تدخل القضاء
القصور في التشريع ظاهرة حتمية حتى في ظل الظروف الطبيعية للمجتمع ، لان وقائع الحياة بما تتضمنه من حركة وحيوية ونزوع دائم نحو التطور ليست امرأ جامداً او ثابتاً على حال حتى يمكن ان يحتويها نص قانوني ، وهذا هو معنى القول الشائع ان دوام الحال من المحال، فضلا ان تطلعات الإنسان المتجددة والتقدم العلمي الهائل والمستمر بما يثيره من مسائل ونزاعات قانونية وحقوق ، لا يمكن ان يقفا عند حد معين ،ولا يمكن للمشرع مهما كان حصيفاُ وحريصاً ان يتنبأ بها الا على سبيل الافتراض ، والافتراض قاصر ومحدود ونسبي ، ولما كان التشريع بحكم صياغته ما هو الا معنى يفرغ في لفظ معين ، فقصوره بالنسبة للمستقبل أمر لا مفر منه لان المعنى متى حبس في اللفظ ، قعد به الجمود عن ملاحقة ما يجد من الوقائع اللامتناهية ، والتطور سنة دائمة لا مفر من التسليم بحكمها . فتكون محاولة البحث والتقصي عن حلول للمسائل المتجددة في التشريع القائم امراً عصياً او حتى مستحيلاً، فتكون حلوله غير ملائمة او غير عادلة.(5)
وقد ابتكر القضاء عبر التاريخ حلول متنوعة لمعالجة القصور التشريعي منها اللجوء الى الحيلة القانونية او اللجوء الى قواعد القانون الطبيعي او قواعد العدالة.
ويتدخل القضاء لمعالجة القصور في التشريع تحت ستار الاجتهاد في التفسير.
والاجتهاد لغة: بذل الجهد لإدراك أمر شاق. واصطلاحاً: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي.
واجتهاد الرأي يكون على الأغلب في حالتين:
الأولى عدم وجود نص يحكم حالة او واقعة معينة لانه ( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص). والثانية هي حالة وجود النص ، ولكنه نص غامض تتسع عباراته لمعاني ودلالات مختلفة ويختلف الفقهاء في تفسيره كل حسب اجتهاده وتتبع في مثل هذه الحالة قواعد التفسير.
ومثال هذه الحالة الاختلاف في تفسير قوله تعالى ( وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ وَلاَ يَحِلّ لَهُنّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِيَ أَرْحَامِهِنّ ) (6)، فرغم وجود النص فقد اختلف الفقهاء في المقصود من (القرء) وهل هو الحيض ام الطهر.
فقد يرى القاضي وهو ينظر في نزاع عرض عليه ان النصوص القانونية القائمة لا تتلائم مع الظروف الاجتماعية السائدة وفي مثل هذه الأحوال يمكن للقاضي ان يلجأ الى حلول متنوعة بان يتوسع مثلا في مدلول معيار الغاية بان يعطي للنص تفسيراً متطورا ً من خلال التوسع في المعنى الجوهري للنص القانوني القائم فإذا تعذر إدراك قصد المشرع بصورة ظاهرة امكن البحث عنه في المبدأ العام للقانون وروح الشريعة التي استمد منها القانون عموم أحكامه او بالاستعانة بأحد المبادئ التي استقرت في الضمير القانوني الإنساني بصورة عامة او ما استقر علية الفقه من اراء بالتأمل في روح النظام الاجتماعي ، وإذا تعذر رغم ما تقدم من وسائل ايجاد حل للحالة فان القاضي يستطيع الاستناد الى وجهات نظر لاتزال غير محدودة وغير ملزمة بصورة عامة الا انها اعتبرت خلال فترة من الزمن أسانيد قانونية انسلخت على الأغلب من الأفكار النامية للمبادئ القانونية او من طبيعة الأمور ذلك ان القاضي ملزم بإيجاد حكم لكل حالة معروضة علية وبخلافه يعتبر منكراً للعدالة .
وفي كل هذه الأحوال ينبغي على القاضي ان يبقى في نطاق المبادئ والغايـــات التي يقوم عليها النظام القانوني عند تقدير ملائمة الحلول للحالة المعروضة عليه فلا يأتي بحلول شاذة او غريبة عن مجتمعه ومعياره في ذلك هو معيار النظام العام والآداب السائد في مجتمعه مستلهماً روح النظام القانوني والغايات الاجتماعية النبيلة ،دون ان يستند الى أفكاره ومعتقداته الشخصية.(7)
تأثر المشرع العراقي بالاتجاهات الحديثة في تفسير القانون ومنها اراء المدرسة التاريخية التي أنشأها الألمانيان سافيني وفيخته،التي ترى ان التشريع يستقل عن المشرع ويعيش حياته المستقلة في الجماعة ذاتها ويخضع في تفسيره لكل التطورات التي تحدث داخل الجماعة، وكما يوضح الأستاذ السنهوري رحمه الله، إن القانون هو نبت البيئة وغرس الأجيال المتعاقبة يتطور من مرحلة الى أخرى ويتخطى أعناق القرون يسلمه الاباء للأبناء والأبناء للأحفاد وهو في كل مرحلة يصطبغ بصبغتها وينضح بلونها. (8)
وعلى هذا النحو نصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على انه ( لا ينكر تغير الاحكام بتغير الأزمان )
كما اخذ المشرع العراقي بالتفسير الموسع المتطور للقانون في المواد ( 1 ، 2 ، 3 ) من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 .
حيث نصت المادة (3) منه على انه ( الزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه )، ولاشك في ان ما قرره المشرع في هذا المقام هو قاعدة عامة تسري على كل فروع القانون العام والخاص ، ما لم يتعارض ذلك مع طبيعة القانون ،إلا ان تطبيق هاتين المادتين محدود للغاية على خلاف إرادة المشرع العراقي ولا يزال التمسك بحرفية النصوص هو السائد. رغم ان القضاء الفرنسي والقضاء المصري قد اخذا منذ أمد بعيد بالتفسير المتطور للقانون دون ان يسعفهم في ذلك المشرع بنص صريح كما هو حال المشرع العراقي الذي نص على إلزامية التفسير المتطور للقانون.
ومن اشهر القائلين بالتفسير المتطور للقانون الفقيه الفرنسي سالي الذي لخص مذهبه في عبارة شهيرة ( الى ما وراء القانون المدني ولكن عن طريق القانون المدني ) أي ان التفسير يبدأ من النصوص ولكن دون ان تكون قيوداً ابدية على ارادة المفسر بل عليه ان يتخطاها اذا اقتضت ذلك حاجات المجتمع وسنة التطور. (9)
وهناك امثلة كثيرة عن اجتهادات المحاكم التي استقرت وأصبحت كالقاعدة القانونية سواء بسواء ، وهي تغطي مجالات واسعة من النظام القانوني ، فنظرية تحمل التبعة ومبدأ التعسف في استعمال الحق والإثراء دون سبب ونظرية الظروف الطارئة وإقرار حقوق الملكية الأدبية والفنية والصناعية ، وغيرها بدأت كأجتهاد فقهي او قضائي وبعد استقرارها تبنتها التشريعات المختلفة.
اترك تعليقاً