الاحتكار بين القانون والشريعة
على غير ما يعتقد البعض بشأن قضية “الاحتكار”، التي أصبحت مثار جدل حاليًا في ظل موجة الغلاء للعديد من السلع الاستراتيجية، والتي يعزوها المعنيون إلى هيمنة رجال الأعمال عليها، عرفت الأسواق العربية قديمًا الاحتكار كظاهرة؛ حيث كان بعض التجار يقومون بحبس أو منع تداول أحد السلع أو البضائع، بغرض رفع ثمنها وتحقيق أكبر قدر من الأرباح، عندما تصبح شحيحة في الأسواق.
وإذا كان “الاحتكار” قديمًا قد نشط في ظل ما يعرف بنظام اقتصاد السوق الحر حاليًا، إلا أن نظام الحكم كان يتدخل لضبط السوق، ومعاقبة المتورطين في هذه العمليات التي ينهى عنها الإسلام؛ فقد عاد “الاحتكار” بقوة ليضرب في الصميم أقوات الناس، واحتياجاتهم الأساسية في هذا العصر، بعد أن تخلت الدولة عن دورها الاقتصادي، وقامت بخصخصة القطاع العام الذي ظل لسنوات طويلة العمود الفقري لاقتصاديات المنطقة؛ إذ ظلت الدولة لسنوات وعقود الممارس الوحيد لظاهرة الاحتكار؛ سعيًا منها لإيجاد نوع من التوازن بين طبقات المجتمع المختلفة، ولضمان تحقيق الحد الأدنى من سبل المعيشة، لاسيما في أوساط محدودي الدخل.
لكن السنوات الأخيرة كانت شاهدة على دخول رجال الأعمال على خط الأزمة، بعد إبرامهم تحالفًا أو ما يمكن أن يطلق عليه زواجًا كاثوليكًا مع السلطة، سمح لهم بالسيطرة على الأسواق، والتحكم في الأسعار بشكل أضر بمصالح الغالبية أو السواد الأعظم من الشعوب العربية، التي تعاني من تدهور حاد في المستوى المعيشي، نتيجة الفقر والأزمات الاقتصادية، خاصة في البلدان ذات الموارد المحدودة.
غلاء وتضخم
يأتي هذا على الرغم من سعي دول المنطقة إلى التدخل لمواجهة تلك الممارسات التي تَئِن منها حتى الشعوب الغنية، وتطالب حكوماتها بالتدخل للجمها، بعد أن سجلت أسعار السلع الأساسية أرقامًا فلكية، خاصة السلع الاستراتيجية مثل الأسمنت والحديد، وهو ما دفع الأنظمة إلى صياغة حزمة من القوانين التي تجرم هذه الممارسات الاحتكارية في القانون.
فعلى سبيل المثال، واجه القانون المصري تلك الممارسات بالقانون رقم 3 لسنة 2005، الذي أطلق عليه قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار، والذي تضمن بنودًا عديدة للتصدي لهذه الظاهرة السلبية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية، من خلال مواده التي نعرض أهمها في السطور التالية:
1. أن يكون ممارسة النشاط على النحو الذي لا يؤدي إلى منع حرية المنافسة وتقييدها أو الإضرار بها، وذلك وفق أحكام القانون.
2. تسري أحكام قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكاري ولائحته التنفيذية على الأفعال بما في هذا العقود، وما تضمنه من ممارسات وعقود واتفاقات سواء وقعت بالداخل أو بالخارج، لا سيما إذا ترتب عليها منع حرية المنافسة أو تقييدها أو الإضرار بها في مصر.
3. وتشير المادة التاسعة إلى أن حدوث ممارسة احتكارية في سوق معينة ينبغي أن تتوفر العناصر الآتية:
• زيادة حصة الشخص على 25% من السوق المعنية، ويكون حساب هذه الحصة على أساس عنصري هذا السوق من حيث المنتج والنطاق الجغرافي معًا، وذلك خلال فترة معينة.
• قدرة الشخص على إحداث تأثير فعال في أسعار المنتجات، أو في حجم المعروض منها بالسوق.
• عدم قدرة الأشخاص المنافسين للشخص على الحد من تأثيره الفعال على حجم المعروض من المنتجات بالسوق المعنية.
تأثيرات سلبية
وفي نفس الإطار تحدد المادة الثامنة الممارسة الاحتكارية في وجود تأثير فعال لشخص بعينه في تحديد أسعار المنتجات أو في حجم المعروض منها بالسوق المعنية، إذا كانت له القدرة من خلال ممارساته المنفردة على تحديد أسعار تلك المنتجات أو حجم المعروض منها، دون أن يكون لمنافسيه القدرة على منع هذه الممارسات.
• تضمن القانون رقم 3 لسنة 2005 والخاص بحماية المنافسة ومنع الاحتكار عديدًا من العقوبات.
• يعاقب على كل مخالفة لأحكام المواد 7 و8 من القانون بغرامة لا تقل عن 30 ألف جنيه مصري ولا تتجاوز 10 ملايين جنيه، وذلك دون الإخلال بالمسئولية المدنية عن الأضرار الناجمة عن ارتكاب أي من الممارسات الاحتكارية.
• ينشر الحكم النهائي الخاص بالإدانة بارتكاب ممارسة احتكارية في جريدتين يوميتين على نفقة المحكوم عليه.
• يعاقب المسئول عن الأحكام الفعلية للشخص الاعتباري المخالف بذات العقوبات المقررة عن الأفعال التي ترتكب بالمخالفة لأحكام هذا القانون، لا سيما إذا ثبت علمه بها، وكان إخلاله بالواجبات التي تفرض عليها تلك الإدارة قد أسهم في وقوع المخالفة.
ولا نستطيع هنا تجاهل حدوث تعديل مهم ومثير للجدل حدث للمادة 26 من القانون؛ حيث أعطى التعديل الحق للمحكمة أن تعفي من نسبة لا تزيد على نصف العقوبة 50% منها كل من بادر من المخالفين والمحتكرين بإبلاغ الجهاز عن جريمة احتكار بتقديم ما لديه من أدلة على ارتكابها؛ حيث تقدر المحكمة إسهامه في الكشف عن عناصر وإثبات أركانها في أية مرحلة من مراحل التقصي، والبحث وجمع الاستدلالات والتحقيق والمحاكمة.
الاحتكار والشريعة
يرتبط الاحتكار في الفكر الإسلامي بمصادرة السلع وقت الأزمات، من خلال خفض المعروض من السلع، في الوقت الذي تشتد فيه الحاجة إليه، وهو ما يؤدي بالتالي إلى ارتفاع الأسعار.
ورغم أن الإسلام قد أباح البيع والشراء، واعتبر مهنة التجارة من أشرف المهن، وليس أدل على ذلك من الحديث الذي رواه الترمذي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: ((التاجر الصادق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) [رواه الترمذي، (1256)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (1782)]، إلا أنه تصدى بقوة وحزم لظاهرة الاحتكار في الأسواق.
وقال رسول الله صلى الله عليم وسلم أيضًا في حديث رواه ابن ماجه ((من احتكر طعامًا أربعين ليلة؛ فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله تعالى منه)) [رواه أحمد في مسنده، (4990)، ووثق الحافظ ابن حجر رواته]، ويُستنتج من هذه الأحاديث مدى الجرم الذي يرتكبه المحتكر، لدرجة أن بعض الفقهاء ساوى بينه وبين اكتناز الذهب والفضة وكذلك المرابين؛ فكلاهما يفرح بضيق الأرزاق والعبث والشدة، ويغتنم إذا أرخص الله الأسعار لعباده ووسع عليهم؛ قال تعالى: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
وقد ورد أن الخلفاء الراشدين تعاملوا بنفس الحزم مع مسألة “الاحتكار”، وعملوا على ضبط الأسواق من خلال تخصيص بعض الناس لمراقبة الأسواق، ومتابعة عمليات البيع والشراء، وكان الهدف من ذلك قطع الطريق على الراغبين في الاحتكار، وتوفير الطعام والشراب للرعية بأسعار ملائمة.
وتعامل عدد من الخلفاء بقوة من هذه الجريمة، فقد ورد في الموطأ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: (لا حكرة فى سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم فضول من أذهاب إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا فيحتكرونه علينا، ولكن أيما جالب جلب على عمود كبده فى الشتاء والصيف، فذلك ضيف عمر؛ فليبع كيف شاء الله، وليمسك كيف شاء الله) [الموطأ، (1348)].
وقد أعطى الفقهاء أيضًا المبرر لتدخل السلطة في حالة امتناع المحتكر عن الاستمرار في غيه، فإن لم يفعل ذلك بنفسه أجير عليه وأخذت منه السلطة ليشرك الناس فيها، ولا يعطي إلا رأس المال الذي اشترى به إياها، كما أجاز الإسلام على ولي الأمر تسعير السلعة بشكل لا يتضرر منه المنتج لها أو المستهلك.
اترك تعليقاً