التعبير عن الإرادة في العقد الإلكتروني.
الأصل الذي جاءت به المادة 60 من القانون المدني فيما يخص كيفية تعبير المتعاقدين عن إرادتيهما أن يتم باللفظ أو الكتابة أو بالإشارة المتداولة عرفا أو باتخاذ موقف لا يدع أي شك في دلالته على مقصود صاحبه، فحسب هذا النص يصح أن يكون التعبير عن الإرادة صريحا، كما يمكن أن يكون ضمنيا، سواء كان ذلك إيجابا من أحد المتعاقدين أو قبولا من المتعاقد الآخر.
ووضعت المادة 68 فقرة 2 منه، استثناء على هذه القاعدة بنصها على إمكانية أن يكون السكوت الملابس وسيلة للتعبير عن القبول.
إلا أن ظهور الوسائل الجديدة للتعبير عن الإرادة جعلت التساؤلات تطرح في الآونة الأخيرة حول مشروعيتها في إبرام العقود، وهذا ما يلزم التطرق أولا إلى الصور الجديدة للتعبير عن الإرادة، ثم دراسة مدى مشروعية هذه الوسائل في إبرام العقود ثانيا.
الفرع الأول: صور التعبير عن الإرادة في العقد الإلكتروني.
سيتم التطرق في هذا الفرع إلى صور الإرادة في العقود التي تبرم عن طريق الأنترنيت بالنظر لأهميتها وانتشارها الكبير أولا، ثم بعد ذلك إلى تبيان صور التعبير عن الإرادة بالوسائل الأخرى (التيلكس والفاكس ).
فقرة أولى: صور التعبير عن الإرادة في العقود المبرمة عن طريق الأنترنيت. تنقسم هذه الصور إلى ثلاث فئات، هي التعبير عن الإرادة بواسطة البريد الإلكتروني، وعبر شبكة المواقع وأخيرا عبر المحادثة والمشاهدة.
أولا: التعبير عن الإرادة عبر البريد الإلكتروني.E-mail .
لقد أصبح بالامكان استخدام تقنية البريد الإلكتروني من التعبير عن الإرادة، وتعرف خدمة البريد الإلكتروني بأنها استخدام شبكة الأنترنيت كمكتب للبريد، بحيث يستطيع مستخدم الأنترنيت بواسطتها إرسال الرسائل المعبرة عن إرادته في إبرام العقد إلى أي شخص له بريد إلكتروني، كما يمكن أيضا تلقي الرسائل المعبرة عن إرادة من أي مستخدم آخر للأنترنيت، ولا يستغرق إرسال الرسالة واستقبالها سوى بضعة ثواني، وتتم هذه الخدمة مجانا، و يشترط في الشخص الذي يريد التعاقد بهذه الوسيلة أن يكون لديه برنامج للبريد الإلكتروني يدرج ضمن البرامج التي يحتويها جهاز الكمبيوتر الخاص به، وأن يتبع بعض الخطوات اللازمة لكي يصبح متمتعا بهذه الخدمة، وتتم هذه العملية بكتابة عنوان المرسل إليه في الخانة المخصصة لذلك ثم كتابة موضوع الرسالة ثم الضغط على أمر الإرسال، وبذلك تكون الرسالة قد أدرجت تحت عنوان المرسل إليه على الشبكة، ولكي يتمكن هذا الأخير من مطالعتها فما عليه سوى استعمال برنامج بريده الإلكتروني، ويصدر أمرا بتحميل الرسالة على صندوق بريده الإلكتروني الوارد، وهنا سوف يجد جميع الرسائل التي وردت إليه في هذا الصندوق، ويسمح البرنامج المستخدم عادة بإيجاد قائمة بالرسائل تتضمن بيانا بالمرسلين مع التمييز بين الرسائل التي سبق مطالعتها وتلك التي لم يطلع عليها المرسل إليه بعد، ولقراءة أية رسالة ينبغي الضغط على موضوعها في القائمة المذكورة لتظهر للمرسل إليه على شاشة جهاز حاسوبه.
وبذلك يستطيع نظام البريد الإلكتروني التواصل بين شخصين تفصل بينهما آلاف الكيلومترات دون أن يلتقيا فعليا وشخصيا، كما يستطيع المرسل، إرسال تعبيره عن الإرادة في آن واحد إلى عشرات الأشخاص في دول مختلفة، وذلك باستخدام برنامج معين، وبهذه الصفات يكون البريد الإلكتروني، سوى اقتراب كبير من جهاز التيلكس، الذي يكون الإتصال فيه والردبواسطة الكتابة و في وقت متقارب جدا
ثانيا: التعبير عن الإرادة عبر شبكة المواقع Web.
تعتبر خدمة الويب، أو ما يعرف بشبكة المعلومات العالمية هي الخدمة التي يمكن من خلالها زيارة مختلف المواقع على شبكة الأنترنيت، وتصفح ما فيها من صفحات من أجل الوصول إلى معلومات معينة ومن أجل إبرام عقد مع أحد التجار الذي يعرض منتوجاته عليها.
ويقصد به كل مكان يمكن زيارته على شبكة المعلومات web site إن أهم المصطلحات التي تقابلنا هو العالمية، التي تحتوي الملايين منها، لكل من هذه المواقع عنوان خاص يشار إليه بأحرف الإختصار الذي يقوم مقام العنوان العادي أو رقم الهاتف، وتتميز هذه العناوين بالثبات والإستمرارية على مدار الساعة، ولكي نتمكن من زيارة أحد هذه المواقع فما يكون علينا سوى تحرير هذا العنوان، للدخول على هذا الموقع، وبعد ذلك تظهر الصفحة الرئيسية للموقع، التي يمكن من خلالها الوصول إلى الصفحات الأخرى التي يتضمنها الموقع والتي يرغب الزائر في الحصول على معلومات منها أو التعاقد حول مختلف السلع والخدمات المعروضة عليها.
ويتم التعبير عن الإيجاب أو القبول في الموقع بالكتابة، وببعض الإشارات والرموز التي أصبحت متعارفا عليها عن طريق هذه الشبكة، فهناك إشارات تدل على الرضا (وجه مبتسم) وهناك إشارات تدل على الرفض (وجه غاضب) وهذه الإشارات لا تخرج عن معناها التقليدي سوى أنها إشارات صادرة عن جهاز كمبيوتر ولكنها تعبر عن إرادة الموجب له وليس عن إرادة الكمبيوتر لأنه أداة صماء، كما أن التعبير عن الإرادة عبر شبكة المواقع يمكن أن يمتد ليشمل المبادلة الفعلية الدالة على التراضي وذلك بأن يعرض الموجب له تقديم استشارة قانونية مثلا، فيقوم الموجب له بإعطاء رقم بطاقة الإئتمان العائدة له فيتم خصم قيمة الخدمة من رصيده فورا، فيتم نقل الأموال إلكترونيا بين المصارف بشرط وجود بطاقة للزبون ورقمه السري.
ثالثا: التعبير عن الإرادة عبر وسائل المحادثة والمشاهدة المباشرة.
الحديث عبر شبكة الأنترنيت يمكن أن يكون عبارة عن تبادل رسائل مقسمة على الشاشة حسب عدد الأشخاص، كما قد يتضمن تبادلا مباشرا للكلام، وقد يتطور حسب برنامج ووجود كاميرات فيديو، فيصبح حديثا بالمشاهدة الكاملة.
ونلاحظ هنا أن التعبير يمكن أن يكون بالكتابة أو الكلام المباشر أو بالإشارة أو بالمبادلة عن طريق بطاقات الإئتمان، وكما يكون تعبيرا صريحا أو يمكن أن يكون ضمنيا، ونلاحظ أنه يمكن أن نكون أمام مجلس عقد إفتراضي على أساس أن المتعاقدين يشاهدون ويسمعون بعضهم البعض مباشرة إلا إذا كان السكوت على الشاشة لفائدة من وجه إليه الإيجاب أو كان هناك تعامل سابق بين الطرفين إتصل الإيجاب بهذا التعامل، ويظهر ذلك خاصة في العلاقة التي تجمع البنوك مع زبائنها عبر شبكة الأنترنيت.
الفقرة الثانية: صور التعبير عن الإرادة في العقود التي تبرم بالوسائل الإلكترونية الأخرى.
نقتصر في هذه الدراسة على وسيلتين من الوسائل التعاقد الإلكتروني وهما التيلكس والفاكس.
أولا: التعبير عن الإرادة بواسطة التيلكس.
يعتبر التيلكس جهازا لإرسال المعلومات بطريقة طباعتها وإرسالها مباشرة، وعدم وجود فارق زمني بين المرسل والمستقبل إلا إذا تم الإرسال ولم يكن هناك من يرد في نفس الوقت، وبذلك يقترب من التعاقد عن طريق الأنترنيت في أنه يمكن أن يكون فوريا دون حاجة لمرور فاصل زمني بين الإيجاب والقبول، ويكون التعبير عن الإرادة عبر التيلكس بالكتابة، دون غيرها من وسائل الإتصال الفوري.
ثانيا: التعبير عن الإرادة بواسطة الفاكس.
هو عبارة عن جهاز استنساخ بالهاتف يمكن به نقل الرسائل والمستندات المخطوطة باليد والمطبوعة بكامل محتوياتها نقلا مطابقا لأصلها، فتظهر المستندات والرسائل على جهاز فاكس آخر لدى المستقبل، ويلاحظ هنا الفارق الزمني للرد على المرسل ، ويتميز هذا الجهاز بالسرعة وضمان وصول الرسائل والمستندات وسهولة الإستعمال.
ويمكن أن يكون التعاقد عبر الأنترنيت مطابقا للتعاقد عبر الفاكس إذا كان إرسال المستندات عن طريق جهاز الكمبيوتر، و يكمن الفرق بين الأنترنيت عن الفاكس في أن التعبير عن الإرادة يكون في الأول فوريا ومباشرا دون الحاجة إلى فاصل زمني بين الإيجاب والقبول، إضافة إلى أن التعبير عنها يكون بكل الوسائل الصريحة والضمنية، أما في الفاكس فلا يكون إلا بالكتابة ماعدا حالات وصل جهاز الهاتف مع الفاكس بجهاز واحد، حيث يمكن التعبير في هذه الحالة الأخيرة بالكلام أو بالكتابة.
الفرع الثاني: مشروعية الوسائل الإلكترونية الحديثة في التعبير عن الإرادة.
إن استغلال وسائل تقنية المعلومات المذكورة للتعبير عن الإرادة في إبرام العقود و مختلف التصرفات القانونية بين شخصين غائبين مكانا، تثير العديد من التساؤلات حول مدى اعتراف القانون المدني بهذه الوسائل الجديدة للتعبير عن الإيجاب والقبول وبناء عناصر التعاقد 48 ، الشيء الذي جعل الفقه ينقسم في الدول التي مازالت تعتمد نفس النظم التقليدية في التعبير عن الإرادة إلى رأيين أولهما يقر بمشروعية هذه الوسائل في التعبير عن الإرادة والثاني يرفض ذلك، وسيتم التعرض إلى هذين الرأيين فيما يلي :
الفقرة الأولى: القائلون بمشروعية الوسائل الإلكترونية للتعبير عن الإرادة.
يعتقد أصحاب هذا الرأي أنه رغم أن القانون المدني لا يتضمن نصوصا صريحة بشأن التعبير عن الإرادة بالوسائل الإلكترونية الحديثة، فإن مشروعية التعاقد هذه يمكن استخلاصها من القواعد العامة الواردة في القانون المدني ومنها:
-1 الأصل في التعاقد حرية التراضي وفقا لما يقتضيه مبدأ سلطان الإرادة 50 الذي كرسته المادة 60 من القانون المدني التي تعطي المتعاقدين الحرية الكاملة في اختيار الكيفية التي يعبران بها عن إرادتهما، ولا مانع من امتداد هذه الحرية للتعبير عن الإرادة بالوسائل الإلكترونية.
-2 بما انه أصبح للكتابة في الشكل الإلكتروني والتوقيع الإلكتروني مكانا ضمن قواعد الإثبات في القانون المدني، من خلال نصي المادتين 323 مكرر 1 و 327 فقرة 2، فالأولى أن تجد لها موقعا في انعقاد العقد.
-3 نص المادة 64 من القانون المدني التي تقضي بأنه: ” إذا صدر الإيجاب في مجلس العقد لشخص حاضر دون تحديد أجل القبول فإن الموجب يتحلل من إيجابه إذا لم يصدر الإيجاب فورا، وكذلك إذا صدر الإيجاب من شخص إلى آخر بطريق الهاتف أو بأي طريق مماثل”، فاستنادا إلى هذه المادة فعبارة “بأي طريق مماثل” تشير إلى أية وسيلة تقترب فنيا من الهاتف، ولذا فإن النص يمتد ليشمل التعاقد بالوسائل الإلكترونية خاصة منها الأنترنيت كون الإتصال على هذه الشبكة يمكن أن يتحول إلى هاتف عادي عبر المحادثة الشفهية، وإن الطرق الإلكترونية الأخرى للتعبير عن الإرادة كالبريد الإلكتروني أو الفاكس تشبه أيضا الطرق التقليدية للتعاقد مثل المراسلة.
إضافة إلى ما سبق ، فإن الفقرة الأخيرة من المادة 60 التي تنص بأنه يجوز : “أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم ينص القانون أو يتفق الطرفان على أن يكون صريحا “.
تفتح هذه الفقرة المجال لأساليب التعاقد الإلكتروني، حيث أن قيام أي فرد بعرض موقع دائم وثابت له على شبكة الأنترنيت يعني أن يقصد اتخاذ مسلك وطريق يشير ويعلن فيه إلى الناس عن نية التعاقد عن طريق موقعه، وشبكة الأنترنيت تعرض على مدار الساعة عن الإعلانات ووسائل البيع والشراء والتقديم للوظائف والخدمات، وذلك إشارة صريحة باتخاذ مسلك مباشر لا لبس فيه على التعاقد.
الفقرة الثانية: الرافضون لمشروعية الوسائل الإلكترونية كأداة للتعبير عن الإرادة.
خلافا للرأي السابق المؤيد لمشروعية الوسائل الإلكترونية الحديثة للتعبير عن الإرادة، فإن هذا الإتجاه يرفض الإعتراف بمشروعية هذه الوسائل للتعبير عن الإرادة وتبريرا لموفقه يقدم الحجج التالية:
-1 إن القانون المدني بأحكامه الحالية لا ينص صراحة على استعمال الوسائل الإلكترونية كأدوات للتعبير عن الإرادة ولا يجب تفسير نصوصه، خاصة منها المادة 64 فقرة 2 المتعلقة بالتعاقد عبر الهاتف أو أية وسيلة متشابهة تفسيرا واسعا يشمل الصور الإلكترونية الحديثة للتعبير عن الإرادة، فلو أراد المشرع اعتمادها لنص عليها صراحة كما فعلت التشريعات المقارنة.
-2 إن استعمال الوسائل الإلكترونية للتعبير عن الإرادة لا يخلو من المخاطر، كون هذه الوسائل لا تسمح من توثق كل طرف من أطراف العلاقة العقدية من وجود وصفة الطرف الآخر بمعنى عدم توثق كل طرف من أن يخاطبه الشخص الذي رضا التعاقد معه فعلا، وهذا ناجم عن طبيعة هذه الوسائل التي يتميز فلا أحد يضمن لمستخدم شبكة ، virtuel et dématérialisé التعاقد من خلالها بالإفتراضية واللامادية الانترنيت بأن ما وصله من معلومات إنما جاءت من هذا الموقع، ولا أحد يضمن له أيضا حقيقة الموقع ووجوده على الشبكة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار تنامي عمليات اختراق المواقع وإساءة استعمال أسماء الغير في الأنشطة الجرمية.
-3 إعتداد القانون المدني في مادته 323 مكرر 1 بالكتابة في الشكل الإلكتروني في الإثبات لا يعني أنه يقر بها كوسيلة للتعبير عن إرادة المتعاقدين، فهي خاصة فقط بالإثبات لا غير، فكتابة بنود عقد على دعامة إلكترونية وحفظ نسخة منه لا يعني بالضرورة أن المشرع قد أعطي الشرعية لهذه الوسائل للتعبير عن الإرادة.
رغم قوة حجج الرأي الأول الذي يؤيد قبول القانون المدني بصيغته الحالية للوسائل الإلكترونية كأدوات للتعبير عن الإرادة إستنادا للقواعد العامة لإبرام العقود خاصة منها مبدأ الرضائية، إلا أنه يبقى عدم الإعتراف الصريح لهذا القانون لشرعية هذا النمط للتعبير عن الإرادة من ناحية، وعدم تنظيمه بالشكل الكافي من ناحية أخرى، يتسبب في عدم حماية المتعاقدين حماية كافية من مخاطر التعاقد بهذه الوسائل، إضافة إلى إعاقة التجارة الإلكترونية في بلادنا.
الدول الأعضاء للاعتراف ” CNUDCI ” ولتفادي ذلك حث القانون النموذجي للتجارة الإلكترونية الصريح في قوانينها على قبول الوسائل الإلكترونية ( رسائل البيانات ) في التعبير عن الإرادة وتنظيمها، إذ نصت المادة 11 منه على أنه: ” في سياق تكوين العقود، وما لم يتفق الطرفان على غير ذلك، يجوز استخدام رسائل البيانات عن العرض وقبول العرض.
وعند استخدام رسالة بيانات في تكوين عقد، لا يفقد ذلك العقد صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد استخدام رسالة بيانات لذلك الغرض”.
وأضافت المادة 12 على أنه: ” في العلاقة بين منشأ رسالة البيانات والمرسل إليه، لا يفقد التعبير عن الإرادة أو غيره من أوجه التعبير مفعوله او صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد انه على شكل رسالة بيانات”.
وتطبيقا لذلك فقد اعترفت التشريعات المتطورة صراحة بقبول رسالة البيانات للتعبير عن الإرادة ونظمتها لتضاف للصور التقليدية المعروفة.
اترك تعليقاً