مقال قانوني حول حسن النية في التشريع السوري

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

يعتبر حسن النية من المبادئ الجوهرية المسلم بها في النظام القانوني بشكل عام، وفي العلاقات التي تنشأ بين الأفراد بوجه خاص. وتم ذكر تعبير حسن النية في مواضع كثيرة من نصوص القوانين المدنية والتجارية والجزائية.

وهي حجة يُستند إليها في تسبيب الأحكام القضائية وتوجبها العدالة والمنطق واستقرار التعامل بين جموع المواطنين. ويتأدى حسن النية للوهلة الأولى في أنه التيقن القائم على الاعتقاد غير الصحيح في تصرف ما، يطابق ما يتطلبه القانون فيه، فتترتب على ذلك آثاراً قانونية من شأنها حماية ذي المصلحة من الأضرار التي يسببها التطبيق الجامد للقواعد القانونية.

فما هو المقصود بحسن النية وما معناه وما هي النتائج التي تترتب عليه وذلك في ضوء ندرة المراجع التي تناولته بشكل مستقل في الفقه السوري؟

تشير المادة 929 من القانون المدني إلى أنه: “يكسب الحائز ما يقبضه من ثمار ما دام حسن النية”؛ ومعنى هذا أنه إذا ألزم الحائز حسن النية برد الشيء إلى مالكه، فإن ما يلزم برده هو الشيء ذاته؛ أما الثمار فلا يلزم بردها ولا بالتعويض عن قيمتها وإن حكم القانون في هذه الحالة مبناه العدالة ورعاية مصلحة الحائز وترجيحها لحسن نيته على مصلحة المالك. وعلى هذا استقر الاجتهاد القضائي في سورية، أن:

“المشتري بعقد يعتبر حائزاً بنية حسنة وله تملك الثمار، ولو لم يحكم له فيما بعد بالملكية، وحسن النية ينظر إليه بتاريخ بدء وضع اليد، ثم أنه لا فرق في تملك الثمار بالحيازة بين العقار والمنقول”. (نقض مدني سوري 68 أساس 18 تاريخ 29 / 2 / 1968 ـ المحامون ـ ص 166 لعام 1968)

والأصل أن يلتزم من يستلم غير المستحق برد ما يؤدى إليه بدون وجه حق تطبيقاً للقواعد العامة في الإثراء بلا سبب. ولكن فيما يتعلق بثمرات الشيء الذي سُلم إليه، فإن المادة 186 من القانون المدني تفرق بين إذا كان من تسلم غير المستحق حسن النية، فلا يلتزم أن يرد إلا ما تسلم؛ أما إذا كان سيء النية فإنه يلتزم أن يرد أيضاً الفوائد والأرباح التي جناها أو التي قصّر في جنيها من الشيء الذي تسلمه بغير حق، وذلك من يوم الوفاء أو من اليوم الذي أصبح فيه سيء النية.

كذلك نشير إلى ما تقضي به المادة 889 فقرة 2 من القانون المدني بخصوص من يقيم منشآت في أرض مملوكة للغير وهو يعتقد بحسن نية أن له الحق في إقامتها، فلا يكون لصاحب الأرض أن يطلب الإزالة، وإنما يخيّر بين أن يدفع قيمة المواد وأجرة العمل، أو أن يدفع مبلغاً يساوي ما زاد في ثمن الأرض بسبب هذه المنشآت، هذا ما لم يطلب صاحب المنشآت نزعها، ما لم يترتب على ذلك ضرراً جسيماً؛ فلصاحب الأرض أن يطلب تملكها نظير تعويض عادل.

أيضاً، “وارث الوديع”، الذي لا يعلم أن الشيء وديعة ويعتقد أنه مملوك لوارثه فيتصرف فيه بحسن نية إلى الغير؛ فإن المادة 689 من القانون المدني تفرق بين ما إذا كان تصرف الوارث معاوضة فيلزم عندئذ بأن يؤدي إلى المودع ما قبضه ثمناً للشيء المودع أو التنازل له عن حقوقه على المشتري؛ أما إذا تصرف فيها تبرعاً فإنه يلتزم بقيمتها وقت التبرع.

في ضوء ذلك، يمكن القول أن حسن النية يعني الاستقامة والنزاهة وانتفاء الغش والإخلاص في تنفيذ ما التزم به المتعاقد على ما تقضي به الفقرة الأولى من المادة 149 من القانون المدني من أنه: “يجب تنفيذ العقد طبقاً لما اشتمل عليه وبطريقة تتفق مع ما يوجبه حسن النية”؛ بمعنى أن تعامل كل فرد إنما يقوم أصلاً على حسن نيته وإخلاصه إلى أن يثبت العكس؛ وهذه قرينة قانونية غير قاطعة يجوز إثبات عكسها بكافة الطرق. ولما كانت القرينة القانونية استثناء يرد للإعفاء من عبء الإثبات الذي توجبه القواعد العامة، فلابد من الإشارة إلى أنه لا يصح التوسع في افتراض القرائن أو القياس عليها. ويمكن استنتاج ذلك من الصيغة التي وضع بها المشرع نص المادة 927 الفقرة الثالثة من أنه: “والحيازة في ذاتها قرينة على وجود السبب الصحيح وحسن النية ما لم يقم الدليل على عكس ذلك”؛ فالمشرع فيما قرره عن حيازة الحق وافتراضه أن الحائز يفترض فيه حسن النية، إنما قرر قاعدة انتهز فرصة وضعها في باب الحيازة على هذا النحو من التعميم دون قصره على الموضوع بذاته، فشرّع مبدأ عاماً في القانون، وفي حق الملكية خاصة.

وبذلك يكون المشرع قد توخى تيسير عبء الإثبات الذي ألقاه على عاتق من يدعي خلاف الظاهر؛ فيُكتفى في حالة الحيازة بإثبات علم الحائز بأنه لا يملك الحق الذي يحوزه أو أنه أصبح عالماً بذلك بعد جهالته. كما أن الخطأ الجسيم يوازي سوء النية في النتائج المترتبة عليه وذلك تقريراً للمبدأ الروماني الذي يلحق الخطأ الجسيم بالغش؛ إذ أن الخطأ الجسيم يصعب تمييزه عن الخطأ العمد أو الخطأ الذي لا يغتفر؛ فقد يقع الخطأ الجسيم دون أن يتجه قصد الفاعل إلى إحداث الضرر.

وغني عن البيان أنه ليس من أثر لحسن النية في قيام المسؤولية أو تخلفها؛ أي أن المسؤولية تتوافر رغم حسن النية، وإنما قد يكون أثرها في تقدير التعويض.

وخير مثال على ذلك إنما هو تلك العقود التي يرجح فيها قوة أحد العاقدين على الآخر ولا يتعادل فيها التوازن الاقتصادي بين مركزي المتعاقدين، فيتمكن الطرف الأقوى من أن يفرض على المتعاقد معه شروطه ويُحكم حواليه حبائله بما يحاول أن يحشره في نصوص إضافية من عبارات غامضة أو تهدف إلى أغراض لا يريد أن يفصح عنها؛ وأغلب ما يكون ذلك في عقود الإذعان. فقضت التشريعات المختلفة على أن يتحمل الطرف الأقوى تبعة تقصيره أو خطئه فيما يمليه من شروط غير واضحة، فيفسر الشك فيها لمصلحة الطرف المذعن، وهو ما تنص عليه الفقرة الثانية من المادة 152 من القانون المدني، وما ورد في الفقرة الثانية من المادة 149: “لا يقتصر العقد على إلزام المتعاقد بما ورد فيه، ولكن يتناول أيضاً ما هو من مستلزماته وفقاً للقانون والعرف والعدالة بحسب طبيعة الالتزام”.

وفي بعض الحالات يعمد الشارع إلى حماية الغير ممن يكون حسن النية كما هو الشأن في الأثر الرجعي للفسخ الذي تقضي به المادة 161 من أنه: “إذا فسخ العقد أعيد المتعاقدان إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد”؛ ومقتضى هذا أن ينصرف ذلك الأثر الرجعي إلى الغير أيضاً؛ إذ أن القاعدة تقضي أنه إذا زال سند التصرف، فإن سند المتصرف إليه يزول. لكن المشرع السوري فيما توخاه من حماية حسني النية من الأغيار، وضع قيداً لتلك القاعدة السالفة في المادة 1034 بخصوص الرهن الرسمي الصادر من المالك الذي تقرر إبطال سند ملكيته أو فسخها أو إلغائها أو زوالها، بحيث يحق للدائن الذي نزعت يده عن المرهون أن يطالب به في الأحوال التي يحق فيها للمالك أن يقيم دعوى الاستحقاق.

ومما يفترضه حسن النية أن يكون ثمة نوع من التعاون بين طرفي العقد في تنفيذه؛ فلا يصح أن يرهق أحدهما الآخر بحرفية العقد، ولا أن يعتبر أحد المتعاقدين أن الالتزام حق له وحده وواجب بحت على الآخر؛ بل يجب أن يعتبره كلاهما أنه أساس لعلاقات متقابلة تستلزم أن يؤدي كل منهما ما عليه من التزام في حدود حقيقة ما هدف إليه في تعاقدهما؛ فلا يتحتم أن يلتزم المدين بالقيام بما تعهده حرفياً بل يكفي إلزامه بالقيام بما يحقق الغرض المقصود منه.

ولما كان الاخلال بالالتزام ـ أياً كان نوع الخطأ ـ موجباً للمساءلة، فإن هذه المساءلة يختلف قدرها حسبما يكون من حسن نية الفاعل أو سوئها، فتكون مسؤوليته كاملة عندما يتعمد الخطأ أو يقصد الإخلال بالتزامه. وقد تخفف مسؤوليته إذا كان ما صدر عنه ترتب على عمل من جانبه غير عمدي، أو كان الخطأ فيه يسيراً أو تافهاً. وهو ما أشارت إليه المادة 222 فقرة الثانية: “ومع ذلك إذا كان الالتزام مصدره العقد فلا يلتزم المدين الذي لم يرتكب غشاً أو خطأ جسيماً إلا بتعويض الضرر الذي كان يمكن توقعه عادة وقت التعاقد”، مما يعني أن يكون للمسؤولية التعاقدية في حالتي الغش والخطأ الجسيم حكم المسؤولية التقصيرية، ولا دخل لحسن النية في مسألة توافر أركان المسؤولية المدنية من خطأ وضرر ورابطة؛ إذ يُلزم المسؤول تعويض الضرر عما صدر عنه من فعل ضار بخطئه؛ أي تقوم المسؤولية التقصيرية ولو حسُنت نية المسؤول عنها مادام أن ثمة خطأ قد وقع منه وسبب ضرراً للغير؛ إلا أنه يمكن التذرع في حالة استعمال المرء لحق له، فلا يسأل عما يترتب من ضرر وإن كانت نية الإضرار وحدها قد تكفي في صدد استعمال الحقوق لوجوب التعويض، كما جاء في المادة السادسة من القانون المدني في الفقرة الأولى من أنه يكون استعمال الحق غير مشروع إذا لم يكن يقصد به سوى الإضرار بالغير.

والواقع أن حسن النية تختلف وجهة النظر فيه وفي حدوده حسبما تكون العلاقات وكيفية استعمال الحق الذي يراد استغلاله، وهو ما يعرف بمعيار التبصر والحزم أو معيار الرجل المعتاد.

وأخيراً نشير إلى أنه يجب عند تقدير حسن النية مراعاة الخصائص الشخصية للمرء الصادر عنه الفعل، إذ أنها تعتبر من الظروف الخارجية التي يجري القياس عليها في مسلك الرجل العادي في يقظته وذكائه، وذلك أن حسن النية يتصل مباشرة بنفسية المرء، والقاضي في هذه الحالة يتعين عليه أن يأخذ في الاعتبار إدراك المرء وخبرته عند تقدير الأمور، وسهولة تصديقه إياها أو قلة تجربته أو انعدامها، وتقدير مسلكه فيما يجري على يديه من شهوة الانتقام أو الغضب أو جموح رغبته فيما يدعيه من حق.

القانونية: أمل عبد الهادي مسـعود

Share

اترك تعليقاً

Your email address will not be published.