الإثبات في القضايا الجزائية إلى إظهار الحقيقة ، إذ لا يعقل إنزال عقوبة بمتهم دون ثبوت:
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
أولا- وجود جريمة،
وثانيا- إسناد تلك الجريمة ماديا ومعنويا إليه.
فموضوع الإثبات في المادة الجزائية يطال وجود الجريمة في حد ذاتها وتوفر أركانها في حق المظنون فيه. وتوجد بالنسبة للإثبات الجزائي نظريتان وهما نظرية “حرية الإثبات” ونظرية “الإثبات المقيد”، وتعتبر مجلة الإجراءات الجزائية التونسية الصادرة بموجب القانون عدد 23 لسنة 1968 المؤرخ في 24/7/1968 من بين القوانين المكرسة مبدئيا لنظرية الإثبات الحر.
إذ نص المشرع بالفقرة الأولى من الفصل 150 م ا ج على أنه “يمكن إثبات الجرائم بأية وسيلة من وسائل الإثبات ما لم ينص القانون على خلاف ذلك، ويقضي الحاكم حسب وجدانه الخالص…” . ويلاحظ من خلال أحكام الفصل المذكور أن المشرع ربط مبدأ حرية الإثبات بمبدأ ثان لا يقل عنه أهمية في المادة الجزائية وهو مبدأ وجدان القاضي الذي أقر كضمانة لعدم التعسف وكقيد على الإفراط في حرية الإثبات فالقاضي الجزائي هو الضامن للمحافظة على التوازن بين مصلحة المجتمع وحقوق المظنون فيه . و يقتضي مبدأ وجدان القاضي أو ما يسمى كذلك “القناعة الشخصية” أن يكون للقاضي سلطة تقديرية كاملة في وزن قيمة كل دليل على حدا فيأخذ من الأدلة ما تتحقق به قناعته ويطرح جانبا ما لا تركن إليه قناعته الشخصية. وقد عبرت محكمة النقض المصرية منذ زمن بعيد عن ذلك بالقول:”إن القانون أمد القاضي في المسائل الجنائية بسلطة واسعة وحرية كاملة في سبيل تقصي ثبوت الجرائم أو عدم ثبوتها والوقوف على حقيقة علاقة المتهمين ومقدار اتصالهم بها ففتح له باب الإثبات على مصراعيه يختار من كل طرقه ما يراه موصلا إلى الكشف عن الحقيقة ويزن قوة الإثبات المستمدة من كل عنصر بمحض وجدانه فيأخذ بما تطمئن إليه عقيدته ويطرح ما لا ترتاح إليه غير ملزم بان يسترشد في قضائه بقرائن معينة بل له مطلق الحرية في تقدير ما يعرض عليه منها ووزن قوته التدليلية في كل حالة حسبما يستفاد من وقائع كل دعوى وظروفها وهو يبغي الحقيقة وينشدها أنى وجدها ومن أي سبيل يجده مؤديا إليها و لا رقيب عليه في ذلك غير ضميره وحده” .
ومن الملاحظ أن مبدأ “القناعة الشخصية” يجعل من القاضي “سيدا مطلقا ” في مجال تقييم الأدلة. وتعد الشهادة من أهم أدلة الإثبات التي يعتمد عليها القضاء في المادة الجزائية باعتبار أن الجرائم ما هي إلا وقائع مادية لا يتصور فيها تحضير وسائل الإثبات بصفة مسبقة كما هو الحال بالنسبة للتصرفات القانونية. ولئن كانت الشهادة هي الوسيلة الأكثر اعتمادا في القضاء الجزائي فإنه تبقى دليلا مشكوكا فيه دائما لما يشوبه من ملابسات ولما يعتريه من أبعاد ذاتية، إذ من الصعب تصور أن يكون الشاهد قادرا على تخليص تصريحاته من بعدها الذاتي المرتبط ضرورة بمدى دقة وسلامة حواسه ومتأثرا لا محالة بالعوامل النفسية المحيطة بشخصيته وهي أمور تحول دون إمكانية القبول بأن تكون شهادة الشاهد الواحد دليل إدانة مقبولا قانونا خاصة إذ كان هذا الشخص بدوره موضع اتهام في القضية المشهود فيها من طرفه وهو ما بات يعرف “بشهادة متهم” على متهم أي نسبة أمر من متهم إلى متهم آخر. وهي مسألة غير مقننة إذ لا يوجد فيها نص خاص في مجلة الإجراءات الجزائية لكن فقه القضاء يميل إلى قبولها واعتمادها ولو كانت مجردة عن أي دليل آخر.
ورغم اتفاق الفقه وفقه القضاء على تسمية ما يصدر عن متهم من تصريحات “شهادة” إلا أن هذه التسمية تفتقر إلى الدقة لأن من شروط الشهادة الجوهرية أن تصدر عن شخص ليس طرفا في القضية وبعد أداء اليمين وهو ما يعد أمرا مفقودا في تصريحات متهم ضد متهم. فهل من الممكن اعتبار “شهادة متهم” على متهم دليل إدانة مقبولا قانونا؟ إن الإجابة المنطقية عن مثل هذا التساؤل ستكون حتما بالنفي اعتمادا على جملة من المبررات(1) التي تسمح بالقول ان تلك “الشهادة”لا تصلح كدليل من أدلة الإدانة ما لم تتوفر فيه جملة من الشروط (2).
الجزء الأول- مبررات عدم جواز الاكتفاء بـ”شهادة متهم” لتأسيس الإدانة.
وهذه المبررات متعددة ومتنوعة يمكن تقسيمها إلى مبررات مستمدة من حقوق المتهم(1-1) وأخرى ترجع إلى القواعد العامة للإثبات(1-2).
الفقرة الأولى- المبررات المستمدة من الحقوق الممنوحة للمتهم.
إن الشهادة هي من اخطر وسائل الإثبات وأكثرها إثارة للريبة خاصة عندما تكون صادرة عن متهم أدلى بها دون أداء اليمين ومن الممكن أن يكون قد ضمنها معلومات غير صحيحة وكاذبة نظرا وانه يتمتع بحق الكذب لذلك فلا بد من إحاطة تصريحات المتهم بجملة من الضمانات الكفيلة بأن تجعل منها دليل إثبات مقبولا قانونا. فالاتهام وان كان وسيلة إدانة أساسا إلا انه وفي نفس الوقت يمثل وسيلة دفاع بما يمنحه للمتهم من ضمانات لعل أهمها عدم أداء اليمين وعدم الإجابة إلا بحضور محام وحقه في الصمت وعدم الإجابة أصلا وإتاحة الفرصة له في إبعاد التهمة عنه وإذا أبدى أدلة تنفي عنه التهمة فإنه يقع البحث عن صحتها في اقرب وقت(الفصول 69 و72 و74 م اج). ومن المفروض أن جملة هذه الحقوق التي يتمتع المتهم بها تضعف الثقة فيما يصدر عنه من تصريحات وخاصة:
– عدم حلف اليمين قبل الإدلاء بتصريحاته.
إن كل شخص يمثل أمام القضاء ويقف في ساحة العدالة للإدلاء بشهادة ينبغي أن يحلف اليمين قبل تأديتها وكل شهادة لا تكون مسبوقة بيمين لا تعد دليلا قانونيا والعلة من فرض وجوبية أداء اليمين قبل الإدلاء بالشهادة تكمن في حمل الشاهد على الإدلاء بشهادته بصدق وأن يقول حقيقة ما يعرف دون تحريف أو زيادة أو نقصان فإرادة المشرع واضحة في إحاطة الشهادة وما يترتب عليها من آثار بحد أدنى من الضمانات كي تكون صحيحة ومنتجة لآثارها.
– الحق في الكذب
و استخدام جميع الوسائل لدفع التهمة عن نفسه حتى وان كان ذلك عن طريق توريط الغير.فالمتهم هو شخص محل تتبع من قبل القضاء وهو ما قد يدفعه إلى إنكار الحقيقة و تقرير ما يخالفها أي الكذب خاصة وانه لا يمكن أن يكون محل تتبع من أجل الشهادة الزور وذلك لأنه لا يحلف اليمين من جهة ومن جهة أخرى لأن وصفه بالشاهد هو وصف مجازي وغير صحيح باعتبار أنه طرف في القضية. إن الأخطاء القضائية الناتجة عن الأخذ بشهادة خاطئة أو كاذبة تقتضي وجوبا من القاضي أن يفحص ويحلل الشهادة قبل اعتمادها في إصدار الأحكام التي من المفترض أنها عنوان الحقيقة وتتمتع بحجية ما اتصل به القضاء وهذه الصفات لا يمكن أن يتمتع بها حكم قائم على دليل وحيد هو تصريحات متهم وصفت خطأ بكونها شهادة.
الفقرة الثانية- مبررات مستمدة من القواعد العامة للإثبات.
يخضع الإثبات في المادة الجزائية لجملة من المبادئ التي يحول تطبيقها دون إمكانية القبول بـ”شهادة متهم” على متهم كدليل وحيد للإدانة.
v- مبدأ تضافر الأدلة:
من يقرأ بإمعان أحكام فصول مجلة الإجراءات الجزائية تتبدى له العناصر الواجبة الوجود للحكم بالإدانة وهي ضرورة توفر الأدلة والقرائن والحجج. فالفصل 85 م اج ينص صراحة على أن الإيقاف التحفظي يستوجب وجود قرائن قوية. كما أن الفصل 104 من نفس المجلة ينص على أن قرار ختم البحث يجب أن يتضمن < <وجود أو عدم وجود أدلة كافية على الفعلة المذكورة>>. وهو ما ورد كذلك بالفصل 106 من نفس المجلة الذي ألزم قاضي التحقيق أن يتخذ قرارا بان لا وجه للتتبع إذا كانت الحجج القائمة على المظنون فيه غير كافية. كما جاء بالفصل 116 م اج انه إذا رأت دائرة الاتهام انه < < لم تقم على المظنون فيه أدلة كافية تصدر قرارها بان لا وجه للتتبع … وإذا كانت هناك قرائن كافية على اتجاه التهمة تحيل الدائرة….>>. وبالرجوع إلى الفصل 121 م اج يلاحظ انه يمكن استئناف التحقيق إذا ظهرت أدلة جديدة .
وتتويجا لجملة هذه الفصول جاء بالفصل 151 م اج انه < < لا يمكن للحاكم أن يبني حكمه إلا على حجج قدمت أثناء المرافعة …>>. ومن الملاحظ أن المشرع في جميع الفصول السابق بيانها والمتعلقة بإثبات الجرائم يستخدم صيغة الجمع عند الإشارة إلى الأدلة والقرائن والحجج التي ثبتت بها الجريمة . مما يعني أن تأويل أحكام الفصل 150 م اج على ضوء النصوص السابقة سيؤدي حتما إلى القول بأن المقصود بالفقرة الثانية من الفصل المذكور والتي جاء فيها < < وإذا لم تقم الحجة ، فانه يحكم بترك السبيل>> هو الحالة التي لا توجد فيها أدلة وقرائن قوية ومتضافرة ومتماسكة على ثبوت الإدانة. فجملة النصوص المشار إليها سابقا تدل دلالة واضحة على أن نظام الاقتناع الشخصي المكرس بالفصل 150 م ا ج يعتمد في جوهره على تضافر الأدلة القانونية المرجحة للإدانة والمؤدية إليها منطقيا. كما أن تلك النصوص حددت للقاضي الجزائي الأسس الواجب اعتمادها إذا أراد الحكم بالإدانة وهي: -أن يكون الفعل المسند إلى المتهم أو المظنون فيه ثابتا.
-أن تكون هناك حجج أو قرائن او أدلة كافية ضده والمقصود بالكفاية هنا أن تكون وسائل الإثبات قاطعة وجازمة بحق المتهم أو المظنون فيه. فالإدانة لا يجوز أن تكون إلا بناء على أدلة ساطعة ودامغة وأكيدة وحازمة لا شك فيها باعتبار أن الأدلّة في المادّة الجزائيّة متساندة يكمل بعضها الآخر ومنها مجتمعة يكوّن القاضي عقيدته، وهو ما يعرف بمبدأ تساند الأدلّة وتضافر القرائن والذي يعتبر من المبادئ الأساسيّة التي تحكم قانون الإجراءات الجزائيّة . وهو ما أكدته محكمة التعقيب حين أعتبرت أن : “ما ورد بالمطعن من أنّ المحكمة كان عليها البحث عن البراءة إنّما هو مردود من أصله إذ البراءة مفترضة في المتّهم حتى تقوم الأدلّة المعاكسة التي من شأنها إقناع وجدان القاضي الجزائي بإدانته” . وبالتالي فإن قناعة القاضي الجزائي سواء بالإدانة أو البراءة يجب أن تبنى على دليل قويّ يؤدي إلى تلك النتيجة بدون أن يترك أي مجال للشكّ فيها، اعتمادا على مبدأ تضافر الأدلّة والقرائن. ويستخلص من جملة ما سبق بسطه أن التصريحات المجردة الصادرة عن متهم ضد متهم لا يمكن أن تعد دليلا قانونيا طبق أحكام مجلة الإجراءات الجزائية.
– مبدأ الأصل في الإنسان البراءة:
إن التأويل السابق لفصول مجلة الإجراءات الجزائية المتعلقة بقواعد الإثبات يتلاءم وأحكام الفصل 12 من الدستور الذي نص صراحة على انه”… يعتبر المتهم بريء ما لم تثبت إدانته في محاكمة عادلة…” فقرينة البراءة المكرسة دستوريا لا يمكن دحضها إلا بالأدلة والحجج القاطعة والقرائن المتضافرة فهي من المبادئ الجوهرية التي تفرض ذاتها على القضاء بحيث لا يجوز للقاضي تجاهلها أو الامتناع عن تطبيقها. و إن تسلسل المبادئ القانونية يجعل قرينة البراءة في مكانة أسمى من مبدأ القناعة الشخصية وبالتالي لا يقبل أن يقتنع القاضي بسقوط قرينة البراءة لمجرد تهمة ساقها متهم في وجه أخر جزافا دون دليل حسي ساطع، دامغ وجازم. و المحاكمة لا يمكن أن تكون عادلة إذا كانت مجرد «شهادة متهم» على متهم حجة قاطعة لا تقبل النقاش أو الدحض وكافية للتصريح بالإدانة وتسليط العقاب.
مبدأ الشك يفسر لمصلحة المتهم:
للتصريح بتوفر أركان الجريمة في حق شخص ما لابد من أن يؤتى بالأدلة القاطعة والجازمة على قيام المظنون فيه أو المتهم بالأفعال المادية التي يتكون منها الجرم أما إذا كان دليل الإدانة الوحيد هو مجرد «شهادة متهم» فهذا يعني أن الشك مهيمن وعملا بقاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم فمن واجب المحكمة أن لا تقضي بثبوت الإدانة وإنما تقضي وجوبا بالبراءة لأن عدم كفاية الحجة يؤدي حتميا لتوفر الشك . فـ”شهادة متهم” على متهم المجردة من أي دليل أخر يعززها تبقى هشة ولا يمكن أن تنتج آثارا على المشهود ضده. وقاعدة “الشك يفسر لصالح المتهم” التي هي نتيجة من نتائج قرينة البراءة التي يستفيد منها المتهم تعني بالضرورة أن النقص في قيام الدليل على عناصر الجريمة يؤدي حتما إلى الحكم بالبراءة. وقد أقرّت محكمة التعقيب قاعدة ” أن الشك ينتفع به المتّهم” أخذا بالقاعدة العامّة التي قوامها الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته .
كما أن قاعدة الشكّ ينتفع به المتهم متأصلة في الفقه الإسلامي وهي تستمد جذورها من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : “أدرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة”. فان حصل شك للمحكمة في تقدير قيمة الحجج أو شك في ثبوت التهمة فإنّها ترجع إلى تطبيق المبدأ الأصلي وهو أن الأصل في الإنسان البراءة وهو مبدأ يلتقي مع قاعدة كليّة من قواعد القانون وهي أن اليقين لا يزول بالشك وإنما يزول بيقين آخر. وبهذا المعنى جاء القرار التعقيبي المدني عدد 1740 المؤرخ في 26/2/1980: “إن الدليل إذا تطرقه احتمال سقط به الاستدلال” . و «شهادة المتهم» الواحد دليل تحيط به الكثير من الشكوك وهو ضعيف لا يكفي وغير مقبول لترجيح الإدانة على البراءة التي هي أصل في الإنسان لا يمكن نفيه إلا بحجة قاطعة لا يرقى إليها الشك أو الافتراض.
4- مبدأ عدم حجية الإقرار المجرد:
إن «شهادة المتهم» المجردة عن أي دليل أخر يؤيدها ويدعمها لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون حجة كافية حتى يستريح إليها وجدان القاضي ليحكم بموجبها وذلك انطلاقا من أنه لا قيمة للاعتراف المجرد في المادة الجزائية.
والإقرار هو إعتراف المتهم على نفسه بكل أو ببعض ما نسب إليه. فمن الثابت أن اعتراف المتهم على نفسه لم يعد سيد الأدلة في المادة الجزائية ما لم يكن مؤيدا بدليل مادي أخر يعززه فهو مجرد قرينة لا يصح الأخذ بها واعتمادها للإدانة ما لم يتوفر دليل أخر يعززها. وهو ما كرسه المشرع التونسي صراحة في الفصل 152 م ا ج الذي ورد فيه: “الإقرار مثل سائر وسائل الإثبات يخضع لاجتهاد الحاكم المطلق”. وكذلك في الفقرة الثامنة من الفصل 69 م اج التي ورد فيها أن :< < …إقرار ذي الشبهة لا يغني حاكم التحقيق عن البحث عن براهين أخرى>> وبالتالي فإن الإقرار ليس دليلا قاطعا على ارتكاب المتهم الأفعال الإجرامية المسندة إليه وهو من الحجج القانونيّة الواجب على القاضي تحليلها حتى يتبيّن له الأخذ به أو طرحه. فالأحكام الجزائيّة لا يمكن أن تبنى على الاعترافات المجرّدة غير المعزّزة بقرائن أخرى سواء كان هذا الاعتراف ضد النفس أو ضد الغير. فطالما أن “شهادة” الإنسان على نفسه لا تكفي لان تكون دليل إدانة ويجب تدعيم هذا الإقرار بأدلة أخرى فانه ومن باب أولى أن لا تكون “شهادة” واحدة صادرة عن متهم دليل إدانة ضد غيره. و هو ما جعل فقه القضاء والفقه يقرون مجموعة من الشروط التي يجب أن تتوفر في الإقرار حتى يكون وسيلة إثبات وهي:
– أن يكون واضحا لا لبس فيه.
– ومتواصلا في كافة مراحل البحث والتقاضي. وفي هذا الاتجاه أقرت محكمة التعقيب مايلي:< < ان حكم البداية قد تأسس على اعتراف المتهم لدى باحث البداية لا غير، وقد تراجع في هذا الاعتراف بالجلسة وبالتالي فانه لا يمكن اعتماده كدليل قاطع على الإدانة لتراجع المتهم ولعدم وجود ما يعززه في الخارج…و اتجه التصريح بثبوت براءته ذلك أن الأحكام الجزائية لا تبنى على الاعترافات المجردة خاصة إذا وقع التراجع فيها >>.
– مبدأ الموازنة بين أدلة البراءة وأدلة الإدانة:
علاوة عما سبق فإن القاضي الجزائي مطالب دائما بالموازنة بين أدلة البراءة وأدلة الإدانة قبل التصريح بحكمه وهو ما كرسته محكمة التعقيب في القرار التعقيبي عدد 9661 المؤرخ في 24/4/1985 الذي ورد فيه ما يلي:< < ان دور المحكمة لا يقتصر على تحقيق أدلة الإدانة فقط بل هي بالإضافة لذلك ملزمة باستقراء كل الأدلة الدالة على ثبوت البراءة لما في ذلك من تحقق العدل والإنصاف، لذا فهي ملزمة بالرد على ما كان جوهريا من الدفوعات التي لها تأثير على وجه الفصل وبيان أسباب اقتناعها حتى يفسح المجال لمحكمة التعقيب ممارسة مالها من حق المراقبة>>. وحيث أن مبدأ الموازنة مستمد من قواعد العدل والإنصاف التي تستوجب قبل التصريح بالإدانة أن يقوم القاضي بالمفاضلة بين جملة الأدلة المعروضة عليه ليقرر اعتمادا على تلك المفاضلة أو الموازنة مدى توفر ما يكفي من أدلة الإدانة لدحض قرينة البراءة أم أن أدلة الإدانة ضعيفة وغير كافية لإصدار حكم على أساسها. إن جملة المبادئ السابق بيانها تحول دون إمكانية الاعتماد على “شهادة متهم” كدليل مجرد ووحيد للإدانة ولكن هذا لا يعني أن تلك التصريحات الموصوفة خطأ “بالشهادة” فاقدة لأي قيمة إثباتيه وإنما يعني فقط أنها لا تصلح بمفردها دليلا للإدانة ما لم تعزز بأدلة مادية أخرى.
الجزء الثاني- شروط اعتماد «شهادة متهم»على متهم كدليل إدانة.
إن المشرع لم يخص تصريحات المتهم الموصوفة بكونها “شهادة” بأي شروط بل انه لم يتعرض لها أصلا في فصول مجلة الإجراءات الجزائية و إنما توجد شروط أقرها فقه القضاء الذي يكتفي غالبا بتوفر شرط وحيد ذو طابع معنوي وهو اقتناع وجدان القاضي لقبول تلك “الشهادة” كدليل إدانة إلا أنه أحيانا يقرن ذلك الشرط بشروط مادية وهو توجه لم يتبلور إلا بعد تردد وعلى مراحل توجت بصدور القرار التعقيبي المؤرخ في 23/3/2005 والذي يعد أول قرار تعقيبي يضبط بصفة متكاملة الشروط المادية لـ”شهادة متهم” على متهم.
الفقرة الأولى- الشرط المعنوي: اقتناع وجدان القاضي.
إن فقه القضاء مستقرّ حول اعتبار أنّ القاضي الجزائي يحكم بالإدانة أو بالبراءة وفق وجدانه الخالص . وهو ما جعل محكمة التعقيب في بعض قراراتها تؤكد أنه: “للمحكمة الجزائيّة حريّة تقدير وسائل الإثبات التي إقتنتعت بها واطمأنت إليها في نطاق اجتهادها المطلق ولها أن تستند لكل حجّة لم يحجّرها القانون بشرط أن تطرح تلك الحجّة على النقاش وأن تؤدّي منطقيا للنتيجة التي انتهى إليها الحكم. ولا شيء يمنع قانونا القاضي الجزائي من الاستناد لأقوال متّهم واتّخاذها حجّة على متهم آخر” . وفي قرار أخر اعتبرت محكمة التعقيب أن قاضي الموضوع يمكنه الأخذ بأيّ دليل لم يحجره القانون واطمأن إليه وجدانه وحيث لا يوجد أيّ نص قانوني يمنع القاضي من أن يستند في الإدانة إلى مجرّد اعتراف متهم على آخر متى اطمأن إليه ولا شيء بالقانون يمنع اعتماد هذا الاعتراف كأساس للحكم بالإدانة أو البراءة . ويتحصحص من خلال القرارين السابقين أنّ محكمة التعقيب تقر للقاضي الجزائي بحريّة كاملة في تقديره للقوّة الثبوتيّة لوسائل الإثبات سواء المقدّمة إليه أو التي استنتجها بنفسه.
ومن الواضح أن فقه القضاء يعتبر أحيانا أن نظام الاقتناع الشخصي للقاضي الجزائي يجعل هذا الأخير غير ملزم بإعطاء تفسير أو تبرير بشأن القوة الثبوتية للأدلة التي يعتمدها.
ولكن هذا التوجه لا يمكن القبول به إذ إن خطأ القاضي الجزائي بسبب قناعته الشخصية أمر تأباه العدالة ولهذا فلا بد من الحد من اطلاقيتها وإخضاعها لقواعد تنظيمية تحصنها وتضمن أن استخلاص الدليل تم بناءا على مسلمات لا جدل حولها و لا التباس. كما أن هذا المنهج يذكرنا بالنظام القديم للإثبات في فرنسا قبل الثورة الفرنسية الذي كان نظاما قانونيا يعتمد بعض النصوص والأعراف التي كانت تفرض على القاضي الجزائي التجريم إلزاما بمجرد أن تقوم الأدلة على المتهم في شهادتين متطابقتين وإذا جاءت الشهادة من شاهد واحد فالإدانة قائمة لكن العقوبة تكون أخف وطأة فقط. فحرية القاضي في تأسيس قناعته على الدليل الذي يرتاح اليه وجدانه مشروط بأن يكون هذا الدليل مقبولا قانونا وقائما على إجراءات صحيحة. وهو ما كرسته محكمة التعقيب في القرار عدد36258 المؤرخ في 30/04/2003 (غير منشور) الذي ورد فيه ما يلي:< <
حيث ولئن خول القانون لقاضي الموضوع الحكم بمقتضى وجدانه من خلال حرية تقديره للوقائع وتقييمه للأدلة والقرائن الموجودة بها واستخلاص النتيجة القانونية المترتبة عنها الإدانة أوجب عليه تعليل أحكامه تعليلا مستساغا واقعا وقانونا وهو شرط لا يتوفر إلا متى شمل نظره كافة عناصر القضية التي لها تأثير على وجه البت فيها وتناول بالدرس والتقييم والترجيح ما تحتويه الوقائع من الأدلة المثبتة للتهمة أو الدافعة لها حتى تتمكن هذه المحكمة من إجراء حق الرقابة على الأحكام والتأكد من حسن تطبيق محكمة الموضوع للقانون على الوقائع المثبتة في الأوراق >>.
فشرط تعليل الحكم مستمد من أحكام الفصل 168 م ا ج وهو عنصر ضروري لسلامة الحكم من البطلان طبق أحكام الفصــل199م ا ج . و جاء بالقرار التعقيبي عدد 48377 المؤرخ في 14 افريل 1993 ما يلي:< < إن مسألة تقدير الأدلة واستخلاص النتائج القانونية منها وان كان من اجتهاد محكمة الموضوع المطلق فان ذلك مشروط بتوخيها التعليل المنطقي المستساغ دون تحريف أو تغيير في الوقائع أو خطأ في تطبيق القانون >> . ويبدو أن جملة القرارات السابقة كانت مقدمة لصدور قرارات أكثر جرأة كرست فيها محكمة التعقيب الشروط الواجب توفرها في “شهادة متهم” على متهم حتى تكون دليلا قانونيا مقبولا.
الفقرة الثانية- الشروط المادية لقبول”شهادة متهم” على متهم.
يعتبر القرار التعقيبي الجزائي عدد13973 المؤرخ في 23/3/2005 أول قرار يتضمن بصفة واضحة لا لبس فيها جملة من الشروط المادية الواجب توفرها للأخذ بـ”شهادة متهم” على متهم فقد ورد فيه ما يلي:< < حيث انه بالرجوع إلى القرار المنتقد وأسانيده والأوراق التي أنبنى عليها يتضح أن القضاة الذين أصدروه كانوا قد أسسوا قضاءهم على شهادة وحيدة صادرة عن الطفل بلال المحكوم عليه في قضية مستقلة من أجل استهلاك مادة مخدرة ممنوعة…وحيث انه ولئن كانت مسألة شهادة متهم ضد متهم تختص بها محكمة الموضوع دون سواها ولا مانع قانونا من الأخذ بها فذلك بشريطة تحليل فحواها وبسطه ومتى كانت واضحة ومتماسكة ومستقرة في سائر مراحل البحث دون تناقض او تضارب غير مقدوح فيها وان تكون خاصة معززة ومدعمة بقرائن قوية و متضافرة يستأنس بها وحجج ثابتة تكون مطية لإقناع الوجدان وإصدار أحكام القانون وحيث انه وخلافا لما ذهبت إليه محكمة القرار المطعون فيه فإن تلك العناصر لم تبرز في إطار هاته القضية وقد اتسمت تلك الشهادة اليتيمة بالضعف والافتقار لما يدعمها ويعززها حتى ترجح بمفردها على قرائن وأدلة البراءة في تهمة خطيرة… وحيث أهمل القرار المنتقد الرد سلبا أو إيجابا على دفع المتهم بشأن قدحه في تلك الشهادة ومصدرها وفق ما جاء بالفصلين 63م ا ج و96 م م م ت والتعرض إلى كيفية تحديد صنف ونوع المادة المخدرة التي نسب إلى المعقب توزيعها بنية الاتجار فيها في غياب محجوز وسلبية نتيجة التحليل المخبري المجرى على سوائله…>>. ومن الواضح أن محكمة التعقيب حددت في القرار المبين مبدأه أعلاه لأول مرة شروط «شهادة متهم» على متهم وهي شروط متلازمة:
1.أن تكون واضحة و متماسكة و مستقرة في سائر مراحل البحث لا تناقض و لا تضارب فيها. وهو شرط كانت محكمة التعقيب قد اشارت اليه في القرار التعقيبي المؤرخ في 02/07/2003 ( غير منشور) والذي جاء فيه ما يلي:< < حيث أن الشهادة لم تكن متواترة ومتحدة في مضمونها وحيث أن شهادة متهم على آخر ولئن تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات إلا أنها تحتاج إلى وسائل إثبات أخرى وقرائن تدعمها خلافا لما كانت عليه الشهادة في قضية الحال التي كانت فاقدة لكل تأييد من وسائل إثبات أخرى بل ثبت لدى دائرة الاتهام وجود قرائن أخرى تدحض مضمون تلك الشهادة >>.
2.أن تكون معززة و مدعمة بقرائن قوية و متضافرة يستأنس بها وحجج ثابتة تكون مطية لإقناع الوجدان وإصدار أحكام القانون. وهذا الشرط منطقي و لا جدال فيه إذ أنه مطلوب في إقرار المتهم على نفسه فمن باب أولى أن يكون مطلوبا في إقراره على غيره.
وقد سبق لـمحكمة التعقيب أن كرست هذا الشرط في قرارها عدد 46868 المؤرخ في 31/01/2004 الذي جاء فيه :< <لا شيء يمنع قانونا من اعتماد شهادة متهم على متهم خاصة إذا ما اتضح أن تلك الشهادة كانت معززة بقرائن أخرى مثل الجزء من المحجوز الذي تم العثور عليه بحوزة المعقب ضده والذي تبين بعد عرضه على المتضرر أنه تابع لهذا الأخير فقام الباحث بارجاعه اليه ومن جهة أخرى فان شهادة متهم على متهم لا شيء يمنع المحكمة من الأخذ بها خاصة إذا ما تبين أن الشاهد لم يكن يرمي من وراء شهادته تبرئة ساحته وإلقاء تبعة أفعاله على المشهود ضده…>>. ومن الواضح أن محكمة التعقيب أقرت في قرارها السالف الذكر شرطا إضافيا وهو أن لا تكون تصريحات المتهم ضد غيره بغاية تفصيه من العقاب وإلقاء التبعة على غيره. وفي هذا الاتجاه فقد سبق لـمحكمة التعقيب أن اعتبرت أنه لا مانع قانونا من اعتماد «شهادة متهم» على متهم خاصة إذا لم يقصد بها تبرئة نفسه وإلقاء تبعة الجريمة على من شهد ضده.
3.أن لا تتسم بالضعف والافتقار لما يدعمها ويعززها حتى ترجح لوحدها على قرائن و أدلة البراءة. وفي هذا الاتجاه اعتبرت محكمة التمييز اللبنانية “أن الأحكام يجب أن تبنى على الدليل القاطع الذي يطمئن إليه وجدان المحكمة وبما أن أقوال رفيقي المتهم ليست إلا من قبيل عطف الجرم الذي لم يعزز بدليل أخر وبالتالي تشكل شبهة فقط ولا تصلح للحكم”.
4.أن لا تكون محل قدح. إذ نص المشرع بالفصل 63 م اج انه < < لحاكم التحقيق أن يسمع على سبيل الاسترشاد بدون أداء اليمين… ثانيا: الأشخاص الذين لا يمكن قبول شهاداتهم تطبيقا لقواعد م م م ت>>. ومن بين الحالات الواردة بالفصل 96 م م م ت والتي يجب التأكد من عدم توفرها لدى المتهم:< <أولا: العداوة الواضحة… ثانيا: إذا كان للشاهد منفعة شخصية لأداء الشهادة…عاشرا: إذا كان الشاهد محكوما عليه من اجل جريمة مخلة بالشرف>>. فـ”شهادة متهم” على متهم لا تكون مقبولة إلا إذا خلت من القوادح القانونية و كانت واضحة ومتماسكة ووقع الإصرار عليها في جميع مراحل البحث و معززة بحجج أخرى ثابتة وإذا انعدمت الشروط المذكورة أعلاه فإنه لا يمكن الأخذ بها لتكوين عقيدة القاضي الجزائي ونسبة أي جريمة ضد متهم أو مظنون فيه.
ويستخلص من جملة ما سبق أن مكانة الشهادة كوسيلة إثبات رئيسية في المادة الجزائية لم تحل دون التشكيك فيها بصفة مستمرة لما يعتريها من عيوب مرتبطة بسلامة حواس الشاهد وحالته النفسية وتزداد هذه الشكوك عندما يتعلق الأمر بتصريحات متهم أدلى بها دون يمين ولدوافع يصعب التأكد من نزاهتها وخلوها من الرغبة في الانتقام والتشفي وتوريط الغير لأي سبب كان فما يسمى”شهادة متهم “على متهم هو دليل يشكو من عيب مضاعف ففيه ما في الشهادة من مساوئ مضاف إليها خلوه من الضمانات القانونية المقررة للحد من تلك المساوئ والمتمثلة أساسا في وجوبية أداء اليمين.
ولهذا فإن الحكم الصادر بناء على تصريحات مجردة لمتهم هو في الحقيقة مجرد حكم مقرر لإدانة قضى بها ذلك المتهم على الغير دون دليل مادي أو حجة تدعم مزاعمه.
اترك تعليقاً