خصوم السبب وأنصاره -نظرية السبب
ا – خصوم السبب
271 – الهجوم على النظرية التقليدية:
صورة توضيحية منذ أن استقرت النظرية التقليدية ، منقولة عن دوما وبوتييه على النحو الذي بسطناه ، بقيت مبعثاً لقلق الفقهاء ، يرون فيها ضيق
الأفق وقصور المدى وعقم الإنتاج . وأول من جاهر من الفقهاء بذلك كان الفقيه البلجيكي إرنست ( Ernst ) وكان أستاذاً في جامعة ليبج ، كتب مقالا في سنة 1826 في مجلة ( Bibliotheque du jurisconsulte et do publiciste ) ( [1] ) يبين فيه أن السبب في النظرية التقليدية ليس ركنا متميزاً ، فهو يختلط إما بالمحل في العقود الملزمة للجانبين ، وإما بالرضاء في عقود التبرع ، ويستخلص من ذلك أن السبب لا ضرورة له ، وتغني عنه أركان الالتزام الأخرى . ثم هاجم النظرية بعد ذلك لوران ( Laurent ) ( [2] ) وكورنيل ( cornil ) ( [3] ) ، وهما أيضاً فقيهان بلجيكيان . وتابعهما عدد من الفقهاء الفرنسيين ، هاجموا النظرية مهاجمة عنيفة في رسائلهم ( [4] ) .
ولكن الحملة على نظرية السبب لفتت النظر بنوع خاص عندما انحاز بلانيول إلى خصوم السب ( [5] ) ، ورد الأستاذان بودري وبارد صدرى هذه الحملة ( [6] ) . وكذلك فعل دابان ( Babin ) ( [7] ) ووالتون ( [8] ) .
ونقف عند نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية ، ففيه خلاصة واضحة للحملات التي قام بها خصوم السبب ، وكان هو المعول الفعال في هدمها .
272 – نقد بلانيول لنظرية السبب التقليدية:
يقول بلانيول إن نظرية السبب التقليدية نظرية غير صحيحة ، ثم هي غير ذات فائدة .
أما أنها غير صحيحة ، فذلك يظهر إذا استعرضنا السبب في فروضه الثلاثة : العقد الملزم للجانبين والعقد العيني وعقد التبرع . ففي العقد الملزم للجانبين لا يجوز القول ، كما تزعم النظرية التقليدية ، إن سبب أحد الالتزامين المتقابلين هو الالتزام الآخر ، فإن هذا استحالة منطقية ، ذلك أن الالتزامين يولدان في وقت واحد من مصدر واحد هو العقد ، فلا يمكن أن يكون أحدهما سبباً للآخر . لأن السبب يتقدم المسبب ، وهما قد نشأ معاً كما رأينا . وفي العقد العيني يقولون إن سبب الالتزام هو تسليم العين ، ولكن التسليم ليس إلا المصدر الذي كون العقد فأنشأ الالتزام ، فيختلط هنا السبب بالمصدر ويصبحان شيئاً واحداً . وفي عقد التبرع يقولون إن سبب الالتزام هو نية التبرع ، وهذا قول خال من المعنى ، وإلا فأية قيمة لنية التبرع في ذاتها إذا لم تقرن بالعوامل التي دفعت إليها !
وأما أن النظرية غير ذات فائدة ، فلأننا نستطيع الاستغناء عنها بشيء آخر . ففي العقود الملزمة للجانبين يكفي أن نقول إن الالتزامين المتقابلين مرتبطان أحدهما بالاخر بحيث يتوقف مصير كل منهما على مصير الثاني ، وتغني فكرة الارتباط في هذه العقود عن فكرة السبب . وفي العقود العينية وعقود التبرع انعدام السبب بالمعنى المفهوم من النظرية التقليدية هو انعدام التسليم في العقد العيني وانعدام نية التبرع في الهبة ، وهذا معناه انعدام العقد ذاته ، فلسنا إذن في حاجة إلى تعليل عدم قيام الالتزام بانعدام السبب مادام العقد ذاته غير موجود .
ب – أنصار السبب
273 – الدفاع عن فكرة السبب:
أما أنصار السبب فكثيرون . منهم من يدافع عن النظرية التقليدية بعد تحويرها ، وعلى رأس هؤلاء كابيتان في كتابه المعروف ” السبب في الالتزامات ” ( [9] ) . ومنهم من يدافع عن فكرة السبب في ذاتها ، ولكنه يهجر في الدفاع عنها النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع القضاء أسسها على ما سنرى .
ونبسط هنا دفاع كابيتان عن النظرية التقليدية، ثم نشير في ايجاز إلى بعض الفقهاء الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة .
274 – دفاع كابيتان عن نظرية السبب التقليدية:
يمكن القول إن كابيتان هو عميد أنصار النظرية التقليدية للسبب . ولكنه هو في صدد الدفاع عنها قد حورها تحويراً جوهرياً في بعض نواحيها .
فعند كابيتان أن السبب في العقد الملزم للجانبين ليس هو الالتزام المقابل ذاته ، بل هو تنفيذ هذا الالتزام ( [10] ) .
ويقول ، رداً على ما أخذه بلانيول على النظرية التقليدية من أن الالتزام الواحد لا يمكن أن يكون سبباً ومسبباً ، إن تنفيذ الالتزام هو السبب فلا يجوز الاعتراض بعد ذلك بأن الالتزام هو السبب والمسبب . ثم يضيف إلى ذلك أنه حتى لو فرض طبقاً للنظرية التقليدية أن سبب الالتزام هو الالتزام المقابل ذاته ، فلا يصح أن يقال مع ذلك إن الشيء الواحد يعتبر سبباً ومسبباً ، إلا إذا فهم السبب بمعنى ” السبب الإنشائي ” ، فعند ذلك يستحيل منطقياً أن يكون الشيء منشئاً لشيء آخر وناشئاً عنه في أن واحد . ولكن السبب هنا معناه ” السبب القصدي ” أي الغرض المباشر الذي قصد إليه الملتزم من وراء التزامه ، ويسهل مع هذا المعنى أن نفهم أن الغرض الذي قصد إليه أحد المتعاقدين من وراء التزامه هو التزام المتعاقد الآخر بالذات ، فكل من المتعاقدين قد التزم حتى يلتزم الآخر ، ولا يكون في هذا خروج على المنطق .
أما الالتزام الذي ينشأ من عقد عيني فسببه هو تسليم الشيء كما تقرر النظرية التقليدية . وهذا صحيح في نظر كابيتان في عقود عينية ثلاثة هي القرض والعارية ورهن الحيازة . فإن هذه العقود إذا كانت عينية من حيث الصياغة ، فهي من حيث طبيعتها عقود رضائية ملزمة للجانبين . فالمقرض والمقترض مثلا يتفقان على القرض ، ويتم العقد بالاتفاق ، فيلتزم المقرض بتسليم القرض كما يلتزم المقترض برد مثله .
ومن هنا نرى أن التسليم ، إذا رجعنا إلى طبيعة العقد ، ليس هو حتما السبب المنشيء للالتزام ، بل هو الغرض الذي يسعى إليه المقترض من وراء التزامه برد الشيء . فلا يختلط في هذه العقود الثلاثة ” السبب الإنشائي ” و ” السبب القصدي ” كما يزعم خصوم نظرية السبب زولا يبقى من العقود العينية إلا الوديعة . وهنا يسلم كابيتان أن الوديعة بطبيعتها عقد عيني ملزم لجانب واحد إذا كانت بغير اجر ، ويرى أن سبب التزام المودع عنده ليس هو تسليم الشيء ، إذ يختلط بذلك السبب الإنشائي بالسبب القصدي ، بل هو رغبة المودع عنده ، وقد قبل أن يحفظ الشيء دون مقابل ، في أن يسدي جميلا للمودع . أما إذا كانت الوديعة باجر فقد أصبحت عقداً ملزماً للجانبين ، وصار سبب كل التزام هو تنفيذ الالتزام الآخر ( [11] ) .
أما في عقود التبرع ، فسبب الالتزام هو نية التبرع ذاتها ( animus donandi ) كما تقرر النظرية التقليدية . ولا تختلط هذه النية بالرضاء كما يقول خصوم السبب . فإن إرادة الواهب يمكن تحليلها على عنصرين : العنصر الأول هو إرادته أن يلتزم ، وهذا هو الرضاء . والعنصر الثاني هو إرادته أن يكون هذا الالتزام دون مقابل على سبيل التبرع ، وهذا هو السبب يتميز عن الرضاء كما نرى . والدليل على ذلك أن العنصر الأول ، وهو الرضاء بالالتزام ، قد يثبت وجوده دون أن يثبت وجود السبب وهو نية التبرع ، كما إذا كتب شخص سنداً بدين في ذمته لآخر ، ثم استطاع أن يثبت أن هذا الدين لا وجود له ، فإنه يبقى بعد ذلك أن يثبت الدائن نية التبرع في جانب المدين حتى يستوفى منه قيمة السند .
فهذا مثل نرى فيه رضاء المدين بالالتزام ثابتاً دون أن تكون نية التبرع عنده ثابتة . وعلى أن كابيتان لا يقف عند نية التبرع بل يجاوزها إلى الباعث الدافع فيجعله هو السبب في حالتين : ( 1 ) التبرع إذا اقترن بشرط يتبين أنه هو الذي دفع المتبرع إلى تبرعه ، كما إذا وهب شخص مالا لجمعية خيرية واشترط على الجمعية أن تنشيء بهذا المال مستشفى أو ملجأ ، فإن سبب الهبة في هذه الحالة لا يكون نية التبرع بل هو القيام بالشرط الذي اقترن به التبرع . ( 2 ) الوصية حيث لا توجد إلا إرادة واحدة هي إرادة الموصى ، فلا يجوز الوقوف فيها عند نية التبرع ، بل إن الباعث الذي دفع الموصى إلى تبرعه هو الذي يجب اعتباره سبباً للوصية ، وفي هاتين الحالتين يسلم كابيتان باختلاط الباعث بالسبب .
ومن ذلك نرى أن كابيتان أدخل تحويراً في النظرية التقليدية ، حيث يجعل الباعث يختلط بالسبب في الحالتين المتقدمتين ، وحيث يحدد السبب في العقد الملزم للجانبين بأنه هو تنفيذ الالتزام لا وجوده ، وحيث يحدد السبب في عقد الوديعة غير المأجورة بأنه نية التبرع عند حافظ الوديعة . ولكنه مع ذلك يحتفظ بجوهر النظرية التقليدية ، فيستبقى التمييز بين السبب والباعث ولا يخلط بينهما إلا في فروض نادرة ( [12] ) ، ويجعل المعيار في تحديد السبب موضوعياً لا ذاتياً ، فيكون السبب عنده شيئاً داخلا في العقد لا منفصلا عنه ، وهو واحد لا يتغير في أي نوع من العقود .
275 – أنصار السبب الذين هجروا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة:
وإلى جانب كابيتان قام فقهاء يدافعون عن فكرة السبب ، وينادون بوجوب الاحتفاظ بها ، ويخالفون بذلك بلانيول وغيره من خصوم السبب الذين يقولون بوجوب حذف هذه الفكرة من القانون .
ولكن هؤلاء الفقهاء الذين ينتصرون للسبب ، ومن أبرزهم جوسران وريبير وديموج وبنكاز ، لا يدافعون عن السبب كما هو مبسوط في النظرية التقليدية ، بل يتوسعون فيه ويخلطونه بالباعث ، ويهجرون النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة التي وضع أساسها القضاء الفرنسي ، والتي نتولى الآن بسطها .
اترك تعليقاً