بقلم ذ عبد الحق دهبي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية
تحت عدد: 90
الأصل أن مسؤولية الإدارة عن الأضرار التي تسببها للغير بسبب أعمالها الضارة – كما قررها مجلس الدولة الفرنسي – تقوم على أساس الخطأ، وتكمل على سبيل الإستثناء بفكرة المسؤولية على أساس المخاطر وتحمل التبعة ( أي المسؤولية دون خطأ ). وتبعا لذلك تقوم المسؤولية الإدارية التي يعتبر الخطأ أساسا لها على أركان ثلاثة وهي الخطأ والضرر وعلاقة السببية بينهما.
ففيما يتعلق يتعلق بركن الخطأ الواجب توافره للقول بمسؤولية الإدارة، فإن مجلس الدولة الفرنسي قد فرق بين كل من الخطأ الشخصي الذي ينسب إلى الموظف نفسه ويرتب مسؤوليته الشخصية وبالتالي تحمل أداء التعويض عما أصاب الغير من ضرر والخطأ المرفقي الذي ينسب إلى المرفق وتسأل عنه الدولة وحدها من أموالها.
ويثير الخطأ بوصفه شرطا لمسؤولية السلطة العامة عدة إشكالات يأتي في مقدمتها تحديد فكرة الخطأ الذي يوجب هذه المسؤولية وكيفية إثباته، وما إذا كان ممكنا افتراض هذا الخطأ[1].
وتأسيسا على ذلك فإن مسؤولية الدولة في فرنسا – وكذلك في المغرب- لم تتقرر دفعة واحدة، فبعد أن كانت الدولة لا تسأل عن أعمالها حتى ولو أحدثت ضررا، أصبحت تسأل عن هذه الأعمال متى ترتب عليها ضرر، غير أن هذه المسؤولية كانت تقوم في البداية على أساس الخطأ، ثم في مرحلة لاحقة خفف القضاء الإداري نظام المسؤولية وأقامها على أساس افتراض الخطأ نظرا لصعوبة إثبات الخطأ في بعض أعمال الإدارة لا سيما الأعمال ذات الطابع التقني التي يصعب على المتضرر إثباتها، فنقل بذلك عبء الإثبات من المتضرر إلى الإدارة، وأخيرا انتهى الأمر إلى تقرير مسؤولية الإدارة حتى مع غياب الخطأ في إطار ما تسمى بالمسؤولية على أساس المخاطر أو المسؤولية دون خطأ.
المحور الأول : مفهوم الخطأ الطبي
إذا كان الخطأ الطبي هو عدم قيام الطبيب بالالتزامات الخاصة التي فرضتها عليه مهنة الطب، او هو كل تقصير في مسلك الطبيب، فإن الفقه والقضاء أسهما بقدر وافر من التعريفات وأكدا مجموعة من صور الخطأ الطبي.
أولا : تعريف الخطأ الطبي :
الخطأ الطبي هو كل نشاط سواء بالفعل أو بالترك لا يتفق مع القواعد المهنية وينتج عنه ضرر، ويقصد به أي نشاط أو عمل طبي مقدم للمريض يخرج عن المألوف والقواعد الطبية المتبعة والمألوفة في المهنة والاختصاص وينتج عنه ضرر للمريض سببه هذا العمل الطبي أي يرتبط بعلاقة سببية.
ويعرف أيضا بكونه الخروج عن المألوف او القواعد بسبب اهمال او تقصير او عدم اكتراث، ويمكن تجنبه من قبل مقدمي الخدمة الطبية الآخرين من نفس الاختصاص والدرجة العلمية.
كما يعرف بأنه الخطأ الفاحش الذي لا تقره أصول الطب ولا يقره أهل العلم والصنعة من ذوي الاختصاص الناجم عن تقصير أو إهمال أو جهل أو عدم بذل العناية اللازمة من قبل الطبيب أو الفريق الطبي المعالج ونجم عنه ضرر أو وفاة، أو هو كل نشاط سواء بالفعل أو الترك لا يتفق مع القواعد الطبية وينتج عنه ضرر ان عمل الطبيب عند أخذ موافقة المريض على العلاج او عند طلب الطبيب للمعالجة فان ذلك يعد واجباً والواجب لا يتقيد بشرط السلامة ولو ان واجب الطبيب متروك لاختياره وحده واجتهاده العلمي والعملي[2].
ويُعرّف الخطأ الطبي أيضا بأنه انحراف الطبيب عن السلوك الطبي العادي والمألوف، وما يقتضيه من يقظةٍ وتبصّر إلى درجة يُهمل معها الاهتمام بمريضه، أو هو “إخلال الطبيب بالواجبات الخاصة التي تفرضها عليه مهنته، وهو ما يسمى بالالتزام التعاقدي”.
ويتبيّن لنا من خلال التعريفين السابقين أن الخطأ الطبي يقوم على توافر مجموعة من العناصر، تتمثل في عدم مراعاة الأصول والقواعد العلمية المتعارف عليها في علم الطب، والإخلال بواجبات الحيطة والحذر، وإغفال بذل العناية التي كان باستطاعة الطبيب فعلها.[3]
ثانيا : صور الخطأ الطبي :
يُجمع معظم الفقهاء القانونيين على وجود قسمين وهما:
الأول: الخطأ الفني، وهو الخطأ الذي يصدر عن الطبيب، ويتعلّق بأعمال مهنته، ويتوجّب لإثبات مسؤوليته عنه أن يكون الخطأ جسيماً. ومن الأمثلة عليه: عدم الالتزام بالتحاليل الطبية، والخطأ في نقل الدم، وإصابة المريض لسوء استخدام الآلات والأجهزة الطبية، وإحداث عاهة، فضلاً عن التسبّب في تلف عضو، أو تفاقم علّة.
الثاني: الخطأ العادي، ومردّه إلى الإخلال بواجبات الحيطة والحذر العامة التي ينبغي أن يلتزم بها الناس كافة، ومنهم الطبيب في نطاق مهنته باعتباره يلتزم بهذه الواجبات العامة قبل أن يلتزم بالقواعد العلمية أو الفنية لمهنته. ومثاله أن يجري الطبيب عملية جراحية وهو في حالة سكر.
كما يمكن أن نميز بين عدة أنواع من الأخطاء الطبية :
الخطأ الغير مقصود: على الرغم من اليقين بأن كل إنجازٍ أو عَمَلٍ لإنسانٍ قد يكون مصحوباً بهـَنـَةٍ من خطأ غير مقصود، ولا يُبرأ منها إلا مَعصوم كامل، إلا أنه ينبغي على الطبيب عند مواجهه الحالات المعروضة عليه، وعلى وجه الخصوص تلك المُستَصعبةِ المُعـَقـدة منها، بالاستفسار والفحص أو تقرير التشخيص، اتخاذ الحرص واليقظة الدائمين منهجاً دون تساهل، فضلاً عن التزام الحِيطةِ
الخطأ المقصود أو المُتَعمد: وهذا يحدث مع الأسف عندما يجب أن ألاّ يوجهَ الطبيب إمكاناته وخبراته للأذى أو التدمير، أو إلحاق الضرر البدنيّ أو النفسيّ بالإنسان، فرُوي عن أبي صِرْمة أن رسول الله ـ صلى الله عليه واله وسلم ـ قال: “من ضارّ مسلمًا ضارّه الله”. و يحسب هذا العمل المقصود من الطبيب لإيذاء المريض وإهلاكه جرم كبير وخيانة عظمي و هي كذلك جريمة جنائية يعاقب عليها القانون، ولا مناص من العقوبة الدنيوية عليها بالحرمان من مزاولة المهنة بسحب الترخيص، إضافةً علي العقاب الجنائي المدني، مترتباً عليها وصمات العار والانحطاط، وحساب الله عليها أشد وأعدل،
وهناك نوع آخر من الأخطاء وهو:
الخطأ بسبب التعرض لحقوق المريض:
تنشأ بسبب جهل الطبيب بالمبادئ الأساسية التي تربط العلاقة بينه وبين المريض ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
أ- إفشاء أسرار المريض سواء المرضية أو الأسرار الشخصية مما يؤدي الي الكثير من المشاكل سواء كانت للمريض أو لأقاربه. إن كتمان السر يعتبر من بديهيات العمل الطبي.
ب- عدم الالتزام بالمعايير المهنية في التعامل مع المريض، كالاحترام واللطف وأن يكون حنوناً ورحيماً في تعامله وأن يتجنب النظرة الدونية أو الاستهزاء أو السخرية مهما كان مستوى المريض العلمي أو الأدبي أو الاجتماعي.
ج- عدم احترام خصوصية جسد المريض:
على الطبيب المحافظة على احترام جسد المريض وخصوصاً أماكن العورة ولا يجب الإسراف في تعرية الأجزاء الغير معنية.
د- عدم تقديم الرعاية الطبية لمرضى الأمراض المعدية:
على الطبيب الاستمرار في تقديم خدماته الطبية لجميع المرضى سواءً المصابين بأمراض غير معدية أو تلك المعدية حتى اللحظات الأخيرة من حياتهم.
هـ- تقديم الخدمات الطبية دون رضا المريض:
لا يسمح للطبيب تقديم خدماته أو معالجة المريض دون رضاه ما عدا في الحالات الطارئة والعمليات المستعجلة ولا يجوز فرض العلاج على المريض وأن لا يرغم على توقيع أية بيانات لا تتماشى مع حالته الصحية والمرضية.
وعموما يتم التمييز بين نوعين من الأخطاء وهما :
1- الأخطاء الإنسانية الطبية، وهي :
أ- عدم إعلام المريض
ب- عدم الحصول على رضا المريض
ج- إفشاء السر المهني :
حالة أداء الشهادة أمام القضاء – حالة أداء خبرة طبية – حالة الإبلاغ عن جريمة – حالة الإبلاغ عن مرض معد.
2- الأخطاء الطبية التقنية، وهي :
أ- الخطأ في التشخيص
ب- الخطأ في العلاج
ج- الخطأ في الرقابة :
الرقابة الطبية بعد العلاج – الرقابة الطبية بعد العمليات الجراحية
المحور الثاني : مجالات المسؤولية على أساس الخطأ
تقوم مسئولية المرافق العامة الطبية بصفة أساسية، كما هو حال مسئولية المرافق العامة الأخرى، على أساس الخطأ.
وللخطأ في المسئولية الإدارية سمة مبتكرة كما أكدنا سابقا تتمثل في التفرقة بين الخطأ المرفقي والخطأ الشخصي. ففي الحالة الأولى تقع المسئولية على عاتق المرفق العام وهو الذي يتحمل عبء التعويض ويكون الاختصاص للقضاء الإداري. وفي الحالة الثانية تكون المسئولية على عاتق الموظف بصفة شخصية، وينفذ الحكم بالتعويض من أمواله الخاصة، ويكون الاختصاص معقوداً للقضاء العادي.
وفي نطاق مسئولية المرافق العامة الطبية يمكن التمييز بين نوعين من الأعمال التي قد تكون محلاً للأخطاء المرفقية، وهي الأعمال الطبية وأعمال تنظيم وتسيير المرفق.
وتعتبر الأعمال الطبية من الأنشطة التي تنطوي على صعوبة في إنجازها من جانب المرفق الطبي، لذلك يشدد القضاء الإداري كمبدأ عام من درجة الخطأ المرتكب في هذه الأعمال.
وعلى الرغم من أن مضمون الالتزام واحد في كل من الخطأ الطبي الذي يعقد مسئولية المرفق الطبي ونظيره في القانون الخاص، وهو الالتزام ببذل عناية، إلا أنه لا يمكن تقدير الخطأ الطبي المنسوب إلى المرفق العام وفقاً للمعيار الموضوعي المعمول به في القانون المدني، والذي يقوم على السلوك المألوف للشخص العادي. نظراً لأن الخطأ الطبي الذي يؤدي بطبيعته إلى انعقاد مسئولية المرفق العام يبقى خطأً مرفقياً، بمعنى أن القاضي الإداري لا ينظر إلى تصرف الأطباء بشكل مباشر وإنما إلى مدى إنجاز المرفق للالتزامات المفروضة عليه قانوناً. لذلك يقدر القاضي الإداري هذا الخطأ في كل حالة على حده، مستعيناً في ذلك بالمعايير التي تبدو مألوفة لديه، كالوسائل المتوافرة لدى المرفق وظروف الزمان والمكان وحالة الاستعجال وموقف المتضرر.
أما فيما يتعلق بأعمال تنظيم وتسيير المرفق الطبي فهي تشمل بالإضافة إلى الأعمال الإدارية والتنظيمية للمرفق، أعمال الرعاية الجارية.
وينطوي الخطأ الواقع في هذه الأعمال على العديد من الصور، كالخطأ في تشخيص المرض، أو عدم الالتزام بتبصير المريض أو الحصول على رضائه. وقد وسع قضاء مجلس الدولة الفرنسي من نطاق الخطأ الواقع في تنظيم وتسيير المرفق الطبي، فلم يعد يقصره على الخطأ الثابت، وإنما طبق بشأنه فكرة الخطأ المفترض، وذلك في الحالات التي يصاب فيها المريض بضرر بالغ لا يتناسب البتة مع سبب إقامته في المستشفى أو مع العلاج الخاضع له، دون أن يستطيع في ذات الوقت إقامة الدليل على وقوع خطأ من جانب المرفق الطبي.
لكن الأصل في المسؤولية الطبية في الوقت الراهن وفقا للقواعد العامة للمسؤولية، هو أن عبء الاثبات يقع على المدعي وعليه اثبات عناصر المسؤولية واركانها، من خطأ، وضرر وعلاقة سببية،
وبناء على ذلك فان المريض المتضرر هو المكلف باثبات الضرر والخطأ والعلاقة السببية. واذا كان اثبات الضرر لا يثير كثيرا من الصعوبات، فإن الامر يختلف فيما يتعلق باثبات خطأ الطبيب، لذلك يجمع الفقة الحديث على ان عبء اثبات خطأ الطبيب لا يجب ان يتبع طبيعة المسؤولية او يدور معها، فيما اذا كانت المسؤولية عقدية او تقصيرية، وانما يتعلق بذات طبيعة الالتزام الذي اخل به الطبيب، ولا فرق هنا ان يكون مصدر الالتزام علاقة عقدية او فعل تقصيري . وعليه فان اثبات خطأ الطبيب يتوقف بحسب ما اذا كان التزام الطبيب بتحقيق او ببذل عناية:
1- عبء الاثبات في الالتزام بتحقيق نتيجة وهو الالتزام الذي يعد فيه المدين دائنه بشيء معين سواء كان ذلك الشيء عملا، او امتناع عن عمل، او نقل حق . ان عدم تنفيذ الالتزام بتحقيق نتيجة، انما هو خطأ مفترض غير قابل لاثبات العكس، ويتحمل المدين عبء الاثبات في هذا الالتزام، وتفرض مسؤولية في هذه الحالة، الا اذا قام الدليل على انه قام بتنفيذ التزامه، او ان عدم تنفيذه لهذا الالتزام يرجع إلى سبب اجنبي حال بينة وبين تنفيذه. وعلية يكفي لاقامة المسؤولية على الطبيب -اذا كان ملزم بتحقيق نتيجة- اثبات ان النتيجة لم تتحقق، وكان يجب على الطبيب ان يقوم بها ونتج عن ذلك ضرر للمريض.
وقد اثير امام القضاء تساؤل حول اعتبار الطبيب متبوع ام يعتبر الطبيب حارس للشيء الذي احدث الضرر. وخلص إلى نتيجة مفادها ان الضرر اذا كان ناتج عن احد التابعين للطبيب، ممن يعملون ضمن فريقه الطبي فانه يسأل مسؤولية المتبوع عن اعمال التابع، واذا نتج الضرر عن احدى الآلآت التي يستخدمها الطبيب فانه يعتبر حارسا، وتقوم مسؤوليته على هذا الاساس، ولتوفير الحماية للمريض جاء القضاء بالالتزام بضمان السلامة، اي سلامة المريض من الضرر الذي يمكن ان يحدث اثناء العلاج، وخاصة بالنسبة للعمليات الطبية التي لا يكون فيها احتمال للنجاح او الفشل، ويكون فيها التزام الطبيب بتحقيق نتيجة.
وقد أخذ القضاء بضمان السلامة فيما يتعلق بالاضرار الناجمة للمريض بسبب التغذية او المشروبات او النظافة او ما يصاب بة من عدوى في المستشفى، ولا يستطيع الطبيب ان يدرأ عن نفسة المسؤولية الا باثبات السبب الاجنبي، اي اثبات ان الضرر الذي لحق بالمريض يرجع إلى قوة قاهرة او خطأ المريض او خطأ الغير، ويمكن للطبيب ايضا اثبات حالة الضرورة، التي تنفي عن فعلة وصف الاهمال.
ويلاحظ ان القضاء يتشدد في العمليات الجراحية وما ينتج عنها من اخطاء، خاصة اذا كانت هذه العمليات لا تدعو اليها ضرورة علاجية كعمليات التجميل، وقد ذهبت محكمة النقض المصرية “بان عملية التجميل وان كان التزام الطبيب هو بذل عناية الا انه يكفي من المريض اثبات واقعة ترجح اهمال الطبيب”. ان الحكم السابق يقيم قرينة قضائية لمصلحة المتضرر، على اساس ان الطبيب قد اخل بالتزامه ببذل عناية.
وكذلك بالنسبة للعمليات العادية فانها لا تتمثل بها صعوبة بالنسبة للطبيب الجراح، ولا تتضمن عنصر الاحتمال اذا كانت هذه العمليات عمليات بسيطة، كعمليات الختان والزائدة الدودية والتي اصبحت عمليات سهلة جدا ولا يعقل حدوث الفشل فيها.
2- عبء الاثبات في الالتزام ببذل عناية لا يكتفي من الدائن في هذه الحالة ان يدعي ان المدين لم يقم بتنفيذ التزامه على الوجة المعين في الاتفاق بل عليه ان يثبت ان العناية التي قام بها المدين لم تتفق مع ما كان يجب عليه بذله ، بمعنى يجب عليه ان يثبت ان هناك خطأ وقع من المدين وان هناك ضررا لحق به من جراء ذلك، وان العلاقة السببية بين الخطأ والضرر ثابتة، وعليه يجب على المريض ان يثبت ان الطبيب لم يقم ببذل العناية المطلوبة منه، المتمثلة في اهمال الطبيب،او انحرافه في الاصول المستقرة في المهنة، ويمكن اثبات ذلك من خلال مقارنة سلوك الطبيب المدعى علية بسلوك طبيب مماثل له من نفس المستوى المهني مع الاخذ بعين الاعتبار الظروف الخارجية المحيطة بالطبيب وقت العلاج.
وعموما يتجه القضاء بصفة عامة إلى أن إلقاء عبء الاثبات على عاتق المريض، فهو الملزم باثبات ان خطأ الطبيب هو الذي تسبب في احداث الضرر، فمجرد اثبات ان الطبيب قد نسي قطعة من القماش لا يكفي للقول بان ذلك يعتبر السبب في كل الاضرار الناجمة للمريض ما لم يثبت ان هذا الاهمال هو الذي أدى إلى التهاب الجرح وما صاحب ذلك من أضرار.
فاذا لم تكن القرينة واضحة الدلالة على ان الطبيب ارتكب خطأ لابد من الاستعانة بقرائن اخرى بإثبات خطأ الطبيب والرابطة السببية، ولهذا فإن القضاء يستعين بأهل الخبرة، لما لهم من أهمية للبت في المسائل الإحتمالية. هذا وقد ذهبت محكمة النقض الفرنسية إلى انه ليس هناك تناقض بين عدم اعتبار خطأ الطبيب هو سبب في الوفاة، ولكنه السبب في حرمان المريض من فرصة حقيقية في الشفاء.
يلاحظ من احكام القضاء ان هناك اتجاه متزايد في التشدد في احكام المسؤولية الطبية، ويظهر هذا من خلال التساهل في تطبيق القواعد العامة للمسؤولية المدنية على خطأ الطبيب، بحيث اصبح القضاء يقيم قرينة على ارتكاب الطبيب للإهمال، وذلك لمصلحة المريض الذي لا يستطيع ان ينفي ذلك الا باثبات السبب الاجنبي الذي حال بينه وبين حصول الضرر[4].
المحور الثاني : مجالات المسؤولية على أساس المخاطر
من جانب آخر تقوم مسؤولية المرافق العامة الطبية بدون خطأ وذلك بصورة تكميلية بجانب المسئولية القائمة على الخطأ.
فالمسؤولية على أساس المخاطر أو المسؤولية بدون خطأ أو المسؤولية الموضوعية هي تلك التي يكفي أساسا لقيامها وجود علاقة سببية مباشرة بين الضرر وبين العمل أو النشاط الطبي في غيبة أي خطأ من جانب الإدارة، وحتى ولو كان العمل أو النشاط مصدر الضرر في ذاته سليما وصحيحا، على أن هذه المسؤولية تبقى وضعا استثنائيا من نظام المسؤولية على أساس الخطأ. وفي مجال المسؤولية في مجال المرفق الطبي وجدت نظرية المخاطر مكانها في بادئ الأمر ضمن أسس المسؤولية الطبية بتدخل تشريعي (قانوني 1 يوليوز 1964 و26 ماي 1975 المتعلقين بالتلقيح الإجباري) وبعد ذلك بتدخل قضائي بإقرار مجلس الدولة لنظام المسؤولية بدون خطأ في حالات الأضرار الخطيرة وغير العادية التي يسببها للغير مرضى الأمراض النفسية والعقلية الذين يستفيدون من أساليب العلاج الحديثة المتمثلة في الخروج من المستشفى لمدة محددة للعمل أو للإقامة في الوسط العائلي وذلك بالنسبة لمن تظهر بوادر تحسن حالته لتأهيله للعودة تدريجيا للحياة الطبيعية قبل إقراره خروجه النهائي من المستشفى الذي يظل طيلة هذه المدة مسؤولا عن الأضرار التي يمكن أن يلحقها ذلك المريض بالغير.
وأقرها القضاء أيضا بخصوص الأضرار التي يلحقها المرضى بالمتعاونين العرضيين والمتدربين بالإدارة الصحية.
وقد ساهم المشرع والقضاء الفرنسيين في إيجاد العديد من تطبيقات المسئولية دون خطأ الخاصة بالمرافق العامة الطبية.
فمن جهة أصدر المشرع الفرنسي عدداً من التشريعات في المجال الصحي أقر من خلالها المسئولية دون خطأ عن المخاطر الصحية الخاصة بالتلقيح الإجباري كما قلنا سالفا والتبرع بالدم والأبحاث الطبية التي تجري على جسم الإنسان، وقد استهدف المشرع من وراء ذلك ضمان سلامة الأشخاص المشاركين في هذه الأنشطة نظراً لارتباطها بالمصلحة العامة، فضلاً عن ضمان التعويض لهم في حالة حدوث مخاطر صحية.
ولم يقف المشرع الفرنسي عند هذا الحد بل عمل على إرساء نظام جديد لا يتعلق بالمسئولية وإنما يقوم على مبدأ التضامن القومي، الذي أتاح التعويض العاجل والكامل لضحايا الحوادث الصحية. ومما دفع المشرع إلى هذا المسلك ظهور بعض المجالات الجديدة في النطاق الصحي أو تزايد نسبة الأضرار الناجمة عن بعض الأنشطة الصحية إلى درجة لا تتوائم معها الأنظمة التقليدية للمسئولية، كما في حالة العدوى بفيروس فقدان المناعة المكتسبة ( الإيدز ) نتيجة نقل الدم أو الحقن بعناصر مشتقة منه. لذلك أدرك المشرع أن مثل هذه الظواهر أو المجالات بما ترتبه من أضرار غير محدودة، تتطلب توفير نوع من الحماية الشاملة والعاجلة لصالح المتضرر، للتخفيف من وطأة نتائجها على النظام الاجتماعي للدولة، ومن هنا كان اتجاه المشرع نحو تدعيم أواصر التكافل والتضامن بين الجميع لمواجهة هذه التحديات غير التقليدية، معتمداً في تطبيقه لهذا المسلك على نظام صناديق الضمان.
بالمقابل لم تنص جل الدول العربية ومن بينها المغرب في التشريعات الصحية الصادرة عنها على تعويض الأضرار الناجمة عن مخاطر الأعمال المشار إليها، مما يدل على إعمال القواعد العامة للمسئولية بأركانها الثلاثة، الخطأ والضرر وعلاقة السببية، إلا أن القضاء المغربي استدرك ذلك وملأ الفراغ التشريعي وسار في عدد من الأحكام والقرارات القضائية على نهج القضاء الفرنسي بإقرار المسؤولية على أساس المخاطر.
ومن جهة أخرى طبق القضاء الإداري الفرنسي المسئولية دون خطأ للمرافق العامة الطبية في العديد من الحالات.
فقد أخذ بهذه المسئولية تجاه معاوني المرافق العامة الطبية ممن يتم الاستعانة بهم بصورة تطوعية، وفقاً للمبادئ العامة للمسئولية الإدارية.
كما طبق أيضاً هذه المسئولية تجاه الغير الذين لا تربطهم أي صلة بالمرفق الطبي، وذلك في حالة استخدام مناهج علاجية متحررة للمرضى العقليين تنشئ مخاطر خاصة للغير، وكذلك في حالة الأضرار التي أصابت الطفل المولود على إثر مرض معد أصيبت به الأم أثناء عملها في المرفق، أو الضرر الذي أصاب الزوج نتيجة انتقال عدوى الإيدز إليه عن طريق زوجته التي أصيبت بهذه العدوى أثناء عملها في المرفق.
أما فيما يخص منتفعي المرافق العامة الطبية فقد ظل القضاء الإداري الفرنسي يرفض تطبيق نظرية المسئولية دون خطا تجاههم إلى أن صدر قرار محكمة الاستئناف الإدارية بـLyon في قضية Gomez سنة 1990، حيث أقرت المحكمة في هذا القرار المسئولية دون خطأ عن المخاطر الاستثنائية غير المعرفة الناشئة عن استخدام تقنيات علاجية جديدة.
بعد ذلك حقق مجلس الدولة الفرنسي تقدماً هاماً لصالح منتفعي المرافق العامة الطبية بإقراره مسئولية المرفق الطبي حتى مع غياب الخطأ عن المخاطر الاستثنائية المعروفة للأعمال الطبية والجراحية. وقد تم ذلك من خلال حكمه الصادر بتاريخ 9 إبريل 1993 في قضية Bianchi. غير أن التعويض عن الأضرار التي تصيب المرضى في هذه الحالة يعتبر في الواقع من اختصاص المشرع وليس القاضي، لأن مثل هذا التعويض يرتبط بتقنيات التضامن القومي أكثر من إعمال المسئولية دون خطأ. وبالفعل كان قضاء Bianchi دافعاً للمشرع الفرنسي للنص في قانون 4 مارس 2002 الخاص بحقوق المرضى وجودة النظام الصحي على إعمال التضامن القومي حيال ضحايا الحوادث الطبية في الحالة التي لا تنعقد فيها مسئولية المؤسسة الصحية لسبب ما.
وقد تابع مجلس الدولة بعد ذلك مسيرته المتعلقة بإعلان المسئولية دون خطأ لصالح منتفعي المرافق العامة الطبية من خلال إقراره المسئولية عن المخاطر الناشئة عن نقل الدم، ومن ثم المسئولية عن الأضرار الناجمة عن المنتجات والأجهزة الصحية المعيبة.
ويتضح مما سبق أن مسئولية المرفق العام الطبي تقوم على أساس الخطأ أو دون خطأ، وذلك وفقاً للقواعد العامة في المسئولية الإدارية.
غير أن المسئولية لا تتحقق في أي من هاتين الحالتين، وبالتالي لا يمكن الحصول على التعويض، إلا بتوافر أركان المسئولية الأخرى والمتمثلة في ركني الضرر وعلاقة السببية، فلابد أن يصدر عن المرفق الطبي ضرر يلحق بصاحب الشأن حتى يمكن الحكم بالتعويض، فالضرر إذنً عنصر أساسي ولازم للتعويض، غير أن هذا ليس معناه أن التعويض يتقرر عند حدوث ضرر مهما كانت درجته وحجمه، وإنما يجب توافر شروط معينة في الضرر الموجب للحكم بالتعويض، بالإضافة إلى ذلك فإن هناك أوجه عديدة للضرر يتعين التمييز بينها.
كما يلزم لانعقاد مسئولية المرفق الطبي أن تقوم علاقة سببية بين نشاط المرفق والضرر، إلا إن هذه العلاقة يمكن أن تنتفي مما يؤدي بالتالي إلى نفي المسئولية، وذلك عندما يكون الضرر ناجماً عن سبب أجنبي لا يد للمرفق فيه.
فإذا ما توافر لمسئولية المرفق الطبي موجبات قيامها – سواء كانت قائمة على أساس الخطأ أو دون خطأ – وقع على عاتق المرفق عبء الالتزام بتعويض الأضرار التي لحقت بالمضرور. فالتعويض هو الغاية الأساسية التي يسعى المضرور لتحقيقها لجبر ما أصابه من ضرر. غير أن التعويض يخضع لمبادئ عامة يجب مراعاتها ولقواعد تحكم تقديره، فضلاً عن وجوب المطالبة به خلال مدة محددة و إلا سقط بالتقادم.
[1]- عبد الرؤوف هاشم بسيوني، قرينة الخطأ في مجال المسؤولية الإدارية دراسة مقارنة، دار الفكر العربي، الإسكندرية، 2007، ص 10.
[2]- المحامي ميلاد سامي الأخطاء الطبية.. والمسؤولية القانونية للطبيب القبس – 8 نيسان 2007
[3]- فيصل عبد اللطيف الناصر، الخطــــأ الطبــــي: منظور تاريخي
[4]- عطيه عبدالله المحامى http://shabanlawyer.almountada.info/t332-topic
بقلم ذ عبد الحق دهبي
باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية
اترك تعليقاً