تطور مفهوم الحماية الجنائية في قانون العقوبات بتغيّر الزمان والمكان :
قانون العقوبات هو مجموعة من القواعد ثلاثية الأهداف، هي اولاً تهدف الى تحديد و تجريم التصرفات التي تشكل جريمة و ثانياً إلى تحديد الأشخاص الذين يتحملون المسؤولية عن ارتكاب الجرائم و ثالثاً إلى تحديد مقدار العقوبة المترتبة على ارتكاب كل جريمة، و يكون بذلك الدور الأبرز لقانون العقوبات هو تحديد ما يدخل ضمن مُسمّى الجريمة اي ما هو ممنوع القيام به في المجتمع و كأنه يُشكّل قائمة التصرفات المحظورة إضافة إلى القواعد التي على اساسها تترتب المسؤولية الجنائية.
قانون العقوبات يهدف الى معاقبة تصرف كان سبق ارتكابه زمنياً ان إعتبره المشرع “جريمة” بنص واضح وصريح. هناك وظيفة اخرى لقانون العقوبات و هي وظيفة ردع وقائية لأن قانون العقوبات حذّر مسبقاُ من يريد ارتكاب الجرم عبر وضع لائحة حصرية بهذه الجرائم كي لا يرتكبها الشخص و يحاسب ويُعاقب على إرتكابها وهذا ما يُسمى وظيفة الردع العام لقانون العقوبات. مما لا شك فيه ان قانون العقوبات ذات بُعد تعبيري رمزي في كل مُجتمع إذ يعبّر بشكل عام عن مجمل المصالح والقيّم الأساسية في المجتمع التي تستوجب الحماية او بصورة اوضح هو شاهد على الأهمية التي يوليها القانون لمجموعة من القيّم الأساسية في الُمجتمع. هل كل القيّم والمصالح في المجتمع محميّة من قبل القانون؟ اليس مفهوم القيّم والمصالح في المجتمع مرن واسع فضفاض؟ حقيقةً يجب فهم مصطلح المصالح والقيّم العامة بطريقة غير تقليدية ومرنة إذ ان هذه المصالح والقيّم تتغير بتغير الزمان والمكان اي من مجتمع لآخر في نفس الزمان وفي نفس المجتمع الواحد في ازمنة مُختلفة. وبالتالي فإن نوع الحماية واسلوب الحماية لذات القيم والمصالح في قانون العقوبات تتفاوت وتتطورمتأثرة بالعديد من العوامل.
تطور مفهوم الحماية الجنائية لقانون العقوبات بإختلاف الزمان في نفس المكان :
مقارنة بين قانون التقوبات الفرنسي القديم الصادر سنة 1810 والقانون العقوبات الفرنسي الحالي الصادر سنة 1994:
القانون ليس بعيداً عن حركة التطور الطبيعية التي تحصل في كافة المجالات والعلوم لذلك قانون العقوبات يتطور ليساير التطورات والتغيرات التي تطرأ على المجتمع الذي يُطبق فيه هذا القانون و نصوصه على افعال افراد هذا المجتمع. المصالح والقيم الأساسية الراسخة في المجتمع والتي يحميها قانون العقوبات منذ فترة زمنية طويلة تستوجب ان نرصد و نلاحظ عامل مهم يتعلق بطريقة وكيفية حمايتها جنائياً عبر نصو القانون بحيث يبدو جلياً ان حماية هذه المصالح تختلف بتغير الزمان في المجتمع الواحد على سبيل المثال يمكن مقارنة قانون العقوبات في دولة معينة في زمن معين مع قانون العقوبات الجديد لذات الدولة بعد مرور حقبة زمنية معينة (سنوات). من الأمثلة المعبّرة عن هذا التطور في الحماية الجنائية لقانون العقوبات يمكن الإسترشاد بقانون العقوبات الفرنسي القديم المعروف بـ قانون نابوليون 1810 الذائع الصيت.
كان قانون العقوبات الفرنسي القديم اي قانون الـ 1810 ينص الى جانب القواعد العامة الرئيسية التي تحكم المبادئ الأساسية في العقوبات على تجريم مجموعة من الأفعال وقد اختار المشرع الفرنسي حينها تبويبها تحت عناوين رئيسية وهنا نتكلم ايضا عن شكل وتقنية الصياغة او عن منطق الحماية الذي إختاره المشرع الفرنسي اي اختيار خطة الحماية الجنائية اثناء صياغة قانون العقوبات، فنلاحظ ان قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1810 اختار الخطة التالية: جرّم المشرع الفرنسي اولاً في قانون 1810 بالنص الجنح والجنايات الواقع على الأشياء العامة او الشيء العمومي Crimes et délits contre la chose publique والتي يدخل في إطارها بحسب خيار المشرع الفرنسي الجنايات والجنح الواقعة على امن الدولة Crimes et délits contre la sûreté de l’État ، و الجنايات والجنح الواقعة على دستور الإمبراطورية الفرنسية Crimes et délits contre les constitutions de l’Empire ، و الجنايات والجنح الواقعة على الأمن العام او السلامة العامة Crimes et délits contre la paix publique . ومن ثم انتقل المشرع الفرنسي في قانون العقوبات لسنة 1810 الى عنوان اخر تحت مسمى الجنايات والجنح الواقعة ضد الأفراد Crimes et délits contre les particuliers والتي تشمل الجنايات والجنح ضد الأشخاص Crimes et délits contre les personnes والتي بدورها تشمل القتل والجنايات الأخرى الرئيسية Meurtres et autres crimes capitaux والجرح والضرب العمدي الغير مؤدي للقتل وجنايات وجنح اخرى عمدية Blessures et coups volontaires non qualifiés meurtre, et autres crimes et délits volontaires بالإضافة الى جرائم القتل، الجرح والضرب الخطأ Homicide, blessures, et coups involontaires . وتشمل الجنايات والجنح ضد الأفراد بحسب قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1810 الجنايات والجنح المرتكبة ضد الملكية والتي بدورها تشمل جرائم السرقة Vols ، و الإفلاس Banqueroutes والإحتيال Escroqueries و حالات أخرى من النصب او الإحتيال autres espèces de fraude.
اما قانون العقوبات الفرنسي الحالي المعروف تحت مُسمّى قانون 1994 فقد جاء مُختلفاً في صياغته لشكل واسلوب الحماية الجنائية للمصالح والقيّم الرئيسية والأساسية في المجتمع الفرنسي إذ غيّر منطق الحماية الجنائية إثناء صياغة قانون العقوبات على النحو التالي: قسم اساسي تحت عنوان الجنايات والجنح المرتكبة ضد الأشخاص Des crimes et délits contre les personnes الذي يحتوي على الجرائم ضد الإنسانية Des crimes contre l’humanité و الإعتداءات الواقعة على الشخص الإنساني Des atteintes à la personne humaine كالقتل الإرادي l’homicide involontaire . ومن ثم ينتقل المشرع الفرنسي في قانون العقوبات الحالي (قانون 1994) الى باب اخر تحت مُسمّى الجنايات والجنح ضد الأموال Des crimes et délits contre les biens التي تحتوي على جرائم السرقة Du vol ، الإحتيال De l’escroquerie و إساءة الأمانة De l’abus de confiance على سبيل المثال. ثم ينتقل المشرع الفرنسي الى باب جديد في قانون 1994 تحت مُسمّى الجنايات و الجنح الواقعة ضد الأمة، الدولة و السلامة العامة Des crimes et délits contre la nation, l’état et la paix publique والتي تشمل جرائم الخيانة، التجسس و الإرهاب على سبيل المثال De la trahison, de l espionnage et du terrorisme.
يتضح من المقارنة التي اجريناها بين خطة و سياسة المُشرّع الفرنسي في صياغة منطق الحماية الجنائية للمصالح والقيم الأساسية في المجتمع الفرنسي في قانون العقوبات لسنة 1810 و بين المنطق والخطة التي استعملها المُشرّع في سنّ قانون العقوبات لسنة 1994 المُطبّق حالياً المُستمد من تجربة غنية و مؤثرة في قانون العقوبات الفرنسي، انه حتى لو كانت هذه المصالح العليا والقيم المشار إليها سابقاً محميّة في قانون العقوبات منذ فترة زمنية طويلة و راسخة هذه الحماية للقيم في نفس المجتمع ووجدانه إلا ان مرور فترة زمنية طويلة كافٍ بحد ذاته ضمن نفس المجتمع على إجبار المشرّع ان يتعامل بذهنية جديدة إثناء صياغة القانون الجديد عن طريق تغيير شكل و وسيلة الحماية الجنائية لهذه المصالح والقيم او استحداث حماية جنائية لمصالح و قيم جديدة لم تكن مطروحة في القانون القديم عت طريق إضافة نصوص تجريم جديدة او على العكس إلغاء الحماية الجنائية عن مصالح وقيّم لم تعد بذات الأهمية في المجتمع مع مرور السنوات وتطور المجتمع.
تطور مفهوم الحماية الجنائية لقانون العقوبات في نفس الزمان بإختلاف المكان:
يبدو واضحاً تطور مفهوم الحماية الجنائية للمصالح والقيّم بين مجتمع واخر في نفس الزمان، اي تطور وإختلاف مفهوم الحماية في نفس الفترة الزمنية داخل مجتمعين مُختلفين وقد اخذنا على سبيل المثال المقارنة بين قانون العقوبات الفرنسي الحالي مع قانون العقوبات اللبناني الحالي. اذا هناك ايضاً تطور في مفهوم الحماية الجنائية للمصالح والقيم الأساسية في قانون العقوبات بتغير المكان اي ضمن مكانين او مجتمعين مختلفين في فترة زمنية واحدة. لفهم هذه الظاهرة كان من الضروري الإسترشاد بأمثلة عديدة لكن الأكثر تعبيراً عن هذه الظاهرة هو تجريم قانون العقوبات الفرنسي لما يُعرف بـ جريمة الـ هابي سلابينغ happy slapping وهي جريمة مستحدثة اي جريمة جديدة في قانون العقوبات الفرنسي أُنشأت بموجب قانون رقم 297-2007 تاريخ 5 آذار (مارس) سنة 2007. ولكن ما هو مفهوم الـ هابي سلابينغ happy slapping؟ هو تصوير الإعتداء الجسدي على حين غرة (المفاجئ) الواقع على الإنسان بهدف نشرها على مواقع الإنترنت او تبادلها على الهاتف المحمول بواسطة الرسائل.
ويُعاقب قانون العقوبات الفرنسي الشخص الذي قام بالتصوير في جريمة الـ هابي سلابينغ happy slapping بنفس العقوبات التي يتم تطبيقها على الشخص الذي قام بإرتكاب الإعتداء وهي العقوبات المنصوص عنها في المواد 222-1 الى المواد 222-14-1 و من المواد 222-23 الى المواد 222-31 من قانون العقوبات الفرنسي. اما سبب تطبيق نفس العقوبة على الشخص الذي قام بتصوير الإعتداء الجسدي فهو بإعتبار ان فعل تصوير الإعتداء يُعتبر إشتراك جرمي complicité criminelle وفقاً لنص المادة 222-33-3 من قانون العقوبات الفرنسي. اما مسؤولية نشر مقطع فيديو الإعتداء فتصل عقوبتها في القانون الفرنسي للحبس 5 سنوات وغرامة مالية بـ 75 الف يورو طبقاً لنص المادة 3-33-222 من قانون العقوبات الفرنسي.
يتضح اننا امام حماية من نوع خاص اقل عمومية وعالمية على صعيد الإنتشار و اقل رسوخاً كمفهوم جدير بالحماية داخل المجتمع مقارنة بالحماية المتجذرة والمتأصلة والراسخة لجريمة القتل على سبيل المثال. القانون عامة وتحديدا بشكل خاص قانون العقوبات يعبّر عن خيار choix لسياسة معينة ينتهجها المُشرع في كل دولة في إختيار سياسة مُعينة في التجريم او الإباحة(1) تعكس توجّه مُعيّن في إختيار او تقرير شكل حماية المصالح والقيّم العُليا في المُجتمع وهي تختلف بين مُشرّع واخر بإختلاف المُجتمع وهذا ما يظهر لنا واضحا في تجريم الـ هابي سلابينغ happy slapping في قانون العقوبات الفرنسي في نفس الوقت الذي تغزو فيه ظاهرة الـ هابي سلابينغ المجتمع العربي بكل بشاعتها دون ان تُشكل اي نفور او استياء في المُجتمع العربي وهو ما انعكس ايضاً على المُشرّع في هذه الدول العربية وهو مرآة عاكسة للمجتمع يُشرّع بتفويض منها وعلى صورتها وبالتالي لم يُفكر المُشرّع اللبناني او غيره في الدولة العربية من تجريم هذه الظاهرة السيئة المنتشرة بكثافة على مواقع الإنترنت العربية وبين الأفراد الذين يتبادلون هذه الفيديوهات فيما بينهم بواسطة الرسائل الهاتفية. ما سبق يفتح المجال عن الحديث عن العلاقة التي تجمع بين قانون العقوبات وبين القواعد السلوكية والأخلاقية التي تؤثر وترشد حتماً في سياسية واختيارات المشرّع في تجريم الأفعال السلوكية دون ان تختلط هذه العلاقة بين قانون العقوبات و القواعد السلوكية والأخلاقية داخل كل مجتمع. في المبدأ قانون العقوبات لا يُعاقب كل انتهاك لقاعدة سلوكية او اخلاقية اتفق المجتمع او اكثريته على إدانتها اي ان قانون العقوبات لا يُعاقب بطريقة اوتوماتيكية كل التصرفات او الإنتهاكات المرفوضة و المنبوذة من قبل المجتمع ولكنه دون شك يتأثر بها لأن المُشرّع يُمثّل المجتمع وضميره ويتفاعل معه.
نأخذ على سبيل المثال جريمة الزنا المعروفة باللغة الفرنسية بمصطلح l adultère او بالخيانة الزوجية وتستعمل بالفرنسية عبارة trahison conjugale او infidélité conjugale. الزنا بحسب التعريف المُعطى له من طرف فقيه القانون الجنائي الدكتور محمود نجيب حسني هو “اتصال شخص متزوج (رجل أو امرأة) اتصالا جنسياً بغير زوجه، والزنا جريمة ترتكبها الزوجة إذا اتصلت ( جنسيا برجل غير زوجها، ويرتكبها الزوج إذا اتصل جنسيا بامرأة غير زوجته”.(2) اذاً جريمة الزنا هي العلاقة الجنسية التي يقيمها احدى طرفي عقد الزواج مع شخص من خارج هذه الرابطة الزوجية او إطار الزواج. القانون الفرنسي القديم كان يُعاقب الزوجة المُرتكبة لجريمة الزنا بعقوبة اشدّ من عقوبة الزوج المُرتكب لنفس الجريمة حيث كان القانون الفرنسي القديم يُعاقب الزوجة بالحبس من ثلاثة اشهر لسنتين طبقا لنص المادة 337 من قانون العقوبات الفرنسي القديم. اما الرجُل المُرتكب لجريمة الزنا فكان يُعاقبه القانون الفرنسي القديم بالغرامة فقط من 360 الى 7200 فرنك فرنسي (كانت العملة الفرنسية الرسمية هي الفرنك الفرنسي حينها) وفقط في حالة إقامة العلاقة الجنسية في المنزل الزوجي. طرأت لاحقاً تطورات وتغيّرات في مفهوم وتقييم المجتمع الفرنسي لهذه الجريمة والنظرة إليها دفعت المشرع الفرنسي الى التجاوب والتفاعل معها و ادّت في المحصلة النهائية الى إخراج جريمة الزنا من مجال التجريم في القانون الفرنسي سنة 1975 بموجب القانون رقم 617-75 تاريخ 11 تموز 1975 ، واصبح قانون العقوبات الفرنسي لا يُعاقب على إرتكاب فعل الزنا اي لا يُعتبر العلاقة الجنسية لأحد طرفي عقد الزواج مع طرف ثالث جريمة في نظر قانون العقوبات الفرنسي من ذلك الوقت. ومما لاشك في ان القانون هو مرآة تعكس عادات وتقاليد وصفات ومفاهيم المجتمع في كل دولة ويبدو جلياً نتائج تأثر المُشرع في كل دولة بهذه التأثيرات المختلفة عبر صياغة نصوصه القانونية لاسيما المتعلقة بفلسفة ودور العقاب سواء بظاهرة تجريم افعال جديدة لم تكن مُجرّمة من قبل اي استحداث جرائم جديدة او على النقيض من ذلك عن طريق إلغاء بعض الجرائم التي اعتبرها المجتمع (بأكثريته) بمرور الزمن غير ذي اهمية او غير جديرة بالحماية الجنائية وبالتالي اخرجها المُشرّع من دائرة التجريم. في المقابل المجتمع العربي لم يغير نظرته وموقفه من العلاقة الجنسية خارج نطاق او إطار عقد الزواج وبالتالي فإن جريمة الزنا بقيت محل تجريم في التشريعات الجزائية العربية. على سبيل المثال فإن قانون العقوبات اللبناني يُعالج موضوع الزنا في إطار الجنح المخلة بالآداب العيلية بحيث يُعاقب المرأة اذا ارتكبت جريمة الزنا بعقوبة الحبس من 3 اشهر كحد ادنى وتصل العقوبة لحد اقصى هو ثلاثة سنوات طبقاً لنص المادة 487 من قانون العقوبات اللبناني ” المادة 487- تُعاقب المرأة الزانية بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنتين. ويقضى بالعقوبة نفسها على شريك الزانية إذا كان متزوجاً وإلا فبالحبس من شهر إلى سنة” .
اما عقوبة الرجل الذي يرتكب جريمة الزنا في قانون العقوبات اللبناني فتتراوح بين الحبس من شهر الى سنة اذا ارتكب جُرم الزنا في البيت الزوجي او اذا اتخذ له خليلة جهاراً (بشكل علني مفضوح) في اي مكان حسب تعبير المشرّع اللبناني ” المادة 488- يُعاقب الزوج بالحبس من شهر إلى سنة إذا ارتكب الزنا في البيت الزوجي أو اتخذ له خليلة جهاراً في أي مكان كان. و تنزل العقوبة نفسها بالمرأة الشريك”. وعلى الهامش يمكن مُلاحظة التمييز في مقدار العقوبة من جهة بين الرجل الزاني والمرأة الزانية في قانون العقوبات اللبناني ومن جهة اخرى في اركان جريمة الزنا المرتكبة بين الرجل الزاني والمرأة الزانية. وفي الحالتين نلاحظ انه تمييز غير عادل يجعل المشرع اللبناني مُخلاً بشكل ساطع وفاضح في المساواة بين الرجل والمرأة في مجال تجريم الأفعال المتشابهة سلوكيا واخلاقياً في الوقت الذي اصبحت فيه جريمة الزنا مُهددة بالإنقراض من وجدان الجماعة والمجتمع في العديد من الدول الأوروبية بعد ان اخرجها المُشرّع في العديد من هذه الدول من نطاق الجريمة كلياً.
تأثير تغيّر وتطور المصالح والقيّم لإجتماعية على قانون العقوبات العام والخاص:
لا يخضع قانون العقوبات العام (3) لهذا التطور والتغيّر السريع اجمالاً. وعلى العكس من ذلك يُعتبر قانون العقوبات الخاص بمثابة ارض خصبة لهذه التطورات. في هذا المجال يوجد حركتين او عمليتين تسيران بعكس بعضهما البعض او حركة مزدوجة مؤلفة من تجريم و عدم تجريم . الأولى حركة تسير نحو توسيع نطاق التجريم من قبل المُشرّع في قانون العقوبات وتُعرف هذه الحركة او الظاهرة باللغة الفرنسية بالــ pénalisation. الثانية حركة تسير و تجنح نحو التضييق من نطاق التجريم عبر إخراج الأفعال من نطاق قانون العقوبات اي عدم إعتبارها جريمة، تُعرف هذه الحركة او الظاهرة بالـلغة الفرنسية بالـ dépénalisation . ايضا للتوضيح ان عبارة Dépénalisation بالفرنسية هي عملية اخراج الفعل من نطاق التجريم اي اعتباره لا يُشكل جريمة عبر الغاء نص القانون الذي كان موجودا في قانون العقوبات كما حصل في فرنسا في جريمة الخيانة الزوجية infidélité conjugale او الزناadultère سنة 1975. ان توسيع نطاق العقاب والتجريم يرمز ان إرادة المُشرّع تذهب بإتجاه إضافة وتقرير المزيد من حالات التجريم التي لم تكن بطبيعة الحال مُجرّمة من قبل. في الحالة الأخيرة يقوم المُشرّع بتحديد انواع الأفعال التي تُشكل جريمة و يُحدد اركانها الجُرمية و يفرد لها عقوبة عن طريق اضافة نصوص قانونية جديدة على قانون العقوبات لإحتواء اي تصرف غير مقبول افرزته التطورات في المجتمع مع بروز مشاكل جديدة وجرائم جديدة لا تغطيها النصوص القانونية القديمة السارية المفعول فيلجاء المشرع لتجريم هذه الأفعال بنصوص قانونية جديدة لإحتواء هذه الأفعال وإسباغ حماية جنائية على مصالح و قيّم جديدة افرزها تطور المجتمع او التكنولجيا في المجتمع بحبث انها لم تكن محميّة جنائياً من قبل على سبيل المثال الجرائم الناتجة عن استعمال الإنترنت وتفرعاتها او الجرائم الإرهابية. وعلى سبيل المثال في تأثر الحماية الجنائية التي يُررها المشرع بتطور الظواهر في المجتمع سواء سلبياً او إيجابياً يُمكن الإسترشاد بأمثلة مستمدة من القانون الفرنسي اذ كان قانون العقوبات الفرنسي القديم والمعروف بإسم قانون نابوليون الصادر سنة 1810 يُجرّم التسول mendicité لكن المشرع الفرنسي عاد واخرج جريمة التسول من نطاق التجريم في سنة 1994 في قانون العقوبات الفرنسي الجديد. ولكن ما لبس المُشرّع الفرنسي ان عاد مرة أخرى وادخل التسوّل في نطاق التجريم في قانون 18 آذار (مارس) من سنة 2003 مع اضافة تحت مُسمّى التسوّل هي عبارة التسول تحت ضغط او عدوانية mendicité aggressive او بواسطة التهديد بالحيوانات الخطرة sous la menace d’un animal dangereux طبقا لنص المادة 312-12-1 من قانون العقوبات الفرنسي. مما لاشك فيه ان هناك تغيّر وتبدل في مفاهيم المجتمع هي التي ادت او دفعت سابقاً المشرّع الفرنسي لتجريم فعل او سلوك معين من ثم اجبرته على إلغائه من نصوص قانون العقوبات ومن جديد ادت الى دفعه الى إعادة تجريمه مجددا مع إضافة مُتمثلة بأركان الجريمة مُستمد من تسميتها وبناءها النصي اي صياغة نص التجريم كما اسلفنا في جريمة التسوّل في قانون العقوبات الفرنسي.
وتبدو العلاقة واضحة بين الضرر الذي يًهدد المجتمع وبين سنّ القوانين التي تمنع القيام بالأفعال الضارة في المجتمع وتتجسد هذه العلاقة في نص المادة الخامسة من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 على ما يلي:” ليس للقانون الحق في منع سوى الأعمال الضارة بالمجتمع. فكل ما لا يحرمه القانون لا يمكن منعه ولا يمكن إجبار أحد على فعل ما لا يأمر به القانون”. علماً ان المجلس الدستوري الفرنسي في قراره الذي حمل الرقم 71-44 بتاريخ 16/07/1971 اعلن صراحة ان الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر عام 1789 يتمتع بقيمة قانونية دستورية في القانون الفرنسي وبالتالي يتربع على قمة البناء القانوني، في هرم القواعد القانونية طبقاً لفكرة تدرج القواعد القانونية التي ابتدعها الفقيه القانوني النمساوي هانز كيلسّن Hans Kelsen المعروفة بـ La pyramide de Kelsen.
المراجع والهوامش:
1- الإباحة بالمعنى العكسي لعبارة التجريم اي عدم اعتبار الفعل جريمة.
2- الدكتور محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات القسم الخاص، دار النهضة العربية،القاهرة، 1991 ، صفحة 456
3- تجدر الإشارة الى ان قانون العقوبات عادة ينقسم الى قسمين: 1- قسم قانون العقوبات العام الذي يشمل المبادئ والأحكام العامة التي تحكم للتجريم والعقابي وتشمل الأحكام والمبادئ العامة التي تخضع لها جميع الجرائم والعقوبات. 2- قسم قانون العقوبات الخاص الذي يشمل نصوص تحدد الجرائم والعقوبات المقررة لكل جريمة.
بقلم الاستاذ علي عطايا المحامي
اعادة نشر بواسطة محاماة نت .
اترك تعليقاً