دور الهندسة الوراثية في الإثبات الجنائي
إعادة نشر بواسطة محاماة نت
دفعت تقنية الهندسة الوراثية كنجاح علمي باهر , حقق مكاسب منقطعة النظير في المجال الطبي، الفقهاء والباحثين في علم الاستقصاء الجنائي ومكافحة الجريمة، إلى طلب الاستفادة من مزاياها والاستعانة بالوسائل المتطورة التي توفرها في مجال الكشف عن الجريمة، لما تتمتع به من دقة في الكشف عن المجرمين وجلاء الغموض عن الكثير من الجرائم، حيث لم يعد الإثبات العلمي في هذا المجال قاصراً على فحص عينيات الدم أو مقارنة بصمات الأصابع، بل امتد إلى كل ما يفيد في الكشف عن الحقيقة أو في معرفة الملامح الشخصية للمجرم.
وهذا ما فرض وجود الشرطة العلمية كجزء لا يتجزأ من الضابطة العدلية في مجال الاستقصاء الجنائي، حيث يناط بها معاينة مسرح الجريمة والفحص الدقيق له بغية الكشف عن الآثار المادية التي تساعد في الوصول إلى معرفة هوية الجاني، واستخراج الأدلة التي تساعد في ثبوت الجرم.
وبفضل التطور التكنولوجي أصبح بإمكان الضابطة العدلية الوصول إلى الدليل العلمي القاطع على وجود المتهم بمكان الجريمة بمجرد ضبط جزء من خلاياه الحيوية في مسرح الجريمة، وذلك عند لمسه للمجني عليه أو أي مكان قريب، أو تركه مثلاً لشعراته أو أجزاء من أظافره أو شيئاً من لعابه أو قطرات من دمه، ويتم مقارنة هذه الآثار ومطابقة الحمض النووي الموجود فيها مع الحمض النووي للمتهم أو المشتبه به حيث يساعد في التعرف على الجاني.
ودفع هذا التطور العلمي دول العالم المتقدمة إلى الأخذ به. وقد أحدث في الجمهورية العربية السورية هيئة متخصصة بذلك تتبع وزارة الداخلية، ولديها التجهيزات والمعدات اللازمة والخبراء المتخصصين، وفق المعايير العالمية حرصاً من الدولة على مواكبة التقدم العلمي في هذا المجال. ولاحقاً أحدثت الهيئة العامة للطب الشرعي لتعنى بهذه الأمور.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن البحث في مشروعية الدليل الناتج عن البصمة الوراثية ومدى حجيته أمام القضاء، يعتبر من أهم الإشكاليات المعاصرة في مجال الحقوق الجزائية عامة، ومكافحة الجريمة خاصة؛ حيث يثور التساؤل عن كيفية تحقيق التوازن بين حق المتهم في حرمة جسده وحياته الخاصة، وعدم إنشاء دليل ضد نفسه، وبين حق المجتمع في حماية نفسه من الإجرام وإقامة العدالة والاقتصاص من المجرمين ومعاقبتهم من خلال الاستعانة بالبصمة الوراثية.
فما هو المقصود بالبصمة الوراثية وحجيتها في الإثبات الجنائي؟
تُعرّف البصمة الوراثية بأنها البنية الجينية التفصيلية التي تدل على هوية فرد بعينه وهي وسيلة تكاد لا تخطئ في التحقق من الشخصية. وتُعرّف عند رجال القانون بأنها معلومات تخص شخصاً ما، تميزه عن غيره؛ فهي وسيلة بيولوجية لتحديد شخصية الفرد. ومن الناحية العملية، يتم استخراج عينة من DNA من نسيج الجسم أو سوائله، حيث يتم قطع هذه العيّنة باستعمال إنزيم معين يسمى المقص الجيني على شكل مقاطع طولية ثم ترتب باستعمال التفريغ الكهربائي ثم تعرض على الأشعة السينية فتطبع على شكل خطوط داكنة اللون ومتوازنة.
وقد تم اكتشاف البصمة الوراثية سنة 1984 عندما نشر الدكتور “أليك جيفريز” عالم الوراثة في جامعة ليستر بلندن بحثاً أوضح فيه أنه بعد دراسته للحمض النووي، لاحظ بعض التتابعات المنتظمة والمحددة للحمض النووي، والتي لا تعرف إلا وضعية التكرار المنتظم. وبعد عام توصل إلى أن هذه التتابعات عبارة عن مناطق فرط التغاير بين الجينات الموجودة على سلم DNA، وهي تختلف في كل فرد عن غيره من حيث طولها وسماكتها وموقعها على السلم. ولا يمكن من الناحية الطبيعية وقوع تشابه بين اثنين إلا لتوأمين متطابقين. وسجل الدكتور “أليك جيفريز” براءته عام 1985 وأطلق عليها البصمة الوراثية تشبيهاً لها ببصمة الأصابع.
وبالنظر إلى النتائج الهائلة التي حققتها البصمة الوراثية اهتم الأطباء الشرعيون فيها واستخلصوا منها الكثير من الأدلة المادية التي ساعدت في كشف الجرائم والتعرف على الجناة، مما دفع الفقه إلى الاختلاف حول مصداقية البصمة ومشروعية الأخذ بها؛ فالبعض يرى أن النتائج التي تحققها في الإثبات تفوق 99,99%، وفي حالة النفي 100%، مما يقتضي الأخذ بها لأن احتمال تطابق الحمض النووي في شخصين غير وارد.. مما يجعلها قرينة نفي وإثبات قاطعة لا تقبل الشك، حيث أن نسبة الخطأ فيها تكاد تبلغ فرصة واحدة لكل 30 مليار من الحالات.
وهذا ما دفع المشرعين في الكثير من الدول إلى اعتبارها دليلاً قانونياً في الإثبات الجنائي. وإذا كانت الأدلة التقليدية قد تصل إلى احتمال ربط الجريمة بالمجرم، فإنه في حالة الاستعانة بالبصمة الوراثية يتم استخلاص الدليل بصورة علمية وقاطعة وحاسمة. وينسب الدليل في الجريمة إلى فرد واحد بعينه، وهذا الدليل لا يقبل التشكيك ويُفترض أن يكون مقنعاً للمحكمة، ويمكن الركون إليه في إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة؛ أما الدليل التقليدي فلا يوفر هذه الموثوقية والطمأنينة ولا يتمتع بذات الحجية والقوة الثبوتية للحمض النووي.
ولكي يتم اعتماد الدليل المستخرج من البصمة الوراثية كدليل إثبات قاطع في الدعوى، يتعين احترام الضوابط العلمية لعملية تحليل الحمض النووي، لأن قيمة اختبار الحمض النووي تعتمد على جودة طريقة البحث عن الدليل، والدقة في تفسير النتائج، وكفاءة الخبير، والتقنية المستخدمة في المخبر الذي يجري فيه التحليل.
وفي ذات الوقت لا بد من احترام الشرعية الإجرائية المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية لجهة الضبط والتفتيش والتحري وجمع الأدلة والإشراف القضائي على العملية برمتها من قبل النيابة العامة. ومخالفة ذلك تؤدي إلى بطلان الدليل وانعدامه حتى لو توصل إلى قيام العلاقة بين الجريمة والمجرم لاسيما وأن الدليل موضوع البحث، محل جدل بين الفقهاء بالنظر إلى الاشكاليات الدستورية والقانونية التي يتعارض معها، وهي حرمة الجسد والحق في الحياة الخاصة، وحق المتهم بعدم تقديم دليل ضد نفسه؛ لذلك أجمع الفقه على ضرورة الالتزام بالضوابط العلمية والإجرائية والإصرار على مراعاتها باعتبارها من الضمانات القانونية للمتهم في محاكمة عادلة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى تباين موقف القضاء والتشريع المقارن بصدد الأخذ بالبصمة الوراثية كدليل إثبات بين مرحب ومشكك؛ فالقضاء الأمريكي رحّب بالبصمة الوراثية ولاقى عنده القبول كدليل إثبات أو نفي للجريمة.
وأشهر واقعة بهذا الخصوص هي قضية الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مع مونيكا لوينسكي، حيث أجاز القضاء الأمريكي الاستعانة بالبصمة الوراثية في الاثبات، وعلى أثرها خضع الرئيس الأمريكي للاعتراف والإدانة. وفي انكلترا نجد أن قانون الشرطة، والدليل الجنائي لسنة 1984 تضمن إجراء الفحص الطبي الشرعي على عينات من شخص المتهم شرط موافقته الكتابية على ذلك، وفي حال رفض المتهم المثول لاختبار الحمض النووي يتم اخباره بأن هذا الرفض يعد بمثابة دليل ضده.
وكذلك التشريع الفرنسي يجيز استخدام تقنية البصمة الوراثية، ولكن بشرط وجود أمر قضائي في ذلك، وأن يتم التحليل في مخابر مختصة ولمرتين متتاليتين عملاً بالقانون الصادر عام 1994 والمعروف بقانون احترام الجسم البشري.
وفي مصر مازال القضاء فيها متردداً في الأخذ به في القضايا الجنائية ويرفض الأخذ به في قضايا النسب بتاتاً. أما القضاء السوري، فقد اعتبر البصمة الوراثية من قبيل الخبرة الطبية أو العلمية على المحكمة الأخذ بها طالما أن المتهم طلبها وأبدى استعداداً لدفع تكاليفها، وذلك حسب ما ورد في القرار الصادر عن الهيئة العامة لمحكمة النقض بالدعوى رقم أساس /752/ قرار /47/ لعام 2007.
وختاماً، لابد من القول أن البصمة الوراثية تعدّ دليلاً ينبغي التعامل معه كدليل حاسم في النزاع، وليس مجرد دليل متروك لتقدير قاضي الموضوع بالنظر لما يتمتع به من إمكانية اكتشاف الحقيقة وإزالة الغموض عن الجرائم المبهمة والغامضة التي يتعذر فيها الدليل التقليدي. وحبذا لو يعدّل المشرع قانون البيّنات وقانون أصول المحاكمات الجزائية، فيجيز الاعتماد على البصمة الوراثية بعد مراعاة الضوابط العلمية والإجرائية في استخراجها، وتعريف العاملين في مجال القضاء بأهمية هذا الدليل، والثقة التي يتمتع بها في مجال الإثبات، وزيادة عدد المخابر المختصة بذلك، وعدم الاقتصار على مخبر واحد في العاصمة يتبع وزارة الداخلية كما يقضي القانون رقم 17 لعام 2014.
اترك تعليقاً