نظام الرهن العقاري
—
مراجعة قانونية للنظام
كثر في هذه الأيام الكلام بين الناس من جهة وفي الصحافة من جهة أخرى حول قرب صدور نظام الرهن العقاري.
وقد تناول الكثيرون مشروع النظام بالدراسة والتحليل، ولكن يكاد يكون الإجماع قد انعقد حول ما يمكن أن يكون لهذا النظام من أثر في سوق العقار في السعودية.
وقد بدأ الكثير من المواطنين يحلم بأن هذا النظام سيلبي طموحه في تأمين سكن خاص به يؤويه وأفراد أسرته.
ومن جانب المستثمرين في مجال العقار يتوقعون ازدهار سوق العقار بسبب الزيادة المتوقعة في الطلب على الوحدات السكنية، ومن جانب الممولين يتوقعون زيادة الطلب على تمويل شراء العقار وبخاصة المساكن. فكل ينظر إلى هذا النظام من منظور مصلحته الخاصة وما يمكن أن يكون له من أثر إيجابي من جهته.
ما يعنيني في هذا المقام مسألة تختلف تماماً عن المسائل التي تهم الآخرين، فبالنسبة لي فإن هذا النظام شكل خطوة جريئة من حكومة خادم الحرمين الشريفين باتجاه تقنين بعض المعاملات التي أضحت ضرورة ملحة في هذه الأيام، وذلك من أجل حماية أطراف المعاملات المدنية والتجارية المختلفة.
وعليه، ستكون دراستي لهذا النظام من منظور قانوني بحت ولن أتعرض لما يمكن أن يتركه صدور النظام من آثار اجتماعية أو اقتصادية في الدولة والمجتمع السعودي.
من المرور السريع على المواد التي يتكون منها مشروع النظام وعددها 49 مادة، يتبين لي أن هذا المشروع، مع تقديرنا له كخطوة جريئة باتجاه التقنين، قد وضع على عجل وكان الأولى التروي في وضع هذا النظام وإخضاعه لمزيد من الدراسة والتمحيص في جانبه القانوني من قبل لجنة مكونة من ذوي الخبرة في مجال الفقه والقانون بحيث تتوصل إلى صياغة قواعد النظام بشكل مكتمل واضح ومحكم في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية الغراء.
وضع النظام وإن جاء استجابة لظروف اجتماعية واقتصادية معينة، إلاّ أنه يجب أن ينظر إلى هذا النظام كقواعد تدعم استقرار المعاملات على المدى البعيد وليس لحل مشكلة آنية قائمة. فالنظام ابتداء كان يجب أن يكون نظاماً للرهن بشكل عام يتناول الرهن كحق عيني تابع بكل أقسامه وصوره.
وأن الرهن العقاري ما هو إلا صورة واحدة من نظام الرهن. فكان الأولى أن يوضع نظام يرسي قواعد عامة في الرهن ويتناول قسميه الرهن الرسمي (التأميني) والرهن الحيازي ويتناول صور كل منهما.
فمن هنا جاء النظام قاصراً على صورة واحدة من صور الرهن وإن كانت المادة 48 من المشروع تفيد غير ذلك، أي بشموله لكل صور الرهن التأميني. فإذا كان الحال كذلك وصدر النظام بصورته الحالية فإننا نتوقع فيما لو تغيرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية ونشأت الحاجة لتنظيم صور أخرى من الرهن أن تصدر أنظمة جديدة لتنظيمها مما سيؤدي إلى تعدد الأنظمة وتزاحمها وتعارض في بعض أحكامها أحيانا.
وعليه يكون النظام والحالة هذه استجابة لهذه الظروف الواقعية التي يكون لها تأثيرات موضوعية في قواعد النظام.
لكن ما نطمح إليه وبغض النظر عن الظروف الموضوعية التي أملت وضع هذا النظام أن تعمد المملكة إلى وضع تنظيم متكامل للرهن بكل أقسامه وصوره حيث يكون لهذا النظام دور إيجابي في توجيه الاقتصاد الوطني بما يعود بالفائدة على جميع القطاعات وبما يخدم المواطن باعتبار أن المجتمعات المعاصرة تعتمد على الائتمان والتمويل من قبل البنوك والمؤسسات المالية في جميع جوانب النشاط تقريباً.
فالمؤمل أن يكون للنظام دور فاعل في إحداث التغيرات المطلوبة في حياة المجتمع ولا يقتصر دوره على مجرد الانفعال والاستجابة التي قد تتأخر بعض الشيء بسبب طول إجراءات وضع القوانين والأنظمة وما يصاحب ذلك من تعقيدات.
فالظروف العامة في كل مجتمع تتهيأ بشكل معين في كل مرحلة من المراحل مما يقتضي التصدي لها مباشرة بأنظمة وقوانين تسخر هذه الظروف في خدمة المصالح وليس الانتظار لحين تولد بعض المعاملات ونشوء بعض المنازعات ومن ثم البدء في رحلة البحث عن حلول لها. فالتصدي للإرهاصات بوضع قوانين وأنظمة يشبه الإجراءات الوقائية في حين أن الاستجابة لتأثيراتها الواقعية هو بمثابة الإجراءات العلاجية وشتان بين الاثنين.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن الفقه الإسلامي بجميع مذاهبه قد تناول أحكام الرهن وأسهب فيها وتناول كل تطبيقاتها وآثارها وكل ما يلزم هنا هو الرجوع إلى هذه الأحكام وجمعها وتصنيفها وتبويبها.
ولعل الوقت ليس متأخراً لإبداء بعض الملاحظات على هذا النظام وتقديم بعض النصح حول بعض المسائل قبل أن تستكمل إجراءات وضعه.
فحبذا لو أن واضع مشروع النظام اطلع على ما وضع لتنظيم الرهن من قوانين وأنظمة في بعض الدول الشقيقة وأستكمل البنيان وأعلاه بدل أن يبدأ بوضع الأساس مرة أخرى.
فهناك تشريعات وضعت لتنظيم هذه المسألة وهي في الوقت ذاته استمدت الأحكام من الفقه الإسلامي الحنيف مثل القانون المدني الأردني والقوانين العربية الأخرى التي تأثرت به مثل قانون المعاملات المدنية في الإمارات والقانون المدني الكويتي وغيرها.
وتجنباً للإطالة فإنني سأعمد إلى إبداء بعض الملاحظات المهمة في هذا الشأن وتتلخص فيما يأتي:
أولاً: من الواضح أن واضع مشروع النظام قد أعتمد بشكل مباشر على أحكام الرهن التأميني الواردة في الباب الأول من الكتاب الرابع من القانون المدني الأردني المواد من 1322 وحتى 1371، إلاّ أنه لم يأخذها كما هي ولا أعرف لهذا سببا، فجاءت نصوص المشروع فيها كثير من العيوب في صياغتها وترتيبها وتقسيمها إلى مواد وفقرات. فحبذا لو التزم قدر الإمكان بتلك النصوص في ترتيبها وتفصيلها وعالج جوانب النقص فيها وطورها، لجاء المشروع أكثر دقة وإحكاماً.
ثانياً: أسلفنا أن الأولى كان وضع مشروع نظام متكامل للرهن والذي هو حق عيني تابع يتقرر بالاتفاق بين الدائن والمدين. حيث يضع المدين مالاً من أمواله تأميناً لحق هذا الدائن ينعدم الدائن بسببه على غيره من الدائنين التالين له في المرتبة في حدود ثمن هذا المال. كما أن الرهن يخول الدائن حق تتبع هذا المال وينفذه عليه حتى لو خرج من يد المدين الراهن. يتناول كل أقسام الرهن وصوره لاسيما أن الناس في حاجة ماسة لهذه الأحكام نظراً لشيوع أنواع كثيرة من المداينات والتمويل ومن أبرزها عقود البيع بالأجل أو بالأقساط والتي يطلب فيها البائع من المشتري تقديم ضمانات.
والرهن بهذا المعنى هو ضمانة إضافية لحق الدائن المرتهن، حيث يختص ويتقدم هذا الدائن على غيره من الدائنين التالين له في المرتبة في استيفاء دينه من ثمن هذا المال مع أن الرهن لا يخول الدائن تملك المال المرهون بل لا بد من الاستعانة بجهة القضاء وجهة التنفيذ لبيع هذا المال ومن ثم الوفاء من ثمنه بدين ذلك الدائن.
وينقسم الرهن إلى رهن تأميني أو ما يعرف بالرهن الرسمي والذي من صوره الرهن العقاري وهو الرهن الذي يقع على الأموال التي لها قيود وسجلات رسمية لدى الدولة كالعقارات والسيارات والسفن والطائرات وأية أموال أخرى لها سجلات رسمية. ويقصد من الرهن كضمانة لحق الدائن ما دام حق الدائن قد تعلق بهذا المال من أموال المدين حرمان المدين من التصرف في هذا المال أي إبقائه في ملك المدين.
الرهن تصرف قانوني أثره حرمان المدين من التصرف في المال المرهون حماية لحقوق الدائن يجري تسجيله في صحيفة المال. فلا تقبل الإدارة المعنية نقل ملكية هذه المال ما لم يوافق الدائن على ذلك. والدائن لن يوافق على خروج المال من ملك المدين إلاّ إذا استوفى حقه أو قدم المدين ضماناً بديلاً يقبله الدائن.
والنوع الثاني من الرهن هو الرهن الحيازي وبه تنتقل حيازة المال المرهون للدائن المرتهن ضماناً لحقه، أي تجريد المدين من الحيازة، وبالتالي حرمانه من التصرف فيه ما لم يستوف الدائن حقه أو يقدم المدين ضماناً آخر. وهذا النوع من الرهن يقع عادة على المنقولات غير المسجلة والتي تنتقل ملكيتها بالتسليم دون الحاجة إلى التسجيل. وقد جرت العادة على أن ترهن هذه الأموال ضماناً لحقوق الدائنين، كما أنه يمكن أن تساعد المدين في الحصول على التسهيلات المطلوبة لإصلاح بعض شؤونه لا سيما أن كثيراً من المنقولات مرتفعة القيمة
ثالثاً: إذا كان المقصود من هذا النظام هو وضع قواعد لرهن الأموال المسجلة من عقارات وغيرها فكان الأولى أن يسمى نظام الرهن الرسمي أو التأميني وليس نظام الرهن العقاري وذلك بحسبما جاء في المادة 48 من مشروع النظام والتي شملت كل الأموال التي لها سجل منتظم فلم يقصد واضع النظام قصره على الرهن العقاري فقط بل ليشمل كل الأموال المسجلة بدليل المادة 48 منه. ومن هنا نقترح أن يتبنى مشروع النظام عبارة المال المرهون بدالاً من العقار المرهون حيثما وردت في النظام.
رابعاً:هناك جملة من الملاحظات الشكلية والموضوعية على نصوص المشروع: من أهمها:
جاء في المادة الرابعة – الفقرة (أ) “يجب أن يكون العقار المرهون معيناً موجوداً أو محتمل الوجود مما يصح بيعه” من المعروف أن محل الحق العيني يجب أن يكون موجوداً لأن مقتضى الحق سلطة مباشرة لصاحبه على محله، فلا يتصور وجود السلطة على محل غير موجود أو محتمل الوجود. فالحق العيني ومنه الرهن لا ينشأ إلاّ بعد وجود محله وتعيينه حتى يتمكن صاحبه من الوصول إليه ومباشرة سلطاته عليه.
فيجب هنا شطب عبارة “أو محتمل الوجود”.
من المعروف أن العقارات القابلة للرهن هي العقارات المملوكة ويستوي في ذلك أن تكون مسجلة بالتسجيل التقليدي المعروف أي بصكوك الملكية العادية الصادرة عن كتابة العدل أو أن تكون مسجلة وفقاً لنظام التسجيل العيني، لأن الرهن في الحالتين هو عبارة عن قيد يسجل في صحيفة المال وعليه فإن الإدارة المعنية بإثبات الرهن وفكه هنا هي كتابة العدل التي أصدرت صك الملكية الأصلي وتقوم بتسجيل الرهن بالتهميش على الصك بما يفيد ذلك، وعليه لم يكن هناك داع للتمييز بين العقارت المسجلة وفقاً لنظام التسجيل العيني وغيرها من العقارات التي لا تخضع لهذا النظام. ومن هنا يجب أن يعاد النظر في صياغة المادة 11 والمادة 21 بفقرتيها. كما أن الفقرة “ب” من المادة 21 جاءت بحكم غريب حيث ألزمت الراهن “بالإفصاح عن أي حق عيني أصلي أو تبعي على العقار المرهون…”
من المعروف أن الحقوق العينية الناشئة على العقار والأموال المسجلة لا يحتج بها على الغير إلاّ بالتسجيل. ومن هنا فلا يعقل أن يكلف الراهن بالإفصاح عنها لأن هذا يفتح باب سوء النية لدى الراهن، كما أن الرهن المسجل يتقدم على غيره من الحقوق العينية غير المسجلة فلا حاجة للإفصاح عنها والحالة هذا.
من الملاحظ أن واضع المشروع خرج على كل قواعد الضمان المعروفة في الفقه الإسلامي وفقه القانون بأن جعل يد الحائز يد ضمان ومن المعروف أن الحائز هنا لا يضمن إلاّ إذا كان الهلاك أو النقص أو العيب بتعديه أو تقصيره. أنظر المادة (36) من المشروع.
خامساً: أقترح أن يصار إلى استبدال عبارة الرهن التأميني بعبارة الرهن العقاري حيثما وردت في المشروع نظراً للحاجة إلى تطبيق الرهن على الأموال المسجلة عموماً وليس العقار فقط.
سادساً: من الملاحظ على المادة الخامسة من المشروع أنها أجازت الاتفاق على استثناء ملحقات العقار من أبنية وغراس وما أعد لخدمته من نطاق الرهن وفي هذا تقليل من الضمان الذي يتمتع به الدائن بموجب الرهن. فهذا الحكم يتعارض مع القاعدة المعروفة “التابع تابع” ويتعارض كذلك مع نص المادة العاشرة من المشروع نفسه التي أرست قاعدة أن الرهن لا يتجزأ. فالمال المرهون بكل ما يلحق به وما أعد لخدمته من أموال مملوكة للمدين والتي ينطبق عليها وصف العقار بالتخصيص يعتبر كلاً لا يتجزأ وهذا يعزز ضمان الدائن.
سابعاً:جاء في المادة 11 من المشروع كذلك وضع غريب بحيث فرق بين العقار المسجل وفقاً لأحكام نظام التسجيل العيني فأجاز التصرف به مثقلاً بالرهن وبين العقار المسجل بالطريقة التقليدية فمنع المدين الراهن من التصرف فيه. مع أن المسلم به كما أشرنا في البند (2) من الفقرة رابعاً أعلاه أنه لا فرق بين النوعين من التسجيل هذا من جانب ومن جانب آخر فإن ذلك سيؤدي إلى حرمان ملاك العقارات المسجلة بالطريق التقليدي التمتع بمزايا نظام الرهن.
ثامناً:أما من حيث الملاحظات الشكلية فهي كثيرة جداً ولذا فإنني أنصح بإعادة صياغة مواد المشروع وإعادة تنظيمها وتقسيمها وتفصيلها إلى مواد وفقرات في ضوء قواعد الرهن التأميني الواردة في القانون المدني الأردني والتي أخذ بها واضع مشروع النظام. فيبدأ بأحكام إنشاء الرهن في فصل أول ثم في آثار الرهن في فصل ثان وتقسيم هذه الآثار إلى مجموعتين أولاها بين الراهن والمرتهن ويتناول أثره بالنسبة للراهن ثم بالنسبة للمرتهن وثانيها آثار الرهن بالنسبة إلى الغير ويتناول فيها حق التقدم وحق التتبع ثم يتناول أخيراً انقضاء الرهن في فصل ثالث.
ولعل أهم ما جاء في مشروع النظام بعد إرساء نظام الرهن هو حماية المدين وهو الطرف الضعيف في الغالب من عسف الدائن الذي هو في الغالب أحد البنوك أو مؤسسات التمويل في الوقت الذي يحمي فيه حقوق الدائن.
إضافة إلى أن النظام منع الدائن المرتهن من تملك المال المرهون وبذلك فقد أغلق الباب أمام البنوك ومؤسسات التمويل من التحايل على النظام واستخدامه كذريعة لتملك العقار بما قد يؤدي إلى تضخم في أسعار بيع العقار في المملكة وبالتالي يؤدي إلى حرمان المواطن العادي من تملك مسكن خاص به.
ومما يحسب للمشروع أنه تناول آثار الرهن بالنسبة لكل من المدين الراهن والدائن المرتهن كما أبرز وبشكل معقول آثاره بالنسبة إلى الغير وأورد كذلك حالات انقضاء الرهن وتعرض أيضاً لحالات عودته بعد انقضائه.
إلاّ أنه كما أسلفت في حاجة إلى إعادة صياغة وترتيب حتى تكون الأحكام أكثر وضوحاً، حيث يستطيع عامة الناس الوقوف عليها بيسر. إذ إن المقصود من النظام هو مصلحة هؤلاء الناس، ولا يقصد به مخاطبة ذوي الاختصاص من رجال القضاء والمحاماة والفقه والقانون دون عامة الناس.
اترك تعليقاً