سياسة الحكومات وأثرها على القيم الأخلاقية والاجتماعية
القاضي / سالم روضان الموسوي
لفت انتباهي مقطع فيديو في احد مواقع التواصل الاجتماعي لرجل يكاد يكون في الستين من عمره أو أكثر بقليل، أجرت معه قناة آسيا الفضائية
عبر برنامج “بدون حذف” لقاء من داخل محل إقامته في مستشفى الأمراض العقلية في بغداد، وكان هذا الرجل ، الذي يزعمون بأنه مريض، قد نطق بكلام لربما كان غائب عن ذهن الغالبية وأنا منهم، عندما سأله مقدم البرنامج عن طول إقامته في المستشفى التي قاربت على سبع وثلاثين سنة، فانه أجاب بان واقع الإقامة في المستشفى طول فترة إقامته يختلف عن واقع المجتمع خارج أسوار المستشفى وأردف بان هذا العزل الذي هو فيه، له فوائد منها إنه لم يتأثر بما عليه المجتمع من تردي في قيمه الأخلاقية والاجتماعية، وبين بان سبب هذا التردي هو تأثير سياسة الحكومات التي تعاقبت على حكم البلد وتأثيرها على القيم الاجتماعية والأخلاقية كما أوضح (بان تلك الحكومات كانت تطبيق تلك السياسات)
وهذه العبارة دقيقة جداً لأنها تدل على إن الأمر ممنهج ومخطط له وليس اعتباطاً وأعطى صور كثيرة لتلك السياسات ومنها السياسة الاقتصادية والثقافية والنفسية وغيرها، هذا الكلام استفز خاطري كثيراً لان مشاغل الحياة وضجيجها قد غيبته عنا، ولربما تعمد الحكومات إلى إشغال أذهاننا بأمور جانبية حتى لا نلتفت إلى تلك السياسات قد غيبنا عنها، أو لأنها استعملت معنا الأفيون الذي يسمى (أفيون الشعوب) لحصر تفكيرنا في نطاق ضيق ومحدود حتى لا ندرك تلك الحقيقة، فنبقى وعاء تفرغ فيه مآربهم ومطامعهم ويملؤنه من القيء الذي تمتلئ به بطونهم ، وما يعزز ما أشار إليه ذلك الرجل العاقل والجليل المبجل إن الخط البياني للقيم الأخلاقية كان وما زال في نزول عما كان عليه المجتمع، ولربما يمتد ذلك عبر العصور او منذ ان انتهى عصر الرسالة المحمدية في صدرها الأول، وحتى الأمثلة العاشورائية واستشهاد الإمام الحسين في واقعة الطف الخالدة التي نعيش أيامها وفي كنف طقوسها، فانها خطوة سعى إليها الثائر الحسين لإعادة نهج الإسلام المحمدي إلى حقيقته بوجه الطاغوت والفساد، لكن سياسة الحكومة القائمة آنذاك كان لها نهجها في تدمير تلك القيم الأخلاقية السليمة وامتد إثرها حتى يومنا هذا، فإنها تطبق ذات السياسة في معناها ومضمونها وان اختلفت في جوهرها سواء باستغلال تلك المناسبة لصالحها كما فعل بنو العباس ومن ثم انقلبوا عليها بعد السيطرة على زمام الحكم، أو الآن عندما نوظف تلك الشعائر والطقوس للتغطية على نهج الفساد الأخلاقي وعبر شراء الذمم تحت عباءة الثورة الحسينية الخالدة، لذلك فإن من الواجب أن نلتفت إلى ما ذكره هذا الرجل العاقل وإن نحاول إلى التصدي لتلك السياسات الحكومية التي تنهج نهجاً واحداً منذ أن تولت الاحزاب السلطة في العراق و منذ أول حكومة شكلها الانكليز وحتى يومنا هذا، وفي الوقت الحاضر نجد إن سياسة الحكومات، وهو تعبير مجازي عن “السلطة القابضة”، فإنها تسعى إلى تغيير قيم المجتمع عبر التشريعات التي تعزز النفعية الشخصية والانتهازية في الحصول على أكبر قدر ممكن من المغانم أو عبر اقتراح تشريعات تكرس الهيمنة على مركز القرار وحصره بيد مجموعة أو فرد واحد مثلما يفعل أي ديكتاتور متسلط عبر اقتراح تشريعات تقصي الأخر المخالف له وتمنحه السلطة المطلقة، معنه سينتهي آجلاً أم عاجلاً لأنه محدود العمر الزمني، مثلما محدود القوة التي يتمتع بها بسبب طبيعة خلقه او بسبب لعبة التوازن السياسي ، وفي الختام أرى إن هذا الرجل العاقل الجليل أشار الى الأسباب بوجهتها الصحية في معرفة ومن ثم علينا طرح المعالجة الحقيقية بالتصدي للسياسات الحكومية ومحاولة تغيير مسارها نحو الارتقاء بالقيم الأخلاقية والاجتماعية بدلاً من الانحدار بها نحو الهاوية وأرى أن نقطة البداية تكمن في آليات التشريع وسن القوانين لأن هالة الشرعية التي تحيط بسلطة القانون مرتبطة بالاعتقاد بالتزام أخلاقي لطاعة القانون وعلى وفق ما ذكره الكاتب الانكليزي اللورد دينيس لويد بكتابه الموسوم “فكرة القانون”
كما يرى بعض الكتاب بان هذه الهالة الشرعية لسلطة القانون هي المعضلة الأليمة وسبق وأن طرحت أمام مواطني أثينا في القرن الرابع الميلادي حيث كانت الفكرة السائدة “بان العيش وفق القانون هو القانون الأسمى غير المدون، حتى لو نتج عن ذلك إصدار الحكم على أكثر الرجال حكمة في ذاك الزمان وهو سقراط بان يموت، وقدم أفلاطون بعد ذلك رؤيته بان يكون هناك تماثل بين القانون والأخلاق يستند إلى الحكمة والعقل وليس الإيمان الأعمى” نقلا عن اللورد لويد دينس في كتابه المشار إليه، وارى أول خطوات المعالجة بتغيير آليات الانتخابات التشريعية لمجلس النواب وفتحها لاختيار صاحب أعلى الأصوات وليس عبر القوائم المغلقة التي يتحكم بها بعض الأفراد، أما عن ذلك الرجل العاقل الذي لفت انتباهي المقيم في مستشفى الأمراض العقلية في بغداد، لربما يكون مثال لبقية نقية صافية من العقول الإنسانية ، إلا أن المجتمع لم يرحمه عندما أضفى عليه صفة المريض عقلياً، ويبدو أن ذلك الرجل مثله مثل الكثير من العقلاء والحكماء لم يأخذ بنصيحة موليير في مسرحيته “مدرسة الأزواج” التي يقول فيها على لسان أحد شخوصها ( كن مجنوناً بين المجانين ولا تكن العاقل الوحيد)
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً