن تؤسس الوساطة على الموافقة الحرة للأطراف على اللجوء إليها، و كذا إقرار حقهم في الرجوع عنها في أي مرحلة من مراحلها. وكذلك ضرورة إتاحة اللجوء للوساطة بشكل عام، و في جميع مراحل الإجراءات الجنائية، و أن يكون الاستمرار في خدمات الوساطة من خلال نظام العدالة الجنائية. و أخيراً أشارت هذه المبادئ إلى سرية الوساطة، و أنه لا يجوز استخدام محتواها إلا بموافقة الأطراف.
بالإضافة إلى ذلك، نجد أن المجلس الأوروبي قد أكد على تبنيه لآلية الوساطة في المسائل الجنائية حيث نصت المادة (10/1) من القرار اللائحي الصادر في 15 مارس 2001، والخاص بتمثيل المجني عليهم في الإجراءات الجنائية على أن:” كل دولة من الدول الأعضاء عليها أن تسعى إلى تعزيز الوساطة في القضايا الجنائية فيما يخص الجرائم التي تراها مناسبة لهذا النوع من التدبير.” وكذلك نصت الفقرة الثانية من المادة ذاتها على أن:” كل دولة من الدول الأعضاء عليها أن تكفل أي اتفاق بين المجني عليه والجاني والذي يتم التوصل إليه في سياق هذه الوساطة في القضايا الجنائية ويمكن أن تكون (الوساطة الجنائية) محل اعتبار”.
و قد دفع كل هذا الاهتمام بموضوع الوساطة العديد من الدول الأوربية إلى إقرار نظام الوساطة الجنائية في تشريعاتها الوطنية، ومن التشريعات الأوربية التي أقرت الوساطة الجنائية القانون الفرنسي، فقد أدخل نظام الوساطة الجنائية في فرنسا عام 1993 بموجب القانون 93-2 الصادر في 4 يناير سنة 1993، والذي أضاف فقرة أخيرة للمادة 41 إجراءات جنائية فرنسي. وفي بلجيكا، أدخل المشرع البلجيكي نظام الوساطة الجنائية بموجب القانون الصادر في 10 فبراير 1994، وفي ألمانيا تم إقرار نظام الوساطة الجنائية في عام 1999بمقتضى القانون الصادر في 20/12/1999، وقد أخذت النمسا بهذا النظام منذ سنة 1988، كما أقرته أسبانيا في سنة 1992. ويعتبر القانون البرتغالي أحدث التشريعات الجنائية التي أقرت الوساطة الجنائية بمقتضى القانون 21 لسنة 2007، وإلى جانب التشريعات الأوربية أقرت إنجلترا تطبيق الوساطة الجنائية بمقتضى قانون الجريمة و الفوضى الصادر عام 1998 (The Crime & Disorder Act of 1998) إلى جانب تطبيقاتها عن طريق أقسام الشرطة و مراكز الاختبار بالارتباط مع الشرطة و المحاكم.
– موقف التشريعات الإجرائية والفقه المقارن من الوساطة الجنائية:
عرفت أغلب الأنظمة الإجرائية الوساطة الجنائية، بالرغم من اختلاف تسميتها ونطاق تطبيقها في هذه الأنظمة. وقد طورت عدداً من الدول قوانينها الإجرائية منذ عام 1980، واعتبرت الوساطة الجنائية أحد بدائل العدالة التقليدية، فقد نجحت تجارب الوساطة في بولندا، كندا، ألمانيا الديمقراطية، يوغسلافيا، والاتحاد السوفيتي سابقاً.
– (أ) موقف التشريعات المقارنة:
يختلف موقف التشريعات الإجرائية ما بين جانب يقر الوساطة الجنائية كالقانون الفرنسي والبلجيكي والبرتغالي، وجانب آخر من التشريعات لا يقر الوساطة الجنائية، وإنما يقر نظماً أخرى للتسوية كالصلح و منها القانون المصري وغالبية التشريعات العربية، ومن جانب التشريعات التي أقرت الوساطة الجنائية العديد من التشريعات التي جمعت بين نظامي الصلح والوساطة كالقانون الفرنسي والبلجيكي. وجانب من التشريعات التي نصت على الوساطة كصورة للصلح كالقانون التونسي، الذي نص على الصلح بالوساطة في المواد الجنائية. وفي نطاق التشريعات التي أقرت الوساطة الجنائية، يختلف اتجاه هذه التشريعات بين تشريعات اتجهت إلى إدخال الوساطة الجنائية من خلال الإشارة إليها بنص من مواد قانون الإجراءات الجنائية كالقانون الفرنسي والبلجيكي والسويسري (جنيف) ولوكسمبورج، وجانب آخر من التشريعات كالقانون البرتغالي، والذي أفرد تنظيماً تشريعياً كاملاً لإجراءات وأحكام الوساطة الجنائية.
– (ب)موقف الفقه المقارن:
أختلف موقف الفقه الجنائي المقارن من الوساطة الجنائية ما بين عدة اتجاهات سوف نتناولها عند الحديث عن الطبيعة القانونية للوساطة الجنائية ما بين من يرى الوساطة إجراءاً إدارياً ومن يراها صلحاً مدنياً وآراء أخرى، إلا أن هناك جانب من الفقه المصري والعربي الذي تناول موضوع الوساطة الجنائية في البداية بشكل فرعي باعتبارها أحد صور الصلح الجنائي، أو باعتبارها أحد صور تبسيط وتيسير الإجراءات الجنائية، أو باعتبارها أحد الإجراءات التي تتسم بالسرعة في إنهاء الدعوى الجنائية، أو باعتبارها أحد بدائل العقوبات السالبة للحرية، أو أحد صور خصخصة الدعوى الجنائية. كما ذهب رأي أخر في الفقه إلى اعتبارها من الاتجاهات الحديثة في الدعوى الجنائية. بينما في الوقت الحالي نرى اهتمام من بعض الفقه المصري والعربي بدراسة الوساطة الجنائية بشكل خاص سـواء على مسـتوى المؤلفات القانـونية أو رسائل الدكتوراه أو المقالات المتخصصة.
– أهمية موضوع الوساطة الجنائية:
تتمثل أهمية دراسة موضوع الوساطة الجنائية في اعتبارها أحد الموضوعات التي غزت أغلب التشريعات المقارنة كالقانون الفرنسي والبلجيكي والبرتغالي وغيرها من الدول الأوربية، بالإضافة إلى اتجاه المجلس الأوروبي إلى التوصية بتطبيقها في التشريعات الأوربية، و مما يشير إلى انتشار الوساطة الجنائية في الأنظمة الإجرائية المقارنة ما قرره البعض من أن برامج الوساطة الجنائية قد بلغت في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1994 وحدها (294) برنامج للوساطة وأنه يوجد ما يزيد عن (1300) برنامج للوساطة في أكثر من ثمانية عشر دولة تبنته في العالم كافة؛ وهو ما يؤكد ما ذهب إليه البعض من اعتبارها أحد ملامح الإجراءات الجنائية في الوقت الراهن، والتي تعمل على تحقيق العديد من المزايا العملية لكل من نظام العدالة الجنائية والمجني عليهم والجناة والمجتمع.
فالوساطة الجنائية تعد وسيلة فعالة في علاج الزيادة الهائلة والمستمرة في أعداد القضايا التي تنظرها المحاكم الجنائية عندما تلجأ النيابة العامة إليها لإنهاء المنازعات الجنائية البسيطة، كما أن الوساطة تهدف إلى تنمية روح الصلح بين الجاني والمجني عليه، من خلال الاتفاق على إصلاح ضرر المجني عليه، وإعادة الحال إلى ما كان عليه، دون ولوج الطريق القضائي.
وتسعى الوساطة الجنائية إلى تحقيق بعد إنساني في الإجراءات الجنائية من خلال وضع حلول أكثر إنسانية ومرونة للمنازعات الجنائية يتم التفاوض حولها، لا خرقها. ومن ناحية ثانية تهدف الوساطة الجنائية إلى تحسين صورة العدالة الجنائية وإعادة مصداقيتها، من خلال تنظيم الروابط الاجتماعية والحد من قرارات الحفظ وفرض تعويض حقيقي للمجني عليه مقابل الخطأ الذي ارتكبه الجاني.
وتهدف الوساطة الجنائية إلى تحقيق العدالة السريعة، حيث يكون رد الفعل الاجتماعي سريعاً، وفي وقت قريب من وقوع الجريمة، وبحيث يتحقق التعويض المادي في خلال أسابيع قليلة من وقوع الضرر، بالتالي تتلافى الوساطة المشقة التي يعانيها المجني عليه في الحصول على التعويض، فضلاً عن أن الوساطة تتسم بالعملية في الرد الفعال على النشاط الإجرامي مما يترتب عليه تحقيق الردع العام والوقاية من الجريمة.
وتتسم الوساطة الجنائية بالمرونة في تقدير كيفية وصورة التعويض، فالوساطة تسمح بالتعويض المادي بمعناه الضيق علاوة على إمكانية الاتفاق على أن يتخذ التعويض شكل القيام بعمل لدى المؤسسات أو الجمعيات، على عكس الحكم القضائي الذي يقتصر دوره على تقدير مقدار التعويض. أضف إلى ذلك أن الوساطة يمكن أن تكون وسيلة لتحقيق فكرة التضامن بين الأفراد والدولة في نظام العدالة الجنائية عن طريق مشاركة المجتمع المدني في مكافحة تزايد القضايا، وبصفة خاصة الجرائم البسيطة، حيث كانت الوساطة الجنائية في فرنسا ثمرة تعاون فعال بين القضاة وعلماء الاجتماع الملتزمين بالمشاركة في قضايا مجتمعهم. كما أن الوساطة يمكن اعتبارها وسيلة بديلة للعقوبات السالبة للحرية، والتي أثبتت فشلها في مواجهة الإجرام البسيط، وإعادة تأهيل الجناة.
وتهدف الوساطة الجنائية إلى السماح لطرفي النزاع بالجلوس و الحوار الهادئ سوياً بالشكل الذي يؤدي إلى إزالة الأحقاد والكراهية الناجمة عن وقوع الجريمة، وهو ما لا يتوافر من خلال مباشرة الإجراءات التقليدية. فالوساطة الجنائية تسعى إلى تقريب وجهات نظرهم بشأن الجريمة و يكون لهم مكنة تحديد مضمون الاتفاق الخاص بمعالجة آثار الجريمة، و هو الأمر الذي دفع البعض إلى القول بأن الوساطة الجنائية تتجه صوب النظام الاتهامي الذي يحكم فيه الخصوم مصير النزاع. كما أن الوساطة الجنائية من الناحية النظرية على الأقل تكفل حقوق المجني عليهم واحتياجاتهم بشكل أفضل من العدالة التقليدية، حيث تسمح وفقاً لمفهومها، باجتماع كل من الجاني والمجني عليه تحت رقابة النيابة العامة ليقرروا معاً أنسب الوسائل لعلاج آثار الجريمة ومردوداتها في المستقبل.
و تعد الوساطة الجنائية أحد صور نموذج العدالة الإصلاحية أو التعويضية Restorative justice وهو نموذج العدالة الذي يقوم على فكرة إصلاح الجاني، وكذلك الضرر المترتب على الجريمة كبديل عن فكرة تطبيق العقاب ومجالها الإجراءات الجنائية. وتعتبر الوساطة الجنائية أكثر صور العدالة الإصلاحية المنتشرة في أوروبا. وأود أن أشير أن مصطلح العدالة الإصلاحية يشمل صوراً أخرى كالتعويض، والتحذير، والخدمة العامة. وهي صور تختلف عن الوساطة الجنائية.
– الهدف من دراسة الوساطة الجنائية:
تهدف دراستنا إلى بحث الوساطة الجنائية باعتبارها أحد أوجه تطبيق الرضائية في الدعوى الجنائية؛ فبعض التشريعات الإجرائية اتجهت إلى تطبيق نظام الصلح والبعض الآخر اتجه إلى تطبيق الوساطة الجنائية. فالغرض الأساسي من هذه الدراسة هو تحديد ماهية الوساطة الجنائية والإلمام بأحكامها عن طريق تحديد نطاق تطبيقها وشروط تطبيقها وإجراءات مباشرتها في الأنظمة الإجرائية المقارنة، وذلك بهدف البحث في إمكان الارتكان عليها في تطوير نظامنا الإجرائي في مصر. كما تهدف دراستنا إلى بحث دور الوساطة في نظام العدالة الجنائية، ومدى هذا الدور، وهل هذا الدور معدل لنظام العدالة الجنائية أم مكمل لها؟ وأخيراً يهدف موضوع الدراسة إلى بحث نظام الوسيط الجنائي؛ الشروط الواجب توافرها فيه؛ إجراءات تعيينه؛ الالتزامات الواقعة عليه ووضعه في القانون المقارن.
– الوضع في مصر:
بالرغم من أن المشرع المصري قد توسع في تطبيق أنظمة الصلح والتصالح و الأوامر الجنائية، ألا أنه لم ينص حتى الآن على إجراء الوساطة الجنائية. فالمشرع المصري وأن كان أقر نصوصاً تشريعية للصلح، وإن كانت تختلف عن الوساطة الجنائية ولكنها قريبة الشبه منها. وبالرغم من ذلك فإن الوساطة تطبق في مجال فض المنازعات الإدارية، وفي مجال تسوية المنازعات العائلية بمحكمة الأسرة، وفي مجال منازعات العمل، والوساطة الشرطية لمواجهة المنازعات الطائفية وظاهرة الثأر، بالإضافة إلى مجالس الصلح العرفية المنتشرة في سيناء وصعيد مصر.
– المشكلات التي يثيرها موضوع الوساطة الجنائية:
يثير موضوع الوساطة الجنائية العديد من المشكلات: فالوساطة الجنائية تعد من الأنظمة المستحدثة في القانون الجنائي، وهناك جدل بين الفقه ما بين قبولها ورفضها، كما أن هناك بعض التشريعات المقارنة التي لا تأخذ بها حتى الآن. بالإضافة إلى أن هناك بعض التشريعات التي لازالت تجري بعض التعديلات على تطبيق الوساطة الجنائية في تشريعاتها. كما أن تجارب الوساطة الجنائية في بعض التشريعات المقارنة لا زالت تحت الدراسة، نظراً لحداثة تطبيقها. ناهيك عن انعدام السوابق القضائية التي تبين أحكامها، وكذلك انعدام القواعد المنظمة لكيفية مباشرتها من جانب أطرافها؛ نظراً لاعتبارها تتمتع بحرية الإدارة من قبل الوسيط الجنائي، كذلك عدم وجود إحصائيات كافية بشأن نتائج تطبيق الوساطة في التشريعات المقارنة. أضف إلى ذلك أن الحديث في موضوع الوساطة الجنائية قد يثير بعض التعارضات، مثل المساس بسلطة القضاء و اختصاصهم الوظيفي في حل المنازعات والإخلال بمبدأ قضائية العقوبة و قرينة البراءة و مبدأ المساواة. ناهيك عن اعتراض الفقه التقليدي عليها باعتبارها أحد الوسائل التي تؤدي إلى العدول عن العقوبة. كما أن الوساطة لا تتلاءم مع النظام الجنائي، فهي تجد جذورها – بصفة عامة – في نطاق أفرع القانون الأخرى، وعلى وجه الخصوص في القانون المدني، ولذا تأثر الفقه والقضاء في تحديد ماهية الوساطة بالطبيعة العقدية، وبذلك وجد في الفقه الجنائي اتجاه غالبا ما يقبل الوساطة في المواد الجنائية باعتبارها قائمة على الرضاء، والذي يرفضه الاتجاه التقليدي في الفقه، والذي يرى أن إجراءات الدعوى الجنائية منظمة بالقانون، ولا يجوز للأفراد مخالفة أحكامها بإرادتهم . وأخيراً، من الصعوبات التي واجهتنا أثناء تناول موضوع الوساطة الجنائية هو ندرة الكتابات باللغة العربية حول هذا الموضوع اللهم إلا بعض كتابات الفقه المعاصر إلى جانب رسالة دكتوراه حديثة. ناهيك عن أن غالبية التشريعات العربية لم تنص على إجراء الوساطة عدا القانون التونسي الذي عرف الصلح بالوساطة في المادة الجزائية.
اترك تعليقاً