تطور مركز الفرد في القانون الدولي
يعد موضوع الفرد وعلاقته بالقانون الدولي العام، من المواضيع التي استأثرت باهتمام فقهاء القانون الدولي العام، منذ أوائل القرن العشرين،وإن كانت الإرهاصات الأولى قد بدأت في القرن التاسع عشر عبر الاهتمام بالأقليات والحماية الدبلوماسية وتحريم الرق ومركز الأجانب ومحاربة المخدرات والأمراض والأوبئة ويشغل موضوع الفرد في القانون الدولي بال العديد من الفقهاء في القانون الدولي، نظرا لتطور ونشعب موضوعات وأشخاص القانون الدولي، فلم تعد الدولة هي الشخص الرئيسي للقانون الدولي، بل ظهر أشخاص دوليون أفرزتهم التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عرفها المجتمع الدولي والحياة الدولية .
لقد كانت القاعدة السائدة في مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية، وحتى بداية القرن 20 تقوم على أن الدولة(والدولة وحدها) هي التي يمكن لها أن تكون مخاطبة بأحكام القانون الدولي العام، وبالتالي فإن للدول فقط حق التمتع بالشخصية القانونية الدولية، وفي المقابل، فلم تكن لغير الدولة(بما في ذلك الفرد) أي فاعلية تذكر في نطاق اهتمامات العلاقات القانونية الدولية (مباشرة)، وكانت النتيجة، أن الفرد – الطبيعي لم يكن لينظر إليه باهتمام يذكر، من زاوية القانون الدولي العام، إلا أن مسارات التفاعلات الإنسانية فيما بين الوحدات الاجتماعية- السياسية(الشعوب، الأمم، الدول) وتحديدا بعد أحداث جسام(الحروب،الثورات الاجتماعية،الثورات التقنية) قد هيأت لمتغيرات بنيوية طالت الأفكار، والأنساق والفاعلين، وبما أثر على طبيعة ومضمون القواعد القانونية الحاكمة للمركز القانوني للفرد(الطبيعي ).
وقد اختلف الفقه الدولي اختلاف بينا وشديدا بشأن التكييف القانوني للفرد كشخص من أشخاص القانون الدولي. ويمكن أن نميز هنا بين العديد من من الاتجاهات :
أ- فقد ذهب البعض(المذهب التقليدي ) إلى إنكار تمتع الفرد بالشخصية القانونية الدولية تحت أي ظرف من الظروف(أنصار هذا الاتجاه هم مفكرو المدرسة الوضعية، ومنهم أنزيلوتي وترييبل)، انطلاقا من إيمانهم بمذهب ثنائية القانون القاضي باستقلال القانونين الداخلي والدولي عن بعضهما، سواء من حيث مصادرهما أو من حيث المخاطبين بأحكامهما .
فمصدر القانون حسب هذه المدرسة هو الإرادة المنفردة للدولة، بينما مصدر القانون الدولي هو الإرادة الجماعية للدول . ومن حيث الأشخاص المخاطبين بقواعد كل منهما، فأشخاص القانون الداخلي هم الأفراد والجماعات الخاصة سواء في علاقاتهم المتبادلة أو في علاقاتهم مع الدولة، في حين أن أشخاص القانون الدولي هم أساسا الدول المستقلة والأشخاص الدولية الأخرى .
ومن حيث العلاقات التي ينظمها كلا القانونين، فالقانون الداخلي ينظم علاقات الأفراد فيما بينهم أو مع السلطات الداخلية للدولة.بينما ينظم القانون الدولي علاقات الدول فيما بينها في زمن السلم والحرب، أو مع غيرها من أشخاص القانون الدولي .
ب- بينما قرر آخرون( مدرسة فيينا ومنهم كلسن وفردروس ) التسليم بشخصية دولية غير مباشرة، وذلك لأن القانون الدولي لا يتوجه إليه بالخطاب إلا عن طريق دولته.كما أن تطبيق القانون الدولي على الأفراد لا يتحقق إلا بواسطة الأوامر التي تصدرها إليها دولهم .
وينفي أنصار مذهب وحدة القوانين وجود أي اختلاف أساسي بين القانون الداخلي والقانون الدولي سواء من حيث مصادرهما أو أشخاصهما أو أغراضهما، فقواعد القانون الدولي وقواعد القانون الداخلي كتلة قانونية واحدة. كما يرى أنصار هذا المذهب أن النظام القانوني قد يتضمن قواعد موجهة لأشخاص تختلف طبيعتهم وهذا التوجيه قد يكون مباشرا كما في القانون الداخلي، وقد يكون غير مباشر كما هو الحال للقواعد القانونية الدولية. فالدولة هي في الحقيقة مجموعة من الأفراد، الذي هم في النهاية المخاطبون بأحكام القواعد الدولية والداخلية .
ج- أخيرا تذهب المدرسة الاجتماعية(وعلى رأسها الأستاذ جورج سل ) إلى النظر إلى حقيقة المجتمع الدولي المعاصر، بالقول أنه في النهاية يتكون من مجموعة من الأفراد وعلى ذلك لا يوجد- من هذه الزاوية- أية فوارق بين المجتمع الدولي والمجتمع الداخلي . باعتبار أن كلا منهما مجتمع أفراد société d’individus ، فالفرد هو صاحب الشخصية الأولى في المجتمع الدولي ولا يتغاضى هذا الاتجاه عن الدولة كحقيقة قائمة، لكنه يرفض فكرة ” الدولة- كشخص ” ويقبلها كمفهوم، يتم النظر إليه كإطار أو كوسيلة تنظيم للمرافق العامة اللازمة للجماعة .
وإذا كان لكل رأي من هذه الآراء وجاهته السديدة، فإنه يبقى مع ذلك أنها تنظر إلى الموضوع محل البحث من زاوية معينة انطلاقا من مقدمات معينة أدت بها حتما إلى نتيجة تتفق وتلك المقدمات، والأفضل أن يتم النظر إلى الفرد الواقعية في إطار المجتمع الحالي، والذي يدفعنا إلى القول أن الفرد قد لا يتمتع بالشخصية الدولية بخصوص مسائل معينة، وقد يتمتع بها بطريقة مباشرة، كما قد يكون مخاطبا بطريقة مباشرة من قبل قواعد القانون الدولي .
بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا،وتغير بنية النظام العالمي من خلال التأكيد على حقيقة التنظيم الدولي، ووراثة الأمم المتحدة لعصبة الأمم، فإن العالم بدأ يعيد صياغة الكثير من قواعده، ونظمه، وفلسفاته، فتم إقرار ميثاق الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 وتواصل تنامي ترسانة تشريعية دولية متشابكة في مجال القانون الدولي الإنساني. حظي موضوع حقوق الإنسان بمكانة متميزة، ومتواصلة،لذلك فإن الحيز القانوني الذي بدأ يحتله الفرد ازداد اتساعا، وقطعت حقوقه(الجماعية والفردية) خطوات متعاظمة، وتنامت النصوص، والضمانات، وآليات الحماية المعنية بحقوق الإنسان(على المستوى النظري أكثر منه على المستوى التطبيقي ).
وبدأت بعض الاتفاقات، والمعاهدات الدولية(العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية لعام 1966 تنشئ قضاء تشريعيا(على مستوى القانون الدولي العام) يؤكد على حقوق الفرد، بل وتجرأت على مخاطبته( في بعض الأحيان)، ولو بشكل غير مباشر(الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان لعام 1950)، بحيث أصبح الفرد الأوربي بالفعل أسبق في التمتع بمركز قانوني أوربي متميز لا يقارن خصوصا فيما يتعلق بالأهلية الإجرائية للفرد capacité processuel de l’individu ، ولم يعد الجدل العقيم حول مصادر حق الفرد، داخليا وخارجيا، يلاقي الالتفات بسبب صرامة القواعد الوطنية المقررة لهذا الحق وصرامة القضاء والبرلمان والإعلام والمجتمع الحارسين لهذا الحق، فضلا عن المؤسسات الأوربية، وسلطة القانون الأوربي النافذة Droit communautaire بل أصبحت جزءا من القانون الدولي العرفي .
ولكي تكتمل الصورة، تجب الإشارة إلى تطور التزامات الفرد في مجال القانون الدولي الجنائي الذي عرف قفزات واسعة منذ بداياته البسيطة بعد الحرب العالمية الأولى و بين الحربين، وبشكل خاص عقب الحرب العامية الثانية، وبسبب فظائعها، فأصبح القانون الدولي الجنائي من أهم ضمانات حقوق الإنسان، حيث أصبح الفرد مسؤولا بشكل مباشر عن انتهاكات هذا القانون الذي يحمي الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويقرر القانون أن الاعتداء على هذه الحقوق يشكل جرائم للنظام العام الدولي، وأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما أن أي فرد أو دولة أو جماعة يصبح لها الحق في تعقب المتهم باعتبار أن لهم جميعا مصلحة في حماية المجتمع الدولي من هذه الجرائم. وهذه الأرضية دفعت الجهود المبذولة لإنشاء قضاء دولي، فانطلقت موجته بعد انتهاء الحرب الباردة مباشرة. وقد أدت فظائع التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة وسيراليون ورواندا إلى نشأة المحاكم الجنائية المؤقتة في لاهاي وأروشا وسيراليون، ثم نشأت المحكمة الجنائية الدولية،كما ترجح مذهب الاختصاص العالمي الذي يعطي أي دولة الحق- إن أرادت- في أن تختص محاكمها بمحاكمة المتهم بارتكاب إحدى جرائم النظام العام الدولي التي بدأت التشريعات الوطنية تفسح المجال لتقنينها .
في ضوء ما سبق، لا يزال السؤال ملحا :هل مجمل الحقوق والالتزامــات والقدرة على مقاضاة دولته في أوربا ومقاضاة الدولة الطرف في منازعات الاستثمار دوليا، والاهتمام الدولي الكاسح بقضايا حقوق الإنسان، قد جعلت الفرد شخصا من أشخاص القانون الدولي خلال العقود الأربعة الأخيرة التي ازدهرت فيها هذه الحقوق والالتزامات؟
المتفق عليه في الفقه الدولي هو أن حقوق الإنسان لم تعد بالكامل جزءا من الاختصاص الداخلي للدول في منظور المادة2/7 ، ولكن الدولة لاتزال أساس هي النظام الداخلي والنظم الدولية.ويزدهر مركز الفرد دوليا كلما كان نظام الدولة ديمقراطيا، وهذه هي الضمانة الأكيدة لإزالة اللبس في مركز الفرد في القانون الدولي. ذلك أن الدعوة إلى أن يكون الفرد من أشخاص القانون الدولي كانت تهدف إلى تجاوز بطش الدولة وتسلطها، ولكن الحقيقة هي أن ما قطعه الفرد من أشواط بعيدة يدفعنا إلى القول – مع غالبية الفقه الدولي- أن الفرد أصبح يتمتع بشخصية قانونية دولية محدودة من نوع خاص suis generis تتفق مع وضعه، وهو وضع أشبه بوضع المنظمات الدولية أحيانا، لكنها بالقطع تختلف عن شخصية الدولة، وهو ما عبر عنه بدقة وزير خارجية بريطانيا في 27 يناير 1993 من أن المادة 2/7 من ميثاق الأمم المتحدة قد تقوضت بشكل مطرد مع طغيان الاهتمامات الإنسانية على احترام حق كل دولة في أن تدير شؤون رعاياها أو تسيء إدارتها .
وعلى أية حال، فكما أكد إعلان فيينا وبرنامج العمل لعام 1993 فإن كل حقوق الإنسان أصبحت عالمية مترابطة لا تقبل التجزئة، وحمايتها تتمتع بأولوية مطلقة في المجتمع الدولي بسبب ارتباطها بالأخلاق الدولية العامة وكرامة الإنسان.بحيث أصبحت هذه الحقوق من القواعد الآمرة في النظام الدولي Jus Cogens تتمتع بحجية في مواجهة الكافة Erga Omens ومع ذلك يتردد الفقه في منحه الشخصية القانونية الدولية، ولكنه يتمتع بشخصية قانونية دولية محدودة limité وقاصرة mineur وممكنة possible ومحتملة éventuelle.
اترك تعليقاً