مشروعية العقوبة وغايتها في الفقه الجنائي الوضعي
مشروعية العقوبة وغايتها في الفقه الجنائي الوضعي سلامة المجتمع والمحافظة على النظام العام فيه هو مبلغ التفكير عند علماء وفلاسفة القانون ورغم إتفاقهم على النتيجة المرجوة إلا أنهم إختلفوا في الوسائل التي بها تتحقق, فالجريمة تثير الفوضى وتخل بنظام المجتمع وأمنه فكيف يتم رد الأمور إلى مجراها العادي وإعادة الإطمئنان العام ؟ أيكون بالعقوبة ردعا للجاني ومن سيجري مجراه، أو بوسائل أخرى غير العقوبة مادامت ضررا لأحد أفراد المجتمع ، تلك هي تساؤلات وتأملات فلاسفة القانون الوضعي منذ القرون القديمة, وقد قدموا نظريات كثيرة حول أفضل السبل التي توصل إلى تحقيق أمن المجتمع مبرزين أساس العقوبة نظريا، ويمكن جمع هذه النظريات في أربع طوائف أساسية وهي : 1- النظريات المادية يرى أصحاب هذه النظريات أن العقاب ضروري للمحافظة على أمن المجتمع ويؤكدون على منفعة العقاب الإجتماعي وقد قدمت هذه النظريات على صورتين، فلسفية، وطبيعية .
أ ) الصورة الفلسفية : في هذه الصورة يكمن العلاج وفق آثار الجريمة التي هي ضرر يلحق بالمجتمع مما يستوجب العقاب للمتسبب فيه, ويكون بوسيلتين, أولهما الإصلاح إذا كان المعتدي له السيطرة على نفسه فلا يؤذى ولكن يلام لغرض إصلاحه . وأما إذا كان من المجرمين المعتادين الذين لا يرجى صلاحهم فلا بد من تسليط العقوبة عليه لغرض إرهابه، وعند تطبيق هذا الرأي فإن آثاره تتعدى العلاج إلى الوقاية العامة والخاصة .
فالعقوبة بهذا المفهوم تكون ردعية تخطر على بال كل من يفكر في الجريمة , إما عن طريق التصور العام في المجتمع حيث أن كل من إرتكب جريمة فهو محل العقوبة وإما عن طريق المشاهدة للمجرمين المعاقبين من قبله، إذا لم يتأثر بهذا كله فإنه يعاقب وجوبا بمجرد إتيانه فعلا محرما لا لغرض الإنتقام ولكن دائما لغرض الإصلاح وهذا الرأي الأخير أخذ به القانون الألماني والأمريكي في التربية داخل السجون .
ب ) الصورة الطبيعية : هذا الرأي يؤسس العقاب على فكرة المقاومة الطبيعية للأجسام الحية عند شعورها بخطر يهدد حياتها، وذهب أصحابه إلى أبعد من ذلك حيث أنكروا تسمية العقوبة لكون المجتمع كائنا حيا يدافع عن أمنه وسلامته بمجرد إحساسه بخطر يهدد كيانه، فهو يرد الإعتداء ولا وجود للعقاب أصلا . ورغم وضوح هذه النظرية إلا أنها إتخذت من التاريخ مفهوما عاما لعلاج الظاهرة الإجرامية وأسست أراءها على بديهيات ثابتة منها، المقاومة الطبيعية للأجساد الحية . ولإصلاح أو إرهاب مرتكبي الأفعال المحرمة، حيث لم تقدم حلولا ناجعة لكيفية العقاب وأصوله ومشروعيته ونوع المنفعة المرجوة من العقوبة . تلك هي عيوب هذه النظرية من حيث أرا ئها دون أن نذكر الواقع العلمي المعقد عند تطبيقها في كثير من الحالات .
2- النظريات الأدبية : يرى أصحابها أن أساس العقاب هو العدالة المطلقة، وأن كل عمل إجرامي يجب أن يقع تحت طائلة العقاب، فالذي يرتكب جريمة تامة يجب عقابه لأنه من العدل أن كل من أذنب يعاقب ويكفر عن ذنبه, وهذه النظرية تؤسس كل أفكارها على أساس التكفير، مما أدى إلى تسميتها بالمدرسة الدينية الحديثة، ومن أشهر علمائها الفيلسوف “ليسيان برين” الذي عرف حق العقاب بأنه :(( تفويض من القدرة الإلهية للعقاب على الشر )). وقد إنتقدت هذه النظريات سواء القديمة أو الحديثة من وجهتين : أولا / أنها أفكار ترجع إلى القرون الوسطى تحت أسماء مختلفة منها الإنتقام الإلهي ثم الإنتقام العمومي والتي كانت مؤسسة على الإستبداد والعقاب المشدد وتارة الوحشي . ثانيا / أن هذه الأفكار لم تأت بأساس للعقاب بالمعنى العلمي، ولم تبين أسباب العقاب ولا ضوابط العقوبة، بل ردت كل الأمور إلى العدالة المطلقة التي يملكها رجل الدين عند الغرب, فهو الذي يحق له تقرير العقاب دون أي ضابط قانوني ماعدا ما يعرف عندهم بالضابط الأدبي وهم يعنون به الإنتقام الإلهي بواسطة رجال الدين . ولهذه العيوب الظاهرة تركت هذه النظريات في كل القوانين الوضعية بعد الثورة الفرنسية وأصبح من العيب الإستدلال بها.
3 – النظريات العقدية : هذه النظريات مع إختلافها الشديد حول أساس العقاب إلا أنها تجعل الأساس العام له هو ضرورة الحفاظ على الحياة الإجتماعية للمجتمع وقد سمي بعض الفلاسفة هذه النظريات بالنظريات العقدية ومعناها وجود عقد إجتماعي بين أفراد المجتمع وحكامهم على العقاب عند مخالفة الأوامر القانونية, ومن هؤلاء الفلاسفة هوبز، وجان جاك روسو، وبيكاريا وغيرهم، غير أن هناك من رأى أن أساس العقاب هو رد الإعتداء على الفرد في الأصل إلى حماية الحياة الفردية ولكن هذا الفرد تنازل عن هذا الحق للسلطة بعقد إجتماعي للتدخل بدلا عنه، ومنهم من يرى أن توقيع العقوبة على المعتدي هو فطرة إنسانية فردية ولكن خول بدلا عنه هيئة إجتماعية تقوم مقامه, والفريق الأخير يرى أن المجتمع لايستطيع العيش بغير قوانين تنظمه تكون ضرورية للحياة الإجتماعية وبالتالي هي الأساس للعقاب . وهذه النظرية انتقدها كثير من العلماء لكونها تفترض وجود عقد إجتماعي بين أفراد المجتمع والهيئة الإجتماعية, غير أن الواقع بكذب هذا الأفتراض لكون الفرد خاضع لنظام الحياة الإجتماعية قهرا بدليل وجود هذا النظام قبل أي عقد يذكر في كل المجتمعات .
4 – النظريات المختلطة : هذه النظريات عبارة عن نتائج التحليل العلمي للنظريات السابقة, وهي تؤسس العقاب على مبدأ المسؤولية الأدبية الشاملة, وقد كتب عنها مؤلفون بارزون منهم روسي، ووارتولان، وموليقية، وهاوس، وغيرهم وأغلبهم يجعل أساس العقاب هو المنفعة العامة مما يستوجب فهم المسؤولية الأدبية فهما دقيقا وإعفاء كل من لا مسؤولية له من العقاب لكون المنفعة العامة معدومة, وذهب المفكر جارو إلي اعتبار المسؤولية كأساس للعقاب.
غير أن هذه المسؤولية عندهم أدبية كانت أم نظرية يجب أن تفهم من ثلاثة وجوه.
الوجه الأول : دراسة أفعال الإنسان ومعرفة هل هو مخير أو مسير إذ أنه لا يسأل إلا عن الأعمال التي يرتكبها بإرادته وحريته .
الوجه الثاني : دراسة نفسية لتحديد مسؤوليته الطبيعية أو العقلية، فبهذه الدراسة تعرف حالة مراكز أعصاب الإنسان التي تسيطر على الوظائف الفيزيولوجية، وبها يعرف عمله والحالة النفسية التي كان عليها أثناؤه، وهل كان عندها في ظروف عادية أم أن هناك عوامل نفسية تسببت في فقدان السيطرة على الوظائف الفيزيولوجية.
الوجه الثالث : التحقق من المسؤولية الأدبية والطبيعية, فالإنسان الذي يعيش في ظروف غير طبيعية لا تقوم مسؤوليته الأدبية لكونه مضطر إلى إرتكاب فعل مغاير لإرادته مثل المكره وكذلك المجنون الذي لا مسؤولية عليه مع وجوب إتخاذ تدابير في حقه، وكذلك حال الأطفال غير البالغين، وأما المسؤولية الطبيعية فيجب تحديد الأفعال المحرمة مع عقوبتها وفق الخطر المحتمل ضد المجتمع.
اترك تعليقاً