توسع القضاء الإداري في مفهوم شرط المصلحة لقبول دعوى الإلغاء
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
الجمعية غير مرخص لها بسبب مخالفتها لأحكام البلاغ المطعون فيه. مع التذكير بأن الجمعية المستدعية تأسست قبل شهرين من صدور البلاغ، وأودعت بيان التأسيس مصلحة الشؤون السياسية والإدارية في وزارة الداخلية بتاريخ 23/11/1995.
وهكذا عندما صادفت هذه الجمعية مشكلةً إدارية تقدَّمت بهذا الطعن حماية لنفسها من سحب رخصتها ، وإن كان أثر هذا الإبطال ستستفيد منه كل الجمعيات لأن للإبطال مفعولاً مطلقاً ومفعولاً شاملاً بمعنى أن كلَّ من يعنيه القرار يمكنه طلب الإفادة منه حتى ولو لم يكن فريقاً في المراجعة على أساس أن العدالة يجب أن تكون واحدة للجميع(راجع مثلاً: شورى لبنان قرار رقم 6، تاريخ 18/1/71، المحامي أكرم بيضون / الدولة، المجموعة الإدارية71، ص 21).
فهذه المصادفة هي التي حمت الجمعيات من نصٍ كان سيبقى حيِّز التنفيذ لأن أياً من الجمعيات التي يتجاوز عددها الآلاف لم تكن قد تنبهت إلى خطورة هذا البلاغ، ولم تهتم بالمحافظة على مشروعية الأنظمة التي ترعى شؤونها وشؤون الأفراد المنتمين إليها. وهنا تكمن الخطورة الكبرى والخلل في نظامنا القانوني، حيث يُلاحظُ بشكلٍ لافتٍ إحجام اللبنانيين عن اللجوء إلى القضاء إلا عند الضرورة والضرورة الملحة فقط، مع أن قضاء الإبطال هدفه الأساسي المحافظة على المشروعية وفقاً للمبادئ العامة للقانون، على ما استقرت عليه أحكام القضاء منذ حكم Lamotte حيث يعتبرها مفتوحة بدون حاجة إلى نص يقرها ضد كل قرارٍ إداري (C.E.Ass. 17 février 1950, ministre de l’agriculture c. Dame Lamotte, Rec. Cons. d’Ét. P110 ). ولأهمية مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة في حماية المشروعية ودولة القانون، فإن الفقية الفرنسي Chapus، يسميها بالمراجعة للمنفعة العامة.
Le Recours pour excès de pouvoir est, d’autre part, ce que j’appellerai un recours d’utilité publique, par ce que son objet est la sauvegarde de la légalité(Chapus, René- droit du contentieux administratif- Montchrestien 10e édition 2002 p204 no251).
فإذا كانت المصادفة هي التي أدت إلى إبطال البلاغ الصادر عن وزير الداخلية، فهل يمكن أن تتكرر هذه المصادفة في كل مرة، وهل يمكن المسامحة في إبقاء أنظمة إدارية حيِّز التنفيذ رغم اتصافها بعدم المشروعية، وهل يجب أن نتجه إلى القضاء فقط عندما يمسُّنا عمل تنظيمي بصورة مباشرة؟ ولماذا نحوِّر هدف مراجعة الإبطال لتجاوز حد السلطة، ونجعلها لخدمة مصالحنا الضِّيقة، مع أنها وجدت أصلاً للمحافظة على المشروعية؟.
إن الدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه، بصورة أساسية، الجمعيات والنقابات والهيئات الخاصة، هو دور المراقب للنشاط الإداري، خاصةً بعد أن تهيأت الظروف لولادة مبدأ الإلغاء الإجباري للأنظمة غير المشروعة، بحيث يستطيع الآن كل صاحب مصلحة أن يتقدَّم من الإدارة المختصة ويطلب منها إلغاء كل نظام إداري غير مشروع،دون تقيدٍ بأي مهلة زمنية، وتكون الإدارة في موضع المُلزمِ باستجابةِ هذا الطلب، دون أن يكون أمامها أي خيارٍ آخر. وقد ألقى مبدأ الإلغاء الإجباري على عاتق المواطن مهمة التصدي للمطالبة بالدفاع عن المشروعية، فهو الحارس الجديد للمشروعية، فهل سيستطيع القيام بهذه المهمة الجليلة؟ (راجع حول هذا المبدأ: كتابنا بعنوان الإلغاء الإجباري للأنظمة الإدارية غير المشروعة- سلسلة القانون العام-2- منشورات مكتبة الاستقلال2003).
ثانياً: التساهل في شرط المصلحة في دعاوى الإبطال
إن ما يحاول البعض التذرع به من أجل عدم رفع دعاوى إبطال الأنظمة الإدارية، هو الخوف من أن تُرد مراجعتهم لسبب انتفاء المصلحة للإدعاء. لأن من المسلم به أن المصلحة شرط أساسي لقبول الدعوى، وفقاً لمبدأ “حيث لا مصلحة لا دعوى” إذ لا يجوز إشغال القضاء في أمور لا نفع للمستدعي من ورائها، ويفرض المنطق السليم هذا الأمر، لأن وظيفة القضاء في أهم جوانبها هي رعاية مصالح الناس وفصل النزاعات وتحقيق العدل، فإذا تحول القضاء مسرحاً لدعاوى يتقدم بها أي شخص لن يجني من ورائها أي كسب ولا تتعلق بمصالحه وحقوقه، فإن هذا سيحوِّلُ القضاء مسرحاً لمراجعاتٍ كيديةٍ لا طائل منها، وتعيق لكثرتها النظر في القضايا الجادة والأساسية(Debbasch,Charles – Contentieux administratif – Dalloz 6e édition 1994 p260 no289).
وقد تذرَّعت الدولة في هذه القضية بهذه الحجة وطالبت برد المراجعة، مدعيةً أن مصلحة الجمعية منتفية للطعن، وأن البلاغ المطعون فيه لا يمسّ حقاً مكتسباً للمستدعية.
ولكن مجلس شورى الدولة كان متنبهاً لخطورة هذا الدفع، وما ينتج عنه من حالة إحباط نفسي تدفع المواطنين للإحجام عن طلب إبطال أنظمة يظنون بعدم مشروعيتها. وكان الرد القضائي حاسماً عندما قال بأنه ولئن كانت المصلحة المطلوب توافرها في مراجعة الإبطال هي الفائدة المرجوة من تقديم المراجعة ومن استصدار القرار القضائي بالإبطال والتي تبررها مصلحة مشروعة ومباشرة ومركز قانوني خاص مس بهما القرار المطعون فيه، إلا أن الاجتهاد توسع في نطاق قضاء الإبطال وبات قاضي الإبطال مرناً في تقدير المصلحة التي أصبحت تتسع لتشمل النتائج الضارة المحتملة على وجه أكيد كقرينة على جدية المراجعة فيكتفي القاضي بأن يكون هناك إمكان لحصول الضرر واحتمال إفادة الطاعن في المستقبل من إبطال القرار المطعون فيه ولو لم يكن من المؤكد أن إبطال القرار المطعون فيه يكسب الطاعن نفعاً عاجلاً أو أكيداً.
ويبدو أن الإجتهاد اللبناني قد كشف عن مبدأ عام جديد في إطار أصول المحاكمات الإدارية، ومفاده القبول بالمصلحة المحتملة، مادية كانت أو معنوية أو أدبية في إطار دعاوى الإبطال، ويستند في ذلك إلى التساهل الملحوظ الذي يبديه الاجتهاد الإداري، في ما خص الإبطال رغبة منه في الوصول إلى إبطال عمل إداري مغاير للقانون وذلك حفاظا منه على مبدأ الشرعية وصيانة المصلحة العامة (راجع على سبيل المثال: مجلس القضايا- قرار رقم484/2002-2003 تاريخ17/5/2003 الرابطة المارونية/ الدولة).
وهذا المبدأ الجديد الذي ظهر في مجال طلب إبطال الأنطمة غير المشروعة، جاء لينهي الخوف من أن يتبى الإجتهاد الإداري اللبناني موقفاً سابقاً له اتخذه في المراجعتين التي تقدم بهما اتحاد النقابات العمالية للمصالح المستقلة والمؤسسات العامة،ونقابة عمال السكك الحديدية في لبنان، يطلبون فيها إبطال المادة الثالثة من المرسوم رقم 4517 تاريخ 13/12/1972 التي تمنح الحكومة حق دمج وإلغاء المؤسسات العامة بموجب مرسوم(نص تنظيمي). وقد أدلت المستدعيتان أن دمج وإلغاء المصالح المستقلة والمؤسسات العامة بمرسوم وهي التي أنشئت بقانون يلحق الضرر بمصالح أعضائها. وتكون لهما مصلحة مشروعة ومباشرة في طلب إبطال المادة المذكورة. ولكن مجلس الشورى ردَّ هاتين المراجعتين شكلاً لعبة عدم توفر المصلحة لطلب إبطال هذه المادة ومما جاء في حيثيات قراره:” أن المستدعي يبني مصلحته على ضررٍ يبقى في إطار التوقع غير الأكيد أو المحتمل حصوله. ويبقى للمستدعي الطعن في المراسيم المذكورة في حال صدورها وتعريضها حقوق أعضائه للضياع…”. (شورى لبنان قرار رقم 11 تاريخ 11/1/1984 – نقابة عمال السكك الحديدية في لبنان / الدولة – شورى لبنان قرار رقم 289 تاريخ 15/11/1984 – اتحاد النقابات العمالية للمصالح المستقلة والمؤسسات العامة / الدولة – مجلة القضاء الإداري 1985 ص248).
إن وجه التقارب بين هذين الحكمين الأخيرين وبين الحكم الصادر في مراجعة جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات هي أنهم صدروا طعناً بنصٍ تنظيمي، وكان حكم مجلس الشورى في الحالتين متبايناً. ولكن المهم في الحكم الأخير الصادر في قضية جمعية الدفاع عن الحقوق والحريات، أنه تبنى موقفاً أقرب إلى تحقيق المشروعية، وهو ما يتمسك به الإجتهاد في إطار طلب الإلغاء الإجباري للأنظمة غير المشروعة، فقد برز موقفٌ متساهلٌ ذهب إلى حد السماح ” لكل شخص وُجِد في مواجهة رفض الإدارة إلغاء هذه الأنظمة، يكون له مصلحة في الطعن ضد هذا الرفض، حتى ولو لم يكن له مصلحة في طلب الإلغاء بذاته(C.E. 27 juin 1986, Assoc. S.O.S. Défense, Dr. adm. 1986, no419.). وظهر موقفٌ ثانٍ أكثر دقةً ومنطقاً، حيث قضى بصورة معاكسة، ” أن المتقاضين فقط الذين لهم مصلحة في طلب إلغاء الأنظمة غير المشروعة، هم الذين يستطيعون التقدم من القضاء لطلب إبطال رفض الإدارة المختصة استجابة طلبهم بإلغاء هذه الأنظمة” وهذا الموقف الحذر هو الذي أخذ به الإجتهاد موقفه في قضية Alitalia .
(C.E. Ass.3 février 1989, Alitalia –Rec. Cons. d’Ét. P44).
وظهر هذا التساهل في قبول مراجعات الإبطال لتجاوز حد السلطة، وكأنه استجابة لتطلع الجميع نحو نظامٍ قانونيٍ خالٍ من أنظمةٍ غير مشروعة، وهذا هو الغاية التي من اجلها كشف القضاء عن مبدأ الإلغاء الجبري للأنظمة غير المشروعة، وهو أيضاً ما تطلَّع إلى إقراره الرئيس حسين الحسيني عندما تقدَّم باقتراح قانون يرمي إلى اعتبار النائب صاحب مصلحة في مراجعة مجلس شورى الدولة، وإن لم يكتب لهذا الاقتراح إمكانية الإقرار، بعد أن اعتبره مجلس شورى الدولة مخالفاً لأحكام الدستور ولقواعد الاختصاص المرتبطة بالنظام العام (راجع: الرأي رقم62/2000-2001 تاريخ8/1/2001- مجلة القضاء الإداري في لبنان2003 ص113). ومع ذلك فإن التساهل الذي يبديه مجلس شورى الدولة في قبول مراجعات إبطال الأنظمة الإدارية غير المشروعة لعلة تجاوز حد السلطة، هو أمرٌ محمودٌ ولبنةٌ أساسيةٌ في بناء دولة القانون والمؤسسات.
مركز بيروت للدراسات والابحاث
اترك تعليقاً