شهادة المرأة والنصاب الكمي للشهادة في القانون السوري
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
قواعد الاثبات مرآة الثقافة والأخلاق في المجتمع تتسم بسمتها وتقاس بمعيارها وتختلف باختلاف أحوالها. وأول ما عرف من هذه القواعد الشهادة والكتابة, وهي التي تعرف بالبينات. والبينات بهذا المعنى الضيق مرت عبر العصور بمراحل عدة قبل أن تستكمل صورتها النهائية التي هي عليها الآن. وأضحى الإثبات في عالم القانون يشكّل نظرية قائمة بذاتها لها قواعدها وأركانها ومقوماتها وأحكامها بشكل مستقل عن القواعد الموضوعية الأخرى، ولها فلسفتها الخاصة، وهي تتفاعل مع المجتمع والبيئة التي تعيش فيها وترتقي بارتقاء المجتمع وتسمو بسمة مفاهيمه وقيمه الاجتماعية والأخلاقية.
وطرق الاثبات التي عددها قانون البينات السوري على سبيل الحصر هي: الكتابة والشهادة والقرائن والإقرار واليمين والمعاينة والخبرة. كما عيّن شروط قبولها وقيمة كل منها في الاثبات، ورتّب على الحكم الصادر بالاستناد إليها قرينة قانونية على صحة الشيء المقضي به، دُعيت بقوة القضية المحكوم بها. والشهادة أو البينة الشخصية كما كانت تسمى في الماضي أو في ظل مجلة الأحكام العدلية، كانت من أقوى الأدلة ثم نزلت عن مكانتها الأولى في الاثبات بعد اعتماد الكتابة فغدت طريقة للإثبات ذو قوة محدودة؛ إذ لا يجوز إثبات التصرفات القانونية بها إلا في حالات استثنائية ولا تثبت بها إلا الوقائع المادية. وأحاطها المشرّع بضمانات عدة فرسم إجراءات معينة لسماع الشهود واشترط النصاب الشرعي لها في القضايا الشرعية وفرضَ عقوبة على شهادة الزور، وترك للقاضي سلطة تقديرية بالأخذ بها أو طرحها إذا لم يقتنع بها. وبذلك يكون قد ضمن الاقلال من مساؤى الاعتماد على الشهادة في الاثبات. وعلى ضوء هذه الأحكام التي وضعها المشرع للشهادة أصبحت تتمتع بخصائص أربعة هي:
آ ـ الشهادة حجة تقديرية: أي يعود تقديرها للقاضي وله كامل السلطة في تقدير قيمتها أياً كان عدد الشهود وأياً كانت صفاتهم دون أن يخضع في تقديره هذا لرقابة محكمة النقض.
ب ـ الشهادة حجة غير قاطعة: أي تقبل اثبات العكس بخلاف اليمين والقرائن القانونية.
ج ـ الشهادة حجة متعدية: أي أن ما يثبت بالشهادة يعتبراً ثابتاً للجميع بخلاف الاقرار الذي يعتبر حجة قاصرة على من صدر عنه.
د – الشهادة حجة مقيدة: أي أنها مقيدة بحدود وشروط وضعها المشرّع، الغرض منها الحد من الضرر الذي قد ينجم عن نسيان الشاهد أو فقدانه. ومن هذه الشروط النصاب الكمي أو العددي للشهادة، حيث لا يجوز اثبات واقعة ما بشهادة الفرد الواحد؛ فقد جاء في مدونة جوستنيان: “شهادة الفرد الواحد باطلة”. وكذلك الأمر في الشريعة الإسلامية؛ فلم تقبل بشهادة الفرد الواحد لقوله تعالى: “واشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، أن تَضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى”.
وعند وضع مجلة الأحكام العدلية المستمدة من الشريعة الإسلامية أخذ واضعوها بالنصاب العددي للشهادة المقرر في الشريعة ونصوا عليه في المادة 1685 التي جاء فيها: “نصاب الشهادة في حقوق العباد رجلان أو رجل وامرأتان، لكن تقبل شهادة النساء وحدهن في حق المال فقط في المحال التي لا يمكن اطلاع الرجال عليها”.
وعند وضع قانون البينات أهمل المشرّع حكم الحد العددي للشهادة الوارد في مجلة الأحكام العدلية كما سبق أن أهمله عند وضع القوانين الجزائية، متأثراً بالنظريات الغربية لاعتقاده أن الضمانة التي وضعها في القانون ـ وهي إعطاء القاضي السلطة الواسعة في تقدير قيمة الشهادة ـ تغني عن الحد العددي؛ فقد نصت الفقرة الأولى من المادة 62 من قانون البينات: “تقدر المحكمة قيمة شهادة الشهود من حيث الموضوع، ولها أن تأخذ بشهادة الشخص الواحد إذا اقتنعت بصحتها. كما أن لها أن تسقط شهادة أو أكثر إذا لم تقتنع بصحتها”.
لكن المشرّع ما لبث تحت تأثير الانتقادات التي وجهت إليه أن عاد إلى نصاب الشهادة العددي المقرر في الشريعة الإسلامية، ولكنه قصره على القضايا الشرعية بموجب المرسوم التشريعي رقم 88 الصادر في 21/11/ 1949 الذي جاء فيه: “يعتبر قانون البينات ذو الرقم 359 المؤرخ في 10 حزيران 1947 نافذاً في المحاكم الشرعية من تاريخ صدوره باستثناء الأحكام الآتية:
أ ـ يجوز الاثبات بالشهادة في جميع القضايا الشرعية، إلا في الدعاوى المالية التي تخالف أو تجاوز ما اشتمل عليه دليل كتابي.
ب ـ يشترط النصاب الشرعي للحكم بالشهادة؛ فليس للقاضي الشرعي أن يحكم بشهادة الفرد إلا في الأحوال المقررة شرعاً”.
وبذلك أصبح النصاب العددي مقرراً بنص صريح في القضايا الشرعية. وبمقتضى هذا النصاب لا يجوز التفريق بين المرأتين في حال استشهادهما بدلالة قوله تعالى: “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى”. وأما في غير هذا الموضع من أبواب القانون، فتعتبر شهادة المرأة كشهادة الرجل؛ فالمشرّع لم يفرق بين ذكر أو أنثى. وهو في المادة 33 من الدستور في الفقرة الثالثة، نصّ على أنه: “المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”. وفي المادة 19 من الدستور: “يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد”.
وتنص المادة 59 من قانون البينات على أنه: “لا يكون أهلاً للشهادة من لم يبلغ سنه خمسة عشر سنة، أو من لم يكن سليم الإدراك أو من كان محكوماً بأحكام جزائية تسقط عنه أهلية الشهادة”.
مما تقدم يتبيّن أن شهادة المرأة في القانون السوري مساوية لشهادة الرجل فيما خلا القضايا الشرعية، واتهام القانون الحالي بالتمييز بين المرأة والرجل في المساواة عند الاستماع لشهادة المرأة لا أساس له، وهو من قبيل الفهم الخاطئ أو التعلق برواسب وأفكار قانون سابق كان مطبقاً في عهد الاحتلال العثماني ليس إلا.
اترك تعليقاً