مقال قانوني كبير عن البطالة ودورها في الانحراف ونشر الجرائم
تعرف البطالة على انها ظاهرة اجتماعية اقتصادية وجدت مع وجود الإنسان وخاصة في المجتمعات الحديثة، وأغلب التوقعات تشير إلى أنها ستظل باقية ببقائه على وجه الأرض. بل والأدهى من هذا هو أنها – في رأي كوكبة كبيرة من الاقتصاديين والاجتماعيين – تتفاقم على مر الزمن وخاصة في ظروف الدول النامية (التي مازال الوطن العربي كله يقع في دائرتها).
وفي صفحات من كتاب(علاقة البطالة بالجريمة والانحراف في الوطن العربي)، يذكر غنطوس وعلى سبيل المثال أنه من السبعينات من القرن الحالي برزت مشكلة التعطل عن العمل بالدول العربية (غير النفطية بالذات)، حيث قدر حجم البطالة في تلك الحقبة بما معدله 5 – 6% من إجمالي القوة العاملة، مع وجود بطالة مقنعة تزيد المشكلة تعقيداً.
ويذكر غنيمي أنه حيثما وجدت إحصاءات عن البطالة فإنها تؤكد حقيقة انتشارها على نطاق واسع بالدول العربية، فضلاً عن اتجاه معدلاتها إلى الزيادة… ويضيف أننا لا نميل إلى الاعتقاد بوجود فائض كبير في القوى العاملة تتجاوز معدلات الاستيعاب في مختلف القطاعات الاقتصادية في الوقت الحالي فقط، وإنما أيضاً استمرار هذا الاتجاه في المستقبل.
والبطالة أيضاً موجود اجتماعي لا يخلو منه حديثاً مكان أو زمان، كما أنها مشكلة تعاني منها جل المجتمعات متقدمة ونامية.
إن حجم البطالة على مستوى العالم – كما ينقل الوهيب عن أحد خبراء الاقتصاد العالميين (مايك كاري) في تزايد، حيث يوجد 35 مليون عاطل عن العمل بالدول الصناعية… فالمشكلة – كما يضيف – مشكلة عالمية وليست مشكلة دول عربية أو دول نامية.
صحيح أن المشكلة قد تأخذ شكلاً أو آخر، وتسير في اتجاه الارتفاع أو شبه الثبات أو الانخفاض، إلا أنها تظل بعد كل هذه قائمة رغم تكاتف وكثافة الجهود التي تبذل للقضاء عليها أو على الأقل التخفيف من حدتها وتحجيم معدلات انتشارها.
مفهوم البطالة:
البطالة واحدة من المصطلحات الاجتماعية الاقتصادية المعقدة التي لا تزال تلقى – عند محاولة التعريف بها – الكثير من الخلاف، والى الدرجة التي يمكن معها القول أن تعريفاً جامعاً مانعاً لها من الصعب الوصول إليه.
إن عدم الاتفاق قد أتى أساساً من اختلاف وجهات النظر بين مفكري هذا المجال في أمور كثيرة تتعلق أصلاً بتوجههم نحو مفاهيم أخرى مثل العمالة، والتشغيل، والتشغيل الكامل، والتشغيل الناقص، ومدى التعطل، وأنواع التعطل، وأنواع البطالة، وغير ذلك من المقولات التي تدخل في صلب المشكلة.
وانطلاقاً من هذا، فإن الوصول إلى تعريف متفق عليه للبطالة، كما جاء بدائرة معارف العلوم الاجتماعية امر صعب بعيد المنال، حيث يتوقف التعريف بها على الظروف القائمة في الزمان والمكان المعينين.
وعلى سبيل المثال فإنه في المسح الذي أجري على الأسر في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1974م، أشير إلى المتعطلين بأنهم كل الأفراد الذين يبلغون من العمر أربع عشرة سنة فما فوق، والذين لا يعملون بأجر خارج الأسرة لمدة ساعة واحدة يومياً على الأقل. هذا في الوقت الذي رأت فيه كثير من الدول أنه لا ينبغي لأي فرد أن يعمل إلا إذا بلغ من العمر ستة عشر عاماً فأكثر. وأنه إذا قلت مدة عمله عن ثلاث ساعات يومياً يمكن أن يعتبر الشخص في عداد العاطلين.
على أي حال، البطالة لفظ مقابل للعمالة ومضاد له، والعامل والعاطل يكونان على طرفي نقيض، إن اللفظ، لغة، كما ورد عند ابن منظور، قد أتى من الفعل بطل وبطُل، وله معان كثيرة ومنها أنه يعني التعطل، وأنه يقال بطل الأجير (بالفتح) يبطل بطالة وبطالة / أي تعطل، فهو بطال، وهي في معجم الرائد تدور في نفس الإطار، حيث يذكر أيضاً أنها قد اشتقت من بطل وبطل وبطيل، وتعني عدم توافر العمل للراغبين فيه والقادرين عليه.
واللفط – اصطلاحاً (اقتصادياً) – لم يخرج عن هذا، حيث يذكر الوزان، أنها في القاموس الاقتصادي كلمة تعني الأجير الذي فقد عمله ومصدر رزقه وتعطل عن العمل.
وهذا على أي حال يتمشى مع ما ورد في دائرة المعارف الأمريكية حين أوضحت أن البطالة مصطلح يقصد به حالة عدم الاستخدام الكلي، التي تشير إلى الأشخاص القادرين على العمل، والراغبين فيه، والباحثين عنه، ولكنهم لا يجدونه. ومن هذا المنطلق، فإن البطالة تشمل مجموعات مختلفة من الأفراد، وهم:
– الذين لا يعملون.
– الذين يعملون في مواسم معينة فقط (ولا يعملون في مواسم أخرى).
– الذين يعملون بشكل مؤقت (دون الارتباط بموسم معين).
– العاملون فعلاً، ولكن ذوي إنتاجية منخفضة (البطالة المقنعة).
وإذا كان ما سبق يشير إلى البطالة وإلى التعطل في الوقت نفسه، فإن دائرة المعارف الأمريكية قد نحت نفس النحو، ولكنها فضلت الدخول إلى القضية من باب المتعطل، وذلك حين أوضحت أن المعنى الحرفي للكلمة كان يقصد به في الماضي كل الأشخاص الذين بدون عمل، أما حديثاً، فقد أصبح له معنى أكثر تحديداً، حيث قصد به هؤلاء هم الأشخاص الذين لا يعملون لمدة محددة، وهم قادرون عليه، وراغبون فيه، ويبحثون عنه بجدية.
على أي حال، عن هذا التوجه بعينه هو ما استقر عليه رأي منظمة العمل الدولية ايضاً في تعريفها للبطالة، وذلك على الرغم مما أضافته من جديد في هذا الصدد، حيث عرّفت العاطل على أنه كل قادر على العمل، وراغب فيه، ويبحث عنه، ويقبله عند مستوى الأجر السائد، ولكن دون جدوى (أي لا يجده).
وبالنظر لما سبق، فإنه يمكن القول إن تعريف البطالة، أو التعطل، المتفق عليه دولياً، والذي يتمشى أيضاً مع توجهات دراستنا الحالية، يستند إلى ثلاثة معايير أساسية ينبغي أن تتوفر في الوقت ذاته لكي يكون الشخص متعطلاً بالفعل، وحسب مجمل التوجهات المرصودة، فإن عبارة (العاطلين عن العمل) ينطبق على كل من هم في سن العمل طبقاً لما هو محدد في الوضع المعين، أي النشطين اقتصادياً، وكانوا ضمن الفئات التالية:
– بدون عمل: أي الذين لا يعملون مقابل أجر أو لحسابهم الخاص.
– متاح للعمل: أي الذين هم في انتظار عمل بأجر، أو العمل لحسابهم الخاص.
– يبحث عن عمل: أي الذين اتخذوا خطوات محددة للبحث عن عمل بأجر أو العمل لحسابهم الخاص.
ثانياً: أنواع البطالة:
يتضح مما سبق أن المحاولات التي تعرضت للتعريف بالبطالة قد اتفقت في الجوهر رغم اختلافها في التفاصيل. إن هذا الخلاف في حد ذاته، وهو ظاهرة صحية أصلاً، قد أتى في أساسه من تباين الآراء حول أنواع البطالة، وتحديد كل مفكر باحث أنواعاً بعينها لها، والنظر إليها بالتالي من زوايا مختلفة انطلقت في العادة من مجموع الظروف التي يتعايش معها. وبوجه عام، فإن صعوبة الالتقاء بين هؤلاء قد أتت من عدة اعتبارات جوهرية، وهي أن البطالة:
– متغيرة ومتجددة على الدوام، بمعنى أنه يمكن أن يضاف إليها ما هو جديد باستمرار.
– متداخلة، ويصعب فض الاشتباك بين عناصرها ومتغيراتها، (كما سيتضح من استعراض أنواعها).
– يصعب قياسها، حيث الاختلاف بين الدول في تعريف العمالة، والبطالة، والعامل والمتعطل، ومدة التعطل، وسن العمل، وغير ذلك من العناصر التي تدخل في تكوين العمالة أو البطالة.
وعلى وجه العموم، فقد تضمنت الأدبيات التي تعاملت مع الموضوع أنواع متعددة من البطالة، وهي: البطالة الدورية، البطالة الموسمية، البطالة الاحتكاكية، البطالة الهيكلية، البطالة الإجبارية، البطالة الاختيارية، البطالة الجزئية، البطالة المقنعة، والبطالة السافرة، ويمكن لأية واحدة منها الدخول في مقولة البطالة (عامة).
1- البطالة الدورية:
البطالة الدورية (Circlical Unemployment) هي البطالة الناجمة عن عدم سير النشاطات الاقتصادية على وتيرة واحدة، أو منتظمة، في الفترات الزمنية المختلفة، بل تنتاب هذه النشاطات فترات صعود وفترات هبوط دورية.
ويطلق على حركة التقلبات الصاعدة والهابطة للنشاط الاقتصادي والتي يتراوح مداها الزمني بين ثلاث وعشر سنوات، مصطلح الدورة الاقتصادية التي لها خاصية التكرار والدورية، وتتكون الدورة الاقتصادية من مرحلتين، ومن نقطتي تحول: المرحلة الأولى هي مرحلة الرواج أو التوسع، يتجه فيها حجم الإنتاج والدخل والتوظيف نحو التزايد، إلى أن يبلغ التوسع منتهاه بالوصول إلى نقطة الذروة أو قمة الرواج، وعندها تبدأ الأزمة في الحدوث وهي نقطة تحول. وبعدها يتجه حجم النشاط القومي الى مرحلة الانكماش، إلى أن يبلغ الهبوط منتهاه بالوصول إلى نقطة قاع الانكماش، وبعدها مباشرة يبدأ – من جديد الانتعاش، وهي نقطة تحول، يتجه بعدها حجم النشاط الاقتصادي نحو التوسع مرة أخرى… وهكذا. وعلى هذا، فإن المتوقع أن يزيد الطلب على العمالة في أوقات الصعود (الرواج)، وأن يقل الطلب في فترات الهبوط والانكماش.
2- البطالة الموسمية:
البطالة الموسمية (Seasocal Unemployment) أو ما يعرف أيضاً بالبطالة المؤقتة (Temporary Unemployment)، وهي ذلك النوع من البطالة التي يكون الأفراد بمقتضاها يعملون فترات ولا يعملون فترات أخرى، وذلك مثلما يحدث في معظم الأرياف العربية، حيث يشتد دوران عجلة العمل في فترات ويهبط في غيرها وقد ينتفي في ثالثة، وكأن يعمل الطلاب في فصل الصيف فقط ولا يعملون في بقية فصول السنة (ولو أن من الطلاب من لا يفترض أن يدخلوا في مرحلة العمالة أساساً). هذا وجدير بالذكر أن هذا النوع من البطالة يتداخل مع ما يعرف بالبطالة الجزئية على أساس أن العامل لا يعمل طوال السنة.
3- البطالة الجزئية:
رغم التداخل الكائن بين البطالة الموسمية والبطالة الجزئية (Fractural Unemployment)، فإن الأخيرة توجد إذا كانت القوى العاملة المتاحة غير مستخدمة استخداماً تاماً، أي أن يعمل الأفراد ساعات عمل أقل من ساعات العمل العادية. إنه إذا كان من الممكن اعتبار البطالة الموسمية نوعاً من البطالة الجزئية، فإن هذا لا يمنع من وجود اختلاف بين النوعين، يتمثل في أن الأخيرة تكون فيها عمالة كاملة في فترة من الفترات (السنوية) ولا عمالة إطلاقاً في فترة أخرى.
4- البطالة الاحتكاكية:
البطالة الاحتكاكية (Frictional Unemployment) هي البطالة التي تحدث بسبب التنقلات المستمرة للعاملين بين المناطق والمهن المختلفة، وهي عادة ما تحدث بسبب نقص المعلومات لدى الباحثين عن العمل عن الفرص المتاحة فيه، إن نقص هذه المعلومات يطال الباحثين عن العمل كما يطال صاحب العمل أيضاً، بمعنى أن فترة البحث عن العمل قد تطول نتيجة لعدم توافر المعلومات الكافية عن العمل سواء لدى أصحاب الأعمال أو الباحثين عن عمل، رغم أن كلا منهما يبحث عن الآخر. وفي هذا الاتجاه يرى عدد من الباحثين أن البطالة الاحتكاكية تقل كلما ارتفعت نفقة البحث عن العمل، كما يرون أن إعانة البطالة التي تقرر الدول المتقدمة صناعياً عادة صرفها للعاطلين، ويؤمل أن تأخذ بها الدول النامية وفي المقدمة منها الدول العربية، تسهم في حجم ومعدل البطالة الاحتكاكية لأنها (أي الإعانة) قد تجعل العاطل يتقاعس في البحث عن عمل فتطول بالتالي مدة تعطله.
5- البطالة الهيكلية:
البطالة الهيكلية، أو ما يعرف أيضاً بالبطالة البنائية (Structural Unemployment) هي ذلك النوع من البطالة الذي يشير إلى التعطل الذي يصيب جانباً من قوى العمل بسبب تغيرات هيكلية تحدث في الاقتصاد القومي، وتؤدي إلى إيجاد حالة من عدم التوافق بين فرص العمل المتاحة وخبرات الباحثين عن العمل، وتلك التغيرات قد تكون بسبب دخول نظم تكنولوجية حديثة (كالميكنة والربوت والتكنولوجيا عامة…)، أو إنتاج سلع جديدة، أو تغير في هيكل الطلب على المنتجات، وكذلك دخول فئات ومهارات إضافية (غير متوقعة غالباً) إلى مجال العمل. إننا في هذه الحالة نواجه فائض عرض في سوق عمل ما، وفائض طلب أي نقص عرض، في سوق عمل أخرى، ويظل هذا الاختلال قائماً إلى أن تتوافق قوى العرض مع قوى الطلب.
6- البطالة الإجبارية:
البطالة الإجبارية (Involuntary Unemployment) تعرف أيضاً بالبطالة الاضطرارية (Obligatory Unemployment)، وهي تكون عندما يضطر أو يجبر العامل على ترك عمله لسبب أو لآخر، كأن يعلن مشروع عن إفلاسه مثلاً، أو يغلق أحد المصانع أبوابه ويستغني عن العاملين فيه أو بعضهم بغير إرادتهم.
إنها ذلك النوع من البطالة الذي يتعطل فيه العامل بشكل جبري، أي على غير إرادته. وهي تحدث عن طريق تسريح العاملين، أي الاستغناء عنهم بشكل قسري، رغم ان العامل يكون راغباً في العمل وقادراً عليه وقابلاً لمستوى الأجر السائد.
وهذا النوع من البطالة يسود بشكل واضح مراحل الكساد الدوري، وخاصة في البلدان الصناعية، وقد تكون البطالة الإجبارية احتكاكية أو هيكلية.
7- البطالة الاختيارية:
يعرف هذا النوع من البطالة بالبطالة الإرادية أو الطوعية (Voluntary Unemployment)، كما قد يطلق عليها أيضاً مصطلح التبطل الذي هو تعبير يقصد به قعود الشخص عن العمل اختيارياً رغم قدرته عليه ووجود فرصة متاحة أمامه دون أن يكون له مورد ثابت للرزق أو وسيلة مشروعة للعيش. أما البطالة الاختيارية أو اللا إرادية أو الطوعية فهي تكون حين يقدم العامل استقالته من العمل الذي كان يعمل به بمحض إرادته، إما لعزوفه عن العمل وتفضيله لوقت الفراغ (مع وجود مصدر آخر للدخل)، أو لأنه يبحث عن عمل أفضل يوفر له أجراً أعلى وظروف عمل أحسن.
والبطالة الاختيارية قد تنطبق على الأفراد الذين يمكنهم العمل عملاً إضافياً، ولكنهم يحجمون عن ذلك. فالفرد هنا يختار الفراغ بدلاً من العمل، لا لأنه حقق دخلاً كبيراً، وفر له مستوى معيشياً مرتفعاً، تصبح معه الراحة هي السلعة الكمالية المفضلة على السلع الأخرى، ولكن لأنه حقق مستوى من الدخل الذي رآه كافياً لإشباع حاجاته وتطلعاته، بحيث يصبح العزوف عن العمل مفضلاً على بذل المزيد من الجهد.
على أن ما ينبغي الالتفات إليه هنا هو أن الفرد إذا ترك العمل باختياره وإرادته الحرة لأن لديه ما يكفيه من إدارة مشاريعه أو أملاكه مثلاً، فإنه في هذه الحالة قد لا يندرج تحت بند المتعطلين اختيارياً – لأنه يقوم بعمل ما فعلاً، وبالتالي قد يكون أقرب هنا إلى مجال البطالة الاحتكاكية (رغم أنه لم يتعرض لبطالة أصلاً).
8- البطالة المقنعة:
تعرف البطالة المقنعة (Disguised Unemployment) أيضاً بالبطالة المستترة. وهذا النوع من البطالة هو الأشهر في الفكر الاجتماعي الاقتصادي، على اعتبار أن كل ما سبق من أنواع وأشكال البطالة يمكن أن تنضوي – بصورة أو بأخرى – تحت مظلتها. وفي الوقت نفسه، فإن هذا النوع من البطالة كان (متفشياً بين الدول التي كانت تدور في فلك الاقتصاد الاشتراكي) وما زال هو الأكثر انتشاراً في بناء الاقتصاد العربي عامة والاقتصاد الزراعي – ومعه اقتصاد الخدمات الحكومي – خاصة.
على أي حال، البطالة المقنعة أو المستترة هي العمل ولو لكل الوقت المعتاد ولكن على مستوى إنتاجي منخفض، أو دون استغلال كامل للمهارات والمؤهلات والقدرات، ومع ضعف القدرة على الوفاء بالحاجات. إن الحالة الأولى – كما جاء لدى اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا) – تعبر عن تدني الإنتاجية الاجتماعية، فيما تنتج الثانية عن عدم الموازنة بين النظم التعليمية (والتدريبية) واحتياجات سوق العمل، اما الحالة الثالثة فتعبر عن انخفاض مستوى الرفاهية الاجتماعية الكلية.
والبطالة المقنعة – كما تنقلها منظمة العمل الدولية عن ربنسون تعبر عن حالة الأفراد الذين يمارسون أعمالاً تنخفض فيها إنتاجيتهم الحدية عن المستوى المفترض وفقاً لمستواهم التعليمي والتدريبي والمهاري، وذلك بسبب تعرض الاقتصاد لحالة من الركود نجم عنها تراجع حاد في الطلب الكلي وفي فرص العمل المتاحة في المجتمع. كما أنها تصف حالة من سوء استخدام عنصر العمل التي تتمثل في نقص تشغيل هذا العنصر عن مستوى معياري معين، أو ما يعرف بنقص التشغيل (Underemployment).
وحين يتعلق الأمر بنقص التشغيل، فإنه يتفرع في اتجاهين أساسيين: نقص التشغيل الظاهر ونقص التشغيل المستتر.
في الاتجاه الأول، ووفقاً للتعريف الدولي، فإن الفرد يكون في حالة نقص التشغيل الظاهر إذا انطبقت عليه ثلاثة شروط أساسية، وهي:
1- أن يكون عدد ساعات عمله أقل من المستوى السائد في سوق العمل (وهذا أشير إليه أيضاً تحت مسمى البطالة الجزئية).
2- أن يكون هذا الوضع مفروضاً على العامل وليس بمحض اختياره (وهذا مشار إليه أيضاً تحت مسمى البطالة الجبرية أو الاضطرارية).
3- أن يكون الفرد في حالة بحث عن عمل إضافي.
أما في الاتجاه الثاني، نقص التشغيل المستتر، فإن الفرد يكون في حالة نقص تشغيل مستتر إذا توافر فيه واحد من الشروط الأساسية الآتية:
1- الحصول على دخل منخفض لا يسمح بإشباع حاجاته الأساسية.
2- عدم الاستخدام الأمثل لمهاراته في فرصة العمل التي يشغلها.
3- إنخفاض إنتاجيته الحدية في العمل الذي يؤديه.
إن البطالة المقنعة تحدث عندما يكون عدد الأيدي العاملة، أو حجم العمل (كعنصر إنتاج متغير)، في ازدياد مستمر، بينما عناصر الإنتاج الأخرى – كرأس المال أو الأرض أو التنظيم والإدارة ثابتة، وبالتالي يتفاعل عنصر العمل المتزايد مع كميات أقل من العناصر الثانية. ونتيجة لإنخفاض نصيبه من العناصر الثانية، يتناقص الناتج الحدي حتى يصبح صفراً، وربما سالباً.
وفي الاقتصاد الرأسمالي الذي كاد يعم كل دول العالم (والعالم العربي جزء لا يتجزأ منه)، والذي يهدف إلى تحقيق أقصى ربح ممكن، لا يمكن أن يدفع أجراً لعامل تكون إنتاجيته صفراً أو بالسلب. لكن في الإنتاج الأسري، الذي تترابط فيه علاقات أفراده بعضهم بالبعض – خاصة القطاع الزراعي – قد يظل الابن أو الأخ يعمل ويحصل على أجر أو دخل رغم أن إنتاجه الحدي يساوي صفراً. ويحدث هذا أيضاً كثيراً في القطاع الحكومي، وخصوصاً عندما تلتزم الدول بتعيين (أي تشغيل)، خريجي المدارس والمعاهد والجامعات وغيرها، ويفيض العدد المعين عن حاجة العمل، فينخفض الناتج الحدي إلى درجة كبيرة، وتحدث بطالة مقنعة أو مستترة، وهي مستترة أو مقنعة لأن الشخص يحصل على أجر أو راتب، ويعمل ظاهرياً أو رسمياً، ولكنه لا ينتج فعلياً أو حقيقياً.
وعند تناوله لهذا النوع من البطالة، يسير زكي في نفس المسار، ويذكر أن البطالة المقنعة هي تلك الحالة التي يتكدس فيها عدد كبير من العمال بشكل يفوق الحاجة الفعلية للعمل، مما يعني وجود عمالة زائدة أو فائضة لا تنتج شيئاً تقريباً، وبحيث إذا سحبت من أماكن عملها فإن حجم الإنتاج لن ينخفض، فنحن هنا إزاء فئة من العمالة تبدو من الناحية الظاهرية أنها في حالة عمل – أي أنها تشغل وظيفة وتتقاضى عنها أجراً – ولكنها من الناحية الفعلية لا تعمل ولا تضيف شيئاً إلى الإنتاج.
وإذا كان هذا النوع من البطالة قد ظل منتشراً طويلاً في القطاع الزراعي (بالذات) في الدول النامية عامة بما فيها الدول العربية، نظراً لما يوجد بها من فائض نسبي للسكان فإنه (أي نوع البطالة) قد انتقل بعد ذلك إلى قطاع الخدمات الحكومية في كثير من تلك الدول بسبب زيادة التوظيف الحكومي والتزام الحكومات (وخاصة ما كان اشتراكياً منها) بتعيين مخرجات التعليم، في الوقت الذي كان من الممكن أداء كثير من هذه الخدمات بعدد أقل من العمالة.
إلا أنه مع أفول نجم المذهب الاشتراكي، وتحول – أو بالأحرى عودة – كثير من الدول إلى المذهب الرأسمالي وإتجاهها بالتالي نحو الخصخصة فإنه يتوقع أن ينخفض هذا النوع من البطالة في هذه الدول – رغم ما يتوقع أيضاً من أنه قد يصاحب هذه الخصخصة – على الجانب الآخر – زيادة في معدلات البطالة (السافرة) ولو في الأجل القصير، يسترد بعدها الاقتصاد القومي عافيته.
إن هذا يؤكد أن برامج الإصلاح الاقتصادي والانفتاح التي تقوم به بعض البلاد العربية، وفي مقدمتها مصر والمغرب والجزائر وتونس والأردن، من شأنها أن توفر فرصاً للقطاع الخاص لكي يقوم بدوره في التنمية الاقتصادية، وبالتالي توفير المزيد من فرص العمل. ولكن من جهة أخرى فإن عمليات تخصيص الشركات والمؤسسات العامة سيكون لها آثار سلبية من حيث زيادة العاطلين عن العمل. فهذه العمليات تستهدف ليس فقط انتقال الملكية والإدارة إلى القطاع الخاص، وإنما أيضاً ترشيد الشركات والمؤسسات بحيث تكون على قدر أكبر من الكفاءة الإنتاجية. وبناء عليه فإن برامج الإصلاح الاقتصادي والانفتاح قد لا تؤدي إلى التخفيف من التعطل في المدى القصير، وإنما سيكون لها على المدى البعيد أثر في توجيه الاستثمارات وزيادة معدلات النمو الاقتصادي، وبالتالي زيادة فرص العمل. وفي هذا الإطار، هناك ما يشير إلى أن مصر استطاعت إلى حد ما تطويق الآثار السلبية الناتجة عن تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي، وبدأت تجني ثمار ذلك، مما أوجد بعض الارتفاع في الدخل الفردي.
9- البطالة السافرة:
يعرف هذا النوع من البطالة أيضاً بالبطالة الظاهرة أو البطالة المسجلة (Open/Registerd Unemployment)، ويقصد بها حالة التعطل الكلي الظاهر الذي يعاني منها جزء من قوة العمل المتاحة، أي وجود عدد من الأفراد القادرين على العمل والراغبين فيه والباحثين عنه عند مستوى الأجر السائد دون جدوى، ولذلك فهم في حالة تعطل كامل، لا يمارسون أي عمل.
والبطالة السافرة، رغم اختلاف مسمياتها، يمكن أن تكون بطالة احتكاكية أو بطالة هيكلية أو بطالة دورية، ومدتها الزمنية قد تطول أو تقصر بحسب طبيعة الظروف السائدة بالاقتصاد القومي.
وعند تناوله للبطالة السافرة، فإن غنيمي لم يخرج عن المفهوم السابق كثيراً. فهي عنده تعني وجود الشخص خارج دائرة العمل، أي أنه لا يؤدي أي عمل رغم قدرته عليه ورغبته في القيام به وبحثه عنه.
ويسير سليم في ذات المسار، ويذكر أن البطالة السافرة تتمثل في الشكل الواضح لفائض العرض في سوق العمل مقارناً بالطلب عليه… ويرجع هذا إلى عدم ملاحقة الزيادة في فرص العمل للتدفقات المستمرة على سوق العمل نتيجة للنمو السكاني السريع.
ويتفق غنيمي مع سليم في هذه المقولة، وذلك حين يرى أن هذا النوع من البطالة غالباً ما يتحقق أثناء فترات الركود الاقتصادي، حيث يكون عدد الباحثين عن العمل أكبر بكثير من عدد فرص العمل التي يوفرها الاقتصاد القومي بقطاعاته المختلفة، كما أنها تكون في بعض الأحيان ناشئة عن عدم التطابق بين نوع الوظائف (فرص العمل) المعروضة ونوع الوظائف (أو فرص العمل) المطلوبة، فقد يكون فائض الأيدي العاملة مساوياً للطلب على العمل الذي لم تتم تلبيته، وفي هذه الحالة تكون البطالة نتيجة التوزيع غير الملائم لموارد قوى العمل عن طريق قوى السوق. (وهنا نكون قريبين من البطالة الهيكلية، بما يفيد نوعاً أو آخر من التداخل بين أنواع البطالة كلها).
1- العلاقة بين البطالة والجريمة في الدراسات النظرية:
يشير عجوة إلى أن العديد من مفكري الجريمة والعلوم الاجتماعية قاموا بتقديم تصورات نظرية مختلفة للعلاقات المحتملة بين التغيرات (المتغيرات) الاقتصادية والاجتماعية وعلى رأسها البطالة، وبين السلوك الإجرامي، وأن هذه التصورات النظرية – وإن تعددت بتعدد المداخل والظروف السائدة (المحيطة)، فإنها قد تركزت في عوامل اقتصادية وعوامل اجتماعية وعوامل نفسية.
من الناحية الاقتصادية:افترض كتيليه أن هناك ارتباطاً بين السلوك الانحرافي والظروف الاقتصادية المختلفة وضمنها البطالة والفقر، إضافة إلى خروج صغار السن والأمهات للعمل، حيث يجعل هذا المجتمع يقوم بفرض قوانين تحفظ النظام الاقتصادي وتوقيع العقوبات على مخالفيها، وهذا يؤدي إلى ظهور جرائم جديدة.
وإذا كان كتيليه قد أشار إلى أربعة أبعاد للظروف الاقتصادية (المرتبطة بالسلوك الإجرامي)، فإن هذه الظروف تتضمن أكثر من هذا بكثير، حيث يدخل فيها – إلى جانب العوامل الأربعة التي أشار إليها كتيليه – الدخل ومستوى المعيشة والفراغ والهجرة والاغتراب والتفكك الأسري والطلاق… ونشير إلى بعضها تباعاً.
ففي نفس الإطار الاقتصادي للجريمة يأتي ودسون ليربط بين الوضع الاقتصادي عامة والبطالة خاصة وبين الجريمة، ويرى أنه حيث تكون معدلات الجريمة مرتفعة يكون البناء الاقتصادي ضعيفاً. ذلك الضعف الذي يتمثل في إهمال المشاريع الاقتصادية الحيوية، ونمو البطالة، وتزايد معدلات الخراب والتدمير الفيزيقي بسبب الافتقار إلى الخدمات العامة.
وعلى الجانب الآخر، فالمتفق عليه في الفكر الاقتصادي والاجتماعي على السواء هو أن البطالة عادة ما ترتبط بانخفاض الدخل (أو حتى انعدامه كما سبق القول)، الأمر الذي يوقع الشخص العاطل (وأسرته أيضاً معه) في براثن الفقر والحرمان وعدم التمكن من إشباع الحاجات الأساسية، الأمر الذي قد يؤدي بالعاطل وأسرته إلى السلوك الانحرافي والإجرامي.
وعند منعطف الفقر يرى المناصرون للتفسير الاقتصادي للجريمة أن الفقر الناجم أصلاً عن تدني الدخل أو انعدامه، نتيجة للبطالة، يرى المناصرون لهذا التفسير من أمثال كتيليه وفري وبونجر وبيرت أن للفقر دوراً في رفع معدلات الانحراف، وخاصة جرائم الأموال والتسول والتشرد والدعارة في بعض صورها. وينتهون إلى القول بأن الفقر هو البيئة التي تتهيأ فيها كل الفرص لارتكاب الجريمة.
إن هؤلاء المتشيعين لتأثير العوامل الاقتصادية عامة والبطالة والفقر خاصة لم يأت تشيعهم من باب التخمينات، بل إنهم قد اتخذوا من نتائج الدراسات التي أجريت في هذا الاتجاه مبرراً، وهي الدراسات التي ظهر فيها أن غالبية مرتكبي السلوك المنحرف هم من ذوي المستويات الاقتصادية المتدنية ..
أما سبب ذلك التلازم بين الفقر والجريمة، فإنه يأتي من اعتبار أن الفقر ينتج عنه الحرمان وعدم توفير المتطلبات الضرورية للفرد وللأسرة، وكذلك صعوبة الحصول على الخدمات بأنواعها (الصحية والتعليمية والترويحية)، فيشب هؤلاء محرومين جهلاء لا يقدرون على التمييز بين النافع والضار والخير والشر، ويكونون لقمة سائغة لتيار الانحراف والجنوح.
وفي ذات مجال الانحراف والجنوح يأتي سلامة ليؤكد على وجود علاقة بين البطالة والفقر وبين الفقر وأنواع بعينها من الجرائم، وذلك حين أوضح أن الجريمة في ارتباطها بالفقر تظهر من اتجاه الفقراء الذكور نحو العدوان على المال أو الجرائم التي توصل إلى الحصول عليه. فيما لو طالت مدة البطالة (وتمكن من بعدها الفقر)، وإذا طالت آثار البطالة الإناث – أو من يعولهم الرجال، اتجه الإجرام في كثير من الحالات إلى الدعارة، أو القوادة، أو التحريض على الفسق والفجور. وبالنسبة للصغار (الأحداث) فإنهم في مثل هذه الظروف يتجهون إلى التشرد والتسول.
وعلى طريق دعم مقولة العلاقة بين البطالة والفقر من ناحية والعلاقة بين الفقر والسلوك الإجرامي من ناحية أخرى، يأتي تأكيد كل من نيسيفورو وبوسكو على أن للفقر دوراً أساسياً في الاتجاه إلى ارتكاب السلوك الإجرامي، كما تأتي رؤية دي تيليو في أن الفقر يصلح بالفعل كدافع للجريمة ولكن بصورة عرضية. ومعنى هذا أن هناك دوافع أخرى تدفع إلى تلك الجريمة، وهي التي سنراها على التو تتمثل في دوافع اجتماعية ثقافية ونفسية.
إن التلازم بين الفقر، وتدني كم الدخل، وانخفاض جودة الحياة ومستويات المعيشة، والبطالة أمر تظهره الشواهد اليومية، ويؤيده المنطق، ويؤكده رهط كبير من المفكرين ابتداء من أرسطو وأفلاطون منذ ما يقرب من أربعة وعشرين قرناً وحتى أيامنا هذه، كما تدعمه الدراسات الميدانية التي أجريت حديثاً. إلا أنه على الرغم من كل هذا فالعالم الاقتصادي – بما يحتويه من عناصر ومتغيرات – ليس هو العامل الحاسم أو الوحيد في هذا المضمار، فهناك عوامل أخرى، بيئية واجتماعية وثقافية ونفسية، تزاحمه في هذا المضمار، رغم أن الكثير منها قد يكون مرده إلى العالم الاقتصادي كذلك بمعنى أن نوعاً من التلاحم والتكامل بين كل هذه العوامل هو وحده القادر في النهاية على إعطاء تفسير قد يكون مقنعاً لسببية الجريمة والإنحراف.
فإذا عدنا الآن إلى العوامل الاجتماعية، المرتبطة بالبطالة أساساً، وتسببها في ارتكاب السلوك الإجرامي، نجد أن البطالة تؤدي في الغالب إلى نوع من العزلة الاجتماعية للعاطل، ومن ثم تضعف علاقاته الاجتماعية وتتضاءل قدرته على التضامن مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيصاب الشخص بالاغتراب، ويتخلى عن التزامه بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة. وانهيار هذه القيم والمعايير لديه قد يؤدي إلى اللجوء إلى قيم ومعايير أخرى توائم ظروفه الجديدة، تصبح مبرراً كافياً للسلوك الانحرافي والإجرامي.
وفي هذا الصدد يذكر عجوة أن سذرلاند قد اشار إلى مقولة عدم الالتزام بالقيم والمعايير حين تأكيده فيما عرف بنظرية الاختلاط التفاضلي (Differential Association Theory) على أن الفعل الإجرامي يقع عندما يتوافر له الموقف المناسب، وهو هنا أن يجد الشخص نفسه عاطلاً عن العمل رغم قدرته عليه ورغبته فيه، مما يحفز على الاختلاط بغيره من العاطلين (الناقمين)، فيكون اتجاههم للانتقام والتعويض، من المجتمع والناس، بالسلوك الانحرافي.
ويرتبط بهذا النوع من الاغتراب ما أوضحه دوركايم من ظهور حالة الأنومي عند العاطل، تفقده الثقة بالمعايير والقيم الاجتماعية السائدة، وتحله من الالتزام بها وتقلل من احترامه لها، فيرتكب الجريمة، كما قد يتجه إلى ارتكاب جريمة الانتحار – خلاصاً من مشاكله، وانتقاماً أيضاً من المجتمع الذي وضعه في أتون المعاناة من البطالة.
جانب اجتماعي آخر من جوانب الارتباط بين البطالة والجريمة يمكن أن يتمثل في العلاقة بين الفراغ والجريمة، فالبطالة تفرز في العادة فراغاً، والفراغ قد يقود بدوره إلى الجريمة والانحراف. فالفراغ عندما يتراكم – كما يذكر السدحان ويصبح عبثاً على الفرد، ولا يتمكن من توظيفه أو استثماره، يكون نقمة بدلاً من أن يكون نعمة، وينقلب على صاحبه ابتداء وعلى المجتمع انتهاء.
وكما يضيف سلطان فإن الفرد هنا يكون أكثر توتراً وأوفر قابلية للإثارة والاستثارة والاستعداد للانحراف.
وعند هذه النقطة يكون من غير المستغرب أن يهتم المجتمع الدولي بوقت الفراغ وينبه إلى أهميته وأهمية استثماره استثماراً إيجابياً، فصدر سنة 1970م الميثاق الدولي لأوقات الفراغ مركزاً على أهمية استثماره الاستثمار الموجب والفاعل، حتى لا يقود إلى سلوكيات انحرافية.
مجال آخر في الجوانب الارتباطية هو المتمثل في العلاقة بين الهجرة والانحراف والجريمة. فإذا كانت البطالة كثيراً ما يتسبب عنها الهجرة (كما وضح قبل ذلك)، وأن الهجرة قد نتج عنها نوع أو آخر من التصدع والتفكك الأسري، فإن جلوك وزوجته في نظريتهما عن الأسرة المفككة يذكران أن المنحرفين ينحدرون في الغالب من أسر تتسم بعدد من الخصائص مثل كثرة التنقل الاجتماعي (وهو نوع من الهجرة)، وغياب أحد الوالدين، وضعف الإشراف والتوجيه.
وفي ذات مجال الهجرة وارتباطها الوثيق بالجريمة، يذكر بدر أن كلمة هجرة كثيراً ما تترادف في معناها مع كلمة أزمة، ويرتبط مفهومها بلفظ مشكلة، وسواء كان هذا – كما سبق إيضاحه – بالنسبة للمجتمع الطارد أو المجتمع الجاذب، على أساس أن المهاجرين في بعض الأحيان والظروف لا يجدون الأعمال في انتظارهم في البلد المتجه إليه، وعلى ذلك يبقون فترة تطول أو تقصر – بدون عمل وبدون مورد رزق – وتحت إلحاح الحاجة قد يلجأون إلى سلوكيات انحرافية.
وفي الوقت نفسه، فإن الكثير من هؤلاء المهاجرين غالباً ما ينشئون – كما تذكر أبو لغد – مناطق هامشية عشوائية خربة وغير نظيفة بيئياً (Slums) ويقيمون فيها، وعادة ما تكون هذه المناطق مرتعاً خصباً للسلوكات المنحرفة.
أما من الناحية النفسية فتؤدي العوامل النفسية التي تصاحب البطالة – خاصة إذا طال أمدها – إلى آثار سلبية على تكوين شخصية العاطل وسلوكه النفسي والاجتماعي. ذلك أن البطالة قد تؤدي إلى تغذية وتقوية شعور الإحباط والفشل لدى العاطل، مما قد يدفعه إلى الانتحار – كما سبق الإيضاح، أو إلى تكوين شعور عدائي نحو الآخرين ونحو المجتمع، يدفعه في النهاية إلى ممارسة سلوكيات منحرفة أو حتى إجرامية.
ويذكر عجوة أن أنصار النظريات النفسية في تفسير السلوك الإجرامي، بزعامة كل من فرويد وآدلر ويونج، يؤكدون تطور ذلك الشعور النفسي بالإحباط والفشل والضياع إلى تغيرات بيولوجية وعضوية تساعد على ممارسة السلوك الإجرامي. كما أن البطالة قد ترتبط – من خلال تلك العلاقة النفسية المتسمة بالفشل والإحباط والضياع – بإدمان المخدرات والمسكرات، وقد يدفع هذا أيضاً إلى ارتكاب جرائم معينة كالاعتداء على الأموال والأشخاص والأخلاق.
وتؤيد الدراسة الإحصائية التي قام بها درويش ، تؤيد هذا التوجه حين بينت في النتائج التي توصلت إليها أن جرائم العاطلين ترتبط ارتباطاً قوياً بالجرائم التي يكون القصد الجنائي من ارتكابها هو الحصول على مال (كالسرقة بالإكراه، وسرقة المساكن والمتاجر والسيارات، إضافة إلى الاتجار بالمخدرات)، كما ترتبط بالجرائم الأخلاقية، وخاصة ما تعلق منها بالاغتصاب وهتك العرض. وعلى الجانب الآخر، ترتبط جرائم البغاء وتشرد الأحداث بعوامل التفكك الاجتماعي والأسري وضعف سلطة الوالدين (وكل هذه قد تكون من نتائج الهجرة، التي قد تكون نجمت أيضاً عن البطالة).
2- العلاقة بين البطالة والجريمة في تشريعات الدول والتقارير الدولية:
تقدم الدول تقارير عن البطالة والآثار الناجمة عنها، كما تسن بعضها القوانين وتضع النظم المتعلقة بالبطالة، وهذه يمكن أن تدخل في باب الإطار التنظيري المتعلق بالكشف عن العلاقة بين البطالة والجريمة – رغم أن هذه التقارير وتلك القوانين والنظم تعتبر مزيجاً من التوجهات النظرية المتفاعلة مع الممارسات العملية.
في جانب التقارير، قدم الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً لمؤتمر كاراكاس (بفنزويلا) سنة 1980م جاء فيه “أن البطالة – إلى جانب الفقر والأمية (وهما ناتجان في الغالب عن البطالة)، والتمييز العنصري، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، تمثل عوامل مؤدية للإجرام بصورة عامة، وعلى الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة العمل على إزالتها”.
وفي التقرير المقدم من الأمانة العامة للأمم المتحدة للمؤتمر السابع للأمم المتحدة، المنعقد سنة 1985م، كانت البطالة، والفقر، وعدم الشعور بالرضا لعدم إمكانية تلبية الحاجات الأساسية، والهجرة (وكل هذه غالباً ما تكون على علاقة مباشرة بالبطالة)، إلى جانب فقدان العدالة الاجتماعية، والنزاع (الصراع) بين الطبقات الاجتماعية، والتوزيع غير العادل للثروة، وسوء الخدمات، وسيطرة فئة من الناس بيدها الثروة والسلطة على سائر الفئات، واستغلال الجماهير، وعدم تكافؤ الفرص أمام الأفراد، وخيبة الأمل تجاه جهود التنمية، إضافة إلى الكوارث الصادرة عن تصرفات الإنسان، وصرامة القوانين وعدم توافقها مع تطلعات الناس ومفاهيمهم، والنزاعات الداخلية والحروب الخارجية، والاحتلال الأجنبي… كانت البطالة – إلى جانب هذه العوامل – أحد أسباب الإجرام.
وعربياً، توافقت المذكرة التي قدمتها دولة لبنان إلى اللجنة المكلفة بوضع الخطة الأمنية العربية الثانية، في اجتماع عقد بتونس سنة 1985م، توافقت مع ما ورد سابقاً من أن الجريمة هي دوماً حصيلة خلل في مقومات الحياة الاجتماعية، وأن أبرز المشكلات التي تمس بالأمن العربي هي تلك المشكلات الناتجة عن البطالة والفقر والجهل والتفكك الأسري، ومشكلات أخلاقية ناتجة عن الانحلال الخلقي وانتشار الخوف والقلق. (وكل هذه – كما رأينا – وثيقة الصلة بالبطالة أساسا)، إلى جانب مشكلات اقتصادية ناتجة عن التقلبات الاقتصادية المفاجئة والإثراء غير المشروع والغش والغلاء والاحتكار، ومشكلات فكرية ناتجة عن انتشار المطبوعات التي تمس بالفكر العربي، وكذلك مشكلات أمنية ناتجة عن ضعف الرقابة الأمنية.
ومهما يكن من أمر، فإنه يتضح مما سبق أن البطالة قد شكلت قاسماً مشتركاً أعظم بين العوامل التي تقود إلى السلوك الإجرامي، وسواء كان ذلك بالطريق المباشر أو غير المباشر، وسواء أيضاً كانت وحدها أو متلاحمة مع عوامل أخرى.
أما في جانب التشريعات والمواثيق واهتمامها بالبطالة وكشف الصلة بينها وبين الجريمة، فإن هذا يتضح من اعتبار البطالة عامة والتبطل خاصة جريمة في حد ذاتها، وذلك استناداً إلى التشريعات والمواثيق التي تجعل العمل حقاً لا بد من توفيره للمواطن، كما أنه واجب على المواطن أن يؤديه، وإذا كانت هذه التشريعات وتلك المواثيق تجرم التبطل – أو تقاعس أو قعود أو امتناع الفرد عن أداء واجبه في مجال العمل، فإنه منتظر أن يمتد التجريم ايضاً إلى تقاعس الدولة والمجتمع وعدم توفيرها فرص العمل اللازمة للمواطنين، حيث أن كلا الاتجاهين – قعود المواطن عن العمل أو تقعيده – له صلة بالظاهرة الإجرامية.
وعلى أساس من هذا، فإن مبادئ العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، المعتمدة من الأمم المتحدة في عام 1966م والمنفذة عام 1976م، تنص في البند الأول من المادة السابعة – على سبيل المثال – على أن تتاح لكل شخص فرصة كسب رزقه بعمل يختاره أو يقبله بحرية، وأن تصون الدولة هذا الحق. كما أن الاتفاقية الدولية الخاصة بالعمالة، المعتمدة أيضاً سنة 1966م، قد نصت في مادتها الأولى (بند 2/أ) على أن يكون هناك عمل متاح لجميع أولئك المستعدين للعمل والباحثين عنه.
وعربياً، فإن الميثاق العربي لحقوق الإنسان، الموضوع سنة 1985م، ينص في مادته السابعة عشرة على أن تكفل الدولة لكل مواطن الحق في عمل يضمن له مستوى معيشي يؤمن المطالب الأساسية للحياة.
وعلى وجه العموم، فإن هذا التجريم للتبطل، (ونقول: إنه من المفترض أن يكون للبطالة عامة)، ليس اتجاهاً حديثاً، حيث اتجهت كثير من الدول في تشريعاتها إلى تجريمه منذ عقود طويلة، وحتى قبل صدور هذه المواثيق المشار إليها، ومثال ذلك ما هو حادث في التشريع المصري، والقانون رقم 98 لسنة 1945م، والقوانين المعدلة له، رغبة في الوقاية من جرائم مستقبلية، لأن من يتبطل عن العمل، دون أن يكون له مورد للرزق، يسعى في كثير من الحالات إلى تدبير موارد لتلبية حاجاته بطرق غير مشروعة – قد تكون الجريمة من بينها.
3- العلاقة بين البطالة والجريمة في الدراسات الميدانية:
أجريت حديثاً دراسات ميدانية في الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا، كما جرت بعض منها في الدول العربية، لاستكشاف العلاقة بين البطالة والجريمة، إلا أن أياً من هذه الدراسات لم يكن في استطاعته القطع بوجود أو عدم وجود علاقة مباشرة بينها، وإن جاءت بعضها لتؤكد على وجود علاقة غير مباشرة بين الاثنين.
وعلى الرغم من هذا، فإن عجوة يوضح أن الدراسات التطبيقية التي أجريت في هذا الصدد تشير إلى أن البطالة تحتوي على بذور الجريمة بذاتها لأنها تتضمن العناصر الانحرافية الآتية:
1- عدم استقرار العلاقات الاجتماعية للعاطل، وتقلبها مكانياً وزمانياً.
2- تحلل أساليب الرقابة وموانع الجريمة الذاتية في داخل العاطل.
3- تركز وتذكي عوامل الضياع وطغيان الشعور بالإحباط وخيبة الأمل لدى العاطل.
4- ابتعاد (اغتراب) العاطل عن المجتمع وقيمه السائدة نتيجة شعوره بالوحدة والعزلة والنبذ.
وهذه جميعاً عوامل تؤدي – تحت ظروف معينة (ظروف الموقف المناسب) السابق الإشارة إليه – إلى الجريمة.
إن النتيجة التي نستطيع إعلانها منذ البداية في هذا الصدد هي أن الجدل مازال محتدماً سواء بين التنظيريين والميدانيين أو داخل كل فريق من الفريقين على حدة في مجال العلاقة المأمول اكتشافها بين البطالة والجريمة، وإلى الدرجة التي نستطيع معها القول أن الاختلاف بين هؤلاء جميعاً يكاد يعادل الاتفاق الذي يمكن أن نلمسه بينهم.
وعلى سبيل المثال، فإنه في الوقت الذي أكد فيه كل من الإيطالي فورنازاري والفرنسيان لافارج وكور والبريطانيان بوث وراونتري والأمريكيان سيلين وبارميلي وغيرهم أن الفقر، وهو في الأغلب الأعم ناتج عن البطالة، عامل أساسي لا يمكن إغفاله في رفع معدلات الجريمة – وخاصة جرائم بعينها (مثل جرائم الاعتداء على الأموال والأشخاص)، وفي الوقت الذي رأينا فيه أيضاً الإيطالي دي فيرس يؤكد أن نسبة تتراوح بين 85 – 90% من المحكوم عليهم في المؤسسات الإصلاحية ينتمون إلى الطبقات الفقيرة، فإن الإيطالي دي تيليو قد ذهب إلى أن الفقر لا يصلح دافعاً للجريمة إلا بصورة عرضية، ثم يأتي الأمريكي سذرلاند ليؤكد على هذا إحصائياً حين يبين أن أقل من 2% من المسجونين ينتمون إلى الطبقات الفقيرة.
والدراسات الميدانية التي تعاملت مع محاولة الكشف عن العلاقة بين البطالة والجريمة غير وفيرة، وسواء كان هذا على المستوى العربي أو المستوى غير العربي. ونبادر هنا إلى الإشارة إلى البعض الأهم على كلا المستويين المذكورين. وإذا كنا سنركز أكثر على المستوى العربي، فلصلة هذه الدراسات بالمجال المكاني والبيئات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية للدراسة الحالية.
أ – العلاقة بين البطالة والجريمة في الدراسات الميدانية غير العربية:
لم تكشف المراجع المتاحة عن وجود دراسات ميدانية تعاملت مع موضوع العلاقة بين البطالة والجريمة بشكل صريح ومباشر. وفي المقابل كشفت عن وجود كثير من الدراسات الميدانية التي تعاملت مع البطالة وعلاقتها بالجريمة في إطار متكامل من العوامل التي تضمنت البطالة كعامل له وزنه بينها، أو العوامل الناتجة عنها (البطالة).
من الدراسات الأولى التي أجريت في هذا المجال الدراسة التي قام بها بوث، بالتطبيق على سكان مدينة لندن في الفترة من 1886 – 1902م، للوقوف على العوامل المؤثرة في انحراف الأحداث، وتوصل فيها إلى أن أكثر من نصف الأحداث الجانحين جاءوا من عائلات فقيرة، وأن 19% من هذه العائلات تدخل في إطار دائرة الفقر المطلق.
دراسة أخرى، تعد أيضاً من أوائل الدراسات الميدانية في هذا المجال، هي الدراسة التي قام بها دي فيرس للوصول إلى دوافع السلوك الانحرافي والإجرامي، اشتملت على عدد كبير ومتنوع من الجرائم التي ارتكبتها عينة محددة في أربع دول هي أستراليا وأيرلندا وإيطاليا وبريطانيا، ووصلت إلى نتيجة مقاربة للنتيجة التي أسفرت عنها دراسة (بيرت) ومؤيدة لأثر عامل الفقر في الدفع إلى الجريمة.
من الدراسات الهامة أيضاً في ذات المجال الدراسة التي أجراها رادزينوفتس، ودارت حول العلاقة بين المتغيرات الاقتصادية (سواء في حالة الانكماش أو في حالة الانتعاش الاقتصادي) وبين بعض الجرائم، وتوصلت إلى أن معظم مرتكبي الجرائم (السرقة بالذات) كانوا من العاطلين عن العمل. ويلاحظ أن هذه الدراسة هي واحدة من الدراسات القليلة التي ربطت مباشرة بين البطالة والجريمة (وبالتحديد جريمة السرقة).
هناك دراسة أخرى لها أهميتها في هذا المجال، وهي الدراسة التي قام بها رينمان في الفترة من 1923 – 1945م عن أثر الأزمات الاقتصادية، طبقت بمدينة فيلادلفيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وتوصلت إلى ما يؤيد عدم القطع بأثر الأزمات الاقتصادية (بما فيها البطالة) في معدلات ارتكاب الجرائم، حيث وضح بالدراسة أنه في الفترة من 1923- 1929م كان هناك رخاء اقتصادي عال (بمعنى انخفاض معدلات البطالة)، وكانت نسبة المنحرفين متوسطة أو عادية. وخلال الفترة من 1930 – 1935م كانت هناك أزمة اقتصادية عنيفة، وكانت نسبة المنحرفين عالية. وخلال الفترة من 1936-1940م كان هناك أداء اقتصادي عادي. بمعنى لا أزمة ولا رخاء، وكانت نسبة المنحرفين منخفضة. وخلال الفترة من 1941-1945م كان هناك رخاء اقتصادي، وكانت نسبة المنحرفين عالية، والمعنى النهائي أنه لا علاقة بين الرخاء الاقتصادي أو الكساد الاقتصادي والجريمة، فهناك جرائم في الحالتين وقد تكون مرتفعة المعدلات أو منخفضة.
وفي ذات مجال العوامل والمتغيرات الاقتصادية (والتي تتضمن البطالة والفقر أساساً) وتأثيرها في نسبة جرائم القتل بالذات، قام كرامن وزملاؤه (1982) بإجراء دراسة اعتمدت على تحليل الإحصاءات التي توفرت في سبعين بلداً، ووضح خلالها أن التفاوت الكبير في الدخل بين أفراد المجتمع أساساً توافقه نسبة مرتفعة لجرائم القتل، وأن هذا التفاوت قد نتج أصلاً – كما ثبت في دراسات سابقة (كما يضيفون) عن الحرمان المطلق والفقر المدقع نتيجة لوجود أعداد ضخمة من العاطلين المقهورين في المجتمع، ويكون هذا سبباً لارتكاب جرائم القتل. إن هؤلاء الفقراء المجرمين – كما يوضح معدو الدراسة – يقدمون على الجريمة من أجل الحصول على وضعية اقتصادية أفضل. فهم يفكرون وينطلقون من منطلق أنه ليس لديهم شيء يخسرونه، بل وربما تمكنوا من ربح أي شيء.
وإذا كنا في مجال الدراسات الحديثة فهناك دراسات قام بها كل من شانون سنة 1981م، وجرينوود سنة 1983م، ووست سنة 1986م، لاستخلاص بعض المؤشرات للتنبؤ بالعود إلى الإجرام، عرضها بالتفصيل مركز أبحاث مكافحة الجريمة، ووضح فيها أن البطالة طويلة المدة (نسبياً) – تحتل موقعاً بارزاً بينها وبشكل مباشر، وذلك إلى جانب مؤشرات أخرى غالباً ما تكون – أو بعضها – ناجمة عن البطالة مثل التفكك الأسري والارتباط برفاق منحرفين.
ب – العلاقة بين البطالة والجريمة في الدراسات الميدانية العربية:
أشرنا إلى أن عجوة قد ذكر أنه قد أجريت بالعالم العربي بعض الدراسات التطبيقية بين عدد من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية من ناحية وبين الجريمة من ناحية أخرى، إلا أنها لم تركز على بحث علاقة البطالة كظاهرة منفصلة ومستقلة بذاتها بالجريمة. كما ذكر أيضاً أنه لم تقع تحت يديه ما يدل على أن دراسة شاملة تربط بين البطالة كسبب ومتغير مستقل وبين الجريمة على مختلف أنواعها كنتيجة ومتغير تابع. وهذا يعني أن دراسته التي نشرت سنة 1406هـ تحت عنوان (البطالة في العالم العربي وعلاقتها بالجريمة) تعتبر أول دراسة تجرى للكشف عن العلاقة بين البطالة والجريمة على مستوى العالم العربي. ونحن هنا في هذه الدراسة نؤمن على ما ذكره، حيث لم تصادفنا أيضاً أية دراسة في ذات الموضوع على المستوى العربي، باستثناء الدراسة المكتبية التي كلف سليم بالقيام بها من قبل أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية تنفيذاً لتوصية الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، وعلى هذا الأساس فإن الدراسة الحالية تأتي استجابة للمطالب الملحة في هذا الصدد، لتكون ثاني دراسة ميدانية في مجال العلاقة بين البطالة والجريمة على المستوى العربي تنفيذاً لقرار مجلس وزراء الداخلية العرب الذي أوصى فيه بأن تقوم أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية بالرياض باستكمال بحوثها عن البطالة في العالم العربي.
فإذا اتجهنا إلى التعامل مع الدراسات الميدانية التي عالجت مقولة العلاقة بين البطالة والجريمة، فإنه يكون من المناسب أن نتدرج فيها من العام إلى الخاص، بمعنى الإشارة إلى الدراسات التي أجريت على مستوى العالم العربي ككل أولاً، ثم نتجه بعد ذلك للإشارة إلى الدراسات التي أجريت على مستوى بعض الدول العربية منفردة.
أولى الدراسات الميدانية في هذا المجال هي الدراسة التي أجراها عجوة سنة 1406هـ تحت عنوان (البطالة في العالم العربي وعلاقتها بالجريمة) بالتطبيق على ثلاث دول عربية هي تونس والسودان ومصر، وتوصلت إلى نتائج تتلخص في أن البطالة تؤدي إلى السلوك الإجرامي لدى العاطل إذا ما ارتبطت بعوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية على الوجه الآتي:
أولاً: العوامل الاقتصادية:
1- تدني مستوى المهارة العملية (المهارة المهنية) للمجرم العاطل يترتب عليها انخفاض دخله من جهة وسهولة الاستغناء عنه من جهة أخرى.
2- انخفاض دخل المجرم العاطل من عمله كان أهم دافع له لترك العمل باختياره.
3- امتداد فترة البطالة لمدة طويلة لدى المجرم العاطل قد تؤدي به إلى مواجهة حالة من العوز والفاقة بصورة مستمرة ولاسيما إذا كان عائلاً لأسرة.
4- لا يكون للمجرم العاطل في العادة أي دخل يستعين به على مواجهة مطالب الحياة اليومية له ولأسرته.
5- في الحالات القليلة التي لجأ فيها المجرم العاطل إلى المؤسسات لطلب المساعدة، عانى من سوء المعاملة وطول الإجراءات وعقمها، إضافة إلى ضآلة المساعدات المالية، مما يجعل المشكلة المادية التي يواجهها مشكلة اجتماعية ونفسية أيضاً، تدفعه إلى العزلة الاجتماعية والانسحاب من المجتمع.
6- ونتيجة لمحصلة ما سبق، يتجه المجرم العاطل إلى ارتكاب الجريمة، بهدف مواجهة أزمته المالية التي سببتها البطالة.
هذا وقد اتضح في هذا الصدد أن اكثر من 60% من الجرائم التي يرتكبها المجرم العاطل قد تمت بدافع الحاجة إلى المال.
ثانياً: العوامل الاجتماعية (والثقافية):
1- انتشار الأمية والإعاقات الجسدية بين المجرمين العاطلين يقلل من مهاراتهم العملية ويقلل من دخولهم.
2- تميز الخلفية الأسرية للمجرم العاطل بالتفكك الملحوظ في العلاقات الأسرية والعلاقات الاجتماعية بصفة عامة بشكل مستمر، وكذلك إتسام أسرته بارتفاع نسبة البطالة والجرائم بين أفرادها.
3- اتسام الأحياء السكنية التي يقيم بها المجرم العاطل بانتشار الجريمة وإيواء المجرمين والهاربين من وجه العدالة.
4- ميل المجرم العاطل إلى مخالطة جيران وأصدقاء يتسمون بالسلوك الإجرامي.
5- ضعف الوازع الديني لدى المجرم العاطل.
6- نزوع المجرم العاطل إلى الهجرة الداخلية بحثاً عن العمل، إلا أنه سرعان ما يتركه.
7- ظهور مظاهر العزلة الاجتماعية لدى المجرم العاطل، وهذا يتمثل بعضها في سوء علاقته بزملاء العمل وجيران السكن.
ثالثاً: العوامل النفسية:
1- هروب المجرم العاطل من واقعه باللجوء إلى تعاطي المكيفات ولعب القمار.
2- خضوع المجرم العاطل بدرجة كبيرة لتأثير الأصدقاء من المجرمين، بمعنى سهولة استهوائه. فإذا كان معظم هؤلاء الأصدقاء من المجرمين والعاطلين عادة، تكرست البطالة والجريمة لديه أكثر، وبحيث يتخذ من التعطل والجريمة أسلوباً لحياته، وتتدهور لديه القيمة الاجتماعية للعمل.
3- سيطرة الشعور بالفشل والإحباط واليأس والقنوط على المجرم العاطل، فتقل مقاومته ولا يقوى على الصمود للتحدي الذي فرضته البطالة، ويسقط تدريجياً إلى قاع الجريمة، ويظل فيه.
دراسة أخرى أجريت على مستوى الوطن العربي ويمكن أن تدخل بطريق غير مباشر في إطار أدبيات دراستنا وهي الدراسة التي قام بها الربايعة لاستكشاف أثر الثقافة والمجتمع في دفع الفرد إلى ارتكاب الجريمة، والتي أجراها بالتطبيق على ثلاث دول عربية هي الأردن والسودان والمغرب، ونشرت سنة 1404هـ، وثبت فيها أن 50% من مرتكبي الجرائم قد ارتكبوا جرائمهم بسبب الفقر (وهو الناتج – كما أوضحنا – غالباً عن البطالة). فمن بين أربعة عشر عاملاً من العوامل المسببة للجريمة، احتل الفقر المرتبة الأولى، ومثل نسبة قدرها 22%، فيما وصل متوسط العوامل الأخرى (كالشعور بالظلم والرغبة في الانتقام…) إلى 6% فقط.
وفي الوقت ذاته، فقد كشفت الدراسة أيضاً عن أن هناك علاقة بين الظروف الأسرية والسلوك الإجرامي، حيث وضح أن نسبة من أفراد العينة كانوا يعيشون في ظل ظروف أسرية تتسم بالتفكك الأسري وضعف العلاقات والروابط الأسرية بين افرادها، كما تبين أن الحرمان والهجرة والطلاق والانفصال عن الأسرة (البعد عنها) وعدم مقدرة الوالدين على إشباع احتياجات الأسرة وتشغيل صغار السن (وكلها رأيناها على ارتباط عضوي بالبطالة) قد لعبت جميعها دوراً واضحاً في دفع الفرد إلى السلوك الإجرامي.
فإذا اتجهنا الآن إلى الدراسات الميدانية التي أجريت على المستوى الأحادي للدول العربية، فسنجد منها المباشر – الذي تعامل مع العلاقة بين البطالة والجريمة بشكل صريح، كما سنجد منها غير المباشر – الذي تعامل مع هذه العلاقة بشكل غير مباشر، أي بالتعامل مع عناصر أو متغيرات وعوامل على صلة وثيقة بالبطالة.
أولى هذه الدراسات المباشرة هي الدراسة التي أجراها مركز بحوث الشرطة بأكاديمية الشرطة بالقاهرة للوقوف على العلاقة بين البطالة والجريمة بمصر في الفترة من 1983م إلى 1990م، وقد اسفرت النتائج عن وجود ارتباط طردي قوي بين كل معدلات ارتكاب الجرائم بصفة عامة ومعدلات البطالة، وكذا الاتجاه نحو التزايد المستمر في حجم الجرائم التي يرتكبها العاطلون خلال السنوات المقبلة. كما اتضح وجود ارتباط طردي أيضاً بين معدلات البطالة وجرائم السرقة بمختلف أنواعها وجرائم الاغتصاب وهتك العرض وبين دافع الحصول على المال وإشباع الحاجات الأساسية وكذلك الحاجات الجنسية.
دراسة أخرى مباشرة أشار إليها مركز بحوث الشرطة في الدراسة المعنونة بـ(البطالة والأمن) وهي دراسة اعتمدت في الأصل على الإحصاءات التي حُصل عليها من وزارتي القوى العاملة والتخطيط بمصر عن السكان والقوة العاملة والقوة العاطلة عن العمل خلال عشر سنوات امتدت من عام 1986 – 1995م وقد تلخصت أهم نتائجها في الآتي:
1- وجود ارتباط طردي إيجابي قوي (مقداره 0.9704) بين السكان والعاطلين عن العمل – وبنفس النسبة تقريباً، والعكس صحيح، وهذا يعني تواضع جهود التنمية وعدم تمكنها من إيجاد فرص العمل اللازمة لقوة العمل المضافة.
2- وجود ارتباط طردي إيجابي قوي (مقداره 0.6971) بين قوة العمل والعاطلين عن العمل، بمعنى أن أية زيادة تحدث في قوة العمل – في ظل ثبات العوامل الأخرى – ترتبط بزيادة عدد العاطلين عن العمل وبنسبة قريبة جداً، والعكس صحيح، وهذا يعني أن سوق العمل غير قادر على استيعاب الزيادة التي تحدث في قوة العمل – والناتجة عن زيادة السكان – مما يؤدي إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل.
3- ارتباط جرائم العاطلين عامة ارتباطاً قوياً بالجرائم التي يكون القصد الجنائي من ارتكابها هو الحصول على مال، وهي جرائم السرقة بالإكراه، والإتجار في المخدرات، وجنح سرقات المساكن والمتاجر والسيارات، وتفصيلها كالآتي:
أ) وجود ارتباط قوي للغاية بين جريمة السرقة بالإكراه والبطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط بين المتهمين المرتكبين لتلك الجرائم وعدد العاطلين عن العمل إلى 0.9 خلال الفترة الزمنية للدراسة، بمعنى أن أي زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة، وبنفس الزيادة تقريباً، والعكس صحيح.
ب) وجود ارتباط متوسط بين جناية هتك العرض والاغتصاب والبطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط بين المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة وعدد العاطلين عن العمل إلى 0.67 خلال الفترة الزمنية المذكورة، بمعنى أن أية زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة والعكس صحيح.
ج) وجود ارتباط قوي بين جريمة تعاطي المخدرات والاتجار فيها وبين البطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط بين المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة وعدد العاطلين عن العمل إلى 0.8 خلال نفس الفترة الزمنية، بمعنى أن أية زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة، وبنفس نسبة الزيادة تقريباً، والعكس صحيح.
د) وجود ارتباط قوي بين جنح سرقات المساكن والبطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط بين المتهمين بارتكاب تلك الجريمة وعدد العاطلين عن العمل إلى 0.73 خلال فترة الدراسة. بمعنى أن أية زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة، وبنفس نسبة الزيادة، والعكس صحيح.
هـ) وجود علاقة ارتباط قوي للغاية بين جنحة سرقات المتاجر والبطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط إلى 0.94 خلال الفترة الزمنية المرصودة، بمعنى أن أية زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة، والعكس صحيح.
و) وجود ارتباط فوق المتوسط بين جنح سرقات السيارات والبطالة، حيث وصلت قيمة معامل الارتباط بين المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة وعدد العاطلين عن العمل إلى 0.7 خلال الفترة الزمنية الموضحة، بمعنى أن أية زيادة في أعداد العاطلين تؤدي إلى حدوث زيادة في أعداد المتهمين المرتكبين لتلك الجريمة، وبنفس نسبة الزيادة تقريباً، والعكس صحيح.
4- وجود ارتباط قوي بين جرائم البغاء وتشرد الأحداث بعوامل التفكك الاجتماعي والأسري وضعف رقابة الوالدين (وهذه – كما سبق أن أوضحنا – غالباً ما تكون راجعة إلى الهجرة من ناحية، أو عدم التمكن من تلبية الحاجات، ومن ثم التمرد على سلطة الأب، الذي قد يفقد كيانه لعدم استطاعته، أي لبطالته) من ناحية أخرى.
ويستخلص من هذه النتائج مجتمعة وجود علاقة ارتباطية فعلية وقوية بين البطالة واقتراف الجرائم والجنح، وبشكل طردي، وأنه كلما زاد عدد العاطلين عن العمل زاد بالفعل عدد المرتكبين للجرائم والجنح والسلوكيات الانحرافية عامة، كما يتوقع زيادتها طردياً مستقبلاً – إذا سارت الأمور على ما هي عليه، أي دون أن تحدث تغيرات هيكلية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية كذلك في بناء أية دولة عربية على حدة أو في بنائها ككل واحد مأمول.
هناك دراسات ميدانية أخرى متفرقة على المستوى الأحادي للدول العربية، تعاملت مع البطالة ضمناً من خلال عوامل متعددة ذات علاقة ارتباطية بالبطالة والجريمة، كالتركيز على جريمة بعينها، أو التعامل مع التصنيع والهجرة أو وقت الفراغ أو غير ذلك، ونبادر هنا إلى عرض خلاصات لها.
فهناك الدراسة الإحصائية التي أجراها عويس وزملاؤه سنة 1965م عن جريمة النشل في محيط النساء بمحافظة القاهرة، ووضح من خلالها أن البطالة المتفشية في أسر النشالين والنشالات يقوم كواحد من أهم التفسيرات لزيادة جريمة النشل زيادة كبيرة في مدينة القاهرة.
وهناك دراسة ميدانية قام بها علي محمد خيري سنة 1965م ايضاً، للكشف عن العلاقة بين التصنيع والتحضر وبين الجريمة، بالتطبيق على عينة حضرية وأخرى ريفية من بين المواطنين المصريين، وتبين منها أن البطالة وقلة الدخل كانتا أهم الأسباب التي دفعت أفراد العينتين إلى الجريمة.
وهناك دراسة ميدانية تالية نفذها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة سنة 1967م، للكشف عن العلاقة بين بعض المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وبين الجريمة وكانت البطالة محل دراسة فيها، وقد جاءت النتائج مشيرة إلى أن الغالبية العظمى من المهاجرين قد عملوا بحرف يدوية بسيطة، لا تدر عليهم دخلاً ذا قيمة (بمعنى عدم كفايته)، وأنهم لا يصادفون فرص العمل بسرعة وسهولة (أي كثيراً ما يكونون عاطلين). وكان لكل هذا أثر في الاتجاه إلى السلوكيات الانحرافية والإجرامية.
هناك كذلك الدراسة التي قام بها السدحان لاستقصاء علاقة وقت الفراغ بانحراف الأحداث، أجريت سنة 1413هـ بالمملكة العربية السعودية، وطبقت بمدينة الرياض على مائة حدث من المنحرفين ومثلهم من الأسوياء، ووضح منها أن هناك علاقة طردية – ذات دلالة إحصائية عالية – بين وقت الفراغ والانحراف، بمعنى أن الزيادة في أوقات الفراغ – والذي رأيناها غالباً ما تكون ناتجة عن البطالة في دراستنا، يهيء للمنحرف مزيداً من الوقت ومن الفرص للجنوح.
يؤيد هذا ما ذكره السيف من ان الدراسات في علم اجتماع الجريمة، التي أجريت في المجتمع السعودي، قد أثبتت أن ظاهرة الجنوح والجريمة ترتبط بحجم وقت الفراغ، وأشار إلى أنه قد تبين من دراسة قام بها الفالح أن معظم متعاطي المخدرات المحكومبين بإصلاحية الحائر بالرياض كان لديهم وقت فراغ يتعدى الخمس ساعات في اليوم الواحد، وأن الكثير من المحكومين قد ذكروا صراحة أن وقت الفراغ عامل رئيسي في تعاطيهم المخدرات، كما ذكر أنه في دراسته للعوامل الاجتماعية المرتبطة بنمط الجريمة الجنسية وضح أن هناك علاقة طردية بين وقت الفراغ وهذه الجريمة. فقد وجد أن 40.1% من المحكوم عليهم في جرائم جنسية لديهم أوقات فراغ تمتد في اليوم الواحد من 7-12 ساعة، وأن 35% لديهم 12 ساعة وأكثر وقت فراغ.
والخلاصة التي يمكن الخروج بها من كل ما عرض من دراسات نظرية وميدانية هي أن البطالة على علاقة بشكل مباشر وبشكل غير مباشر بالجريمة، تقود إليها وتسببها سواء كانت منفردة بذاتها، أو متلاحمة مع عوامل أخرى أنتجتها أو نتجت عنها، وبحيث نستطيع إعادة التأكيد على ما سبق قوله من أن البطالة تعتبر في حد ذاتها مشكلة، ولكنها مشكلة نتجت عن مشاكل أخرى، كما أنها تنتج مشاكل (متلاحمة) أخرى وعلى رأسها الانحراف والجريمة، واختصاراً يمكن القول أن:
1- البطالة في حد ذاتها مشكلة قد تقود منفردة إلى السلوك الانحرافي والإجرامي.
2- البطالة (رغم أنها مشكلة في حد ذاتها) تنتج عن مشكلات أخرى قد تقود أي منها منفردة أو بالتلاحم مع غيرها إلى السلوك الانحرافي والإجرامي.
3- البطالة (رغم أنها مشكلة، وناتجة عن مشكلات أخرى) تنتج مشكلات أخرى قد تقود أي منها منفردة أو متشابكة مع غيرها إلى السلوك الانحرافي والإجرامي.
ويمكن توضيح هذه العلاقة بين العوامل المسببة للبطالة والعوامل الناتجة عنها والتي من شأنها أن تؤدي في النهاية إلى الجريمة والانحراف.
العوامل المسببة للبطالة
البطالة، مثلها مثل أي متغير اجتماعي (Social Variable)، يصعب ردها إلى عامل واحد. فالعوامل التي تتسبب في أية مشكلة – وضمنها مشكلة البطالة – عادة ما تتعدد وكثيراً أيضاً ما تتداخل. وصحيح أنها قد تختلف من موقع إلى آخر ومن موضع إلى آخر ومن فكر إلى غيره، ولكنها تبقى في كل الأحوال متعددة ومتداخلة.
إن هذا التعدد والتداخل يظهران في الكثير من الأدبيات التي تعاملت مع هذه الجزئية، ورغم هذا فهناك ما يشبه الاتفاق بين المهتمين بهذا المجال على عوامل أساسية وأخرى فرعية تقف وراء تفاقم مشكلة البطالة.
العوامل الأساسية تتمثل في النمو السكاني المتسارع، قصور جهود التنمية، تواضع الأداء الاقتصادي، التقدم التكنولوجي، وارتفاع الأجور.
أما العوامل الفرعية فتنحصر أساساً في تشغيل صغار السن، رفع سن التقاعد، تزايد معدلات خروج المرأة في مجال العمل، الاستعانة بالأيدي العاملة غير الوطنية، وضع القيود على الهجرة إلى الخارج.
ونستعرض هذه العوامل بإيجاز، مع مناقشة وضعها في ظروف الوطن العربي.
أولاً: النمو السكاني:
يمثل النمو السكاني المتسارع، وخاصة في العصر الحديث، أهم معوقات التنمية عامة، كما يقف كسبب رئيسي في ارتفاع معدلات البطالة خاصة. فارتفاع معدلات المواليد، مع انخفاض معدلات الوفيات، نتيجة لزيادة الدخول، وتحسن المستويات المعيشية والغذائية، وارتفاع معدلات التعليم، وزيادة الوعي، وتحسن المستوى الصحي، وارتفاع متوسطات الأعمار…، يزيد بطبيعة الحال من أعداد الأفراد النشطين اقتصادياً. فإن لم تكن معدلات التنمية، ومعدلات النمو الاقتصادي، موازية – أو على الأقل مناسبة – للنمو السكاني، كانت هناك فجوة بين فرص العمل المطلوبة وفرص العمل المتاحة أو المعروضة، وحدثت البطالة.
وباستعراض الظروف التي سادت، وما زالت تسود، الوطن العربي، نجد أن هذه المقولة تكاد تنطبق برمتها عليه، فمعدلات النمو (الاقتصادي) لم تلاحق – في الخمس عشرة سنة الأخيرة – نمو القوة العاملة. وعلى سبيل المثال فإنه في الوقت الذي سجل فيه النمو الاقتصادي في مجموعة من الدول العربية (متوافرة البيانات) معدل 1.65% في الخمس عشرة سنة الواقعة بين 1980 و1994م، كان نمو قوة العمل أسرع منه حيث سجل معدل 3.96% في نفس الفترة، بمعنى وجود فجوة بطالة تقدر بحوالي 2.3%.
ثانياً: قصور جهود التنمية وتواضع الأداء الاقتصادي:
التنمية (Development) – في أحد تعريفاتها – هي زيادة في فرص حياة بعض الناس، شريطة عدم نقصانها من بعض آخر في نفس الوقت.
وطبقاً لهذا فإن الدولة بكل أنساقها وقطاعاتها تكون مناطة بهذه المهمة. فحين تكون معدلات الأمية – مثلاً – مرتفعة، يكون زيادة فرص التعليم أمراً مطلوباً. وحين تكون معدلات الوفيات مرتفعة يكون المطلوب هو زيادة الرعاية الصحية وتحسين مستويات التغذية والمعيشة… وهكذا. وفيما يتعلق بمجال دراستنا، فإنه حين تكون معدلات البطالة مرتفعة، يصبح من الضروري طرق كل السبل واستخدام كل الوسائل لإيجاد فرص عمل لمريديها.
وفي الوقت الذي يكون قيام مؤسسات الدولة بهذا المهام من الأمور المقدرة بداهة، فإن بعض الظروف قد تحول دون التمكن من القيام بها، أو حتى القيام بها ولكن ليس بالشكل الفاعل المأمول.
وبالنسبة للوطن العربي، فإنه – كما يذكر زكي – كانت الاقتصادات العربية، قبل تفجر ثورة النفط في عام 1973م قد مرت بفترة من التطور الهادي الذي تمثل في تحقيق معدلات نمو لا بأس بها (أي وسطاً). وآنذاك كانت معدلات البطالة متواضعة، بسبب ارتفاع معدلات التوظيف – نتيجة لزيادة الإنفاق الحكومي، وارتفاع معدلات الاستثمار والنمو الاقتصادي. إلا أن الجهد الإنمائي الذي بذل بعد ذلك، إضافة إلى تعثر برامج التنمية وأخطائها، وتواضع الأداء الاقتصادي، والحروب التي خاضتها، كانت جميعها أضعف من أن تقضي تماماً على المشكلات التي كانت متراكمة أصلاً من زمن الاستعمار، فبدأت الدول العربية تعرف أنواعاً مختلفة من البطالة، ولكنها كانت ما زالت في مستويات بسيطة.
ثم تحل طفرة أسعار النفط ابتداءً من عام 1973م لترسم ملامح عصر جديد استمر حتى أوائل الثمانينات (أي لم يستمر طويلاً) وتأثرت فيه العمالة والتوظيف (إيجابياً) في كل الدول والقطاعات العربية.
فبزيادة الدخول في البلاد العربية النفطية نشطت حركة التنمية بها، ونشطت معها حركة استقدام واستيعاب العمالة من كل الدول العربية (وكذلك الدول غير العربية)، وظهر في هذه الفترة ما يشبه القضاء على البطالة (السافرة – لا المقنعة).
ثالثاً: التقدم التكنولوجي:
يوضح ورسك أنه عندما تحدث تغيرات في العمليات الإنتاجية، وفي السلع والخدمات، فإنها تترك أثراً بالغاً في نمط وحجم الاستخدام، ويذكر أن أهم مصدر مستمر للتغير في الصناعة (بل والزراعة والتجارة والخدمات كذلك) هو التكنولوجيا الجديدة.
فالتغير التكنولوجي يعد العامل الأساسي المفضي إلى الإزاحة الأولية للعمال (البطالة عامة، والبطالة الهيكلية خاصة)، وبحيث يمكن القول أن هناك تناسباً طردياً بين استخدام التكنولوجيا المتطورة وارتفاع معدلات البطالة، وأنه كلما ازدادت سرعة التغير التكنولوجي كلما زادت نسبة البطالة.
فالعمليات الإنتاجية، صناعية كانت أو زراعية، أو حتى تجارية وخدمية، قد أصبح يتزايد اعتمادها على الآلات. وبطبيعة الحال فإنه كلما زاد الاعتماد على الآلات قل الاعتماد على الإنسان (مهما يقال من أن هذا الإنسان يظل هو العقل المحرك لهذه الآلة أو تلك)، فكمية المنسوجات التي كان ينتجها عامل واحد من العمال عندما كانت تستخدم الأنوال الآلية. والأرض الزراعية التي كان يعدها مجموعة من الأفراد للزراعة صار يجهزها عدد أقل من الأفراد مع دخول الميكنة في الزراعة. والخطابات والرسائل التي كان يفرزها عدد من العاملين بالبريد، أصبحت تفرز بآلة يديرها شخص واحد… وهكذا. من ناحية أخرى هناك من المصانع كمصنع هرشي لإنتاج الكاكاو ومشتقاتها، بالولايات المتحدة، يعمل آلياً من المراحل الأولى إلى المراحل النهائية من التجهيز والتصنيع والتغليف عن طريق الكمبيوتر. كما أن هناك الإنسان الآلي، أو الربوت الذي أصبح – كما يضيف ورسك – يقوم بالفعل بأعمال الإنسان مثلما هو حادث في خطوط تجميع السيارات مثلاً.
إن المشكلة العويصة التي تمخضت عنها الثورة الصناعية الراهنة – كما يذهب زكي – هي أن المبتكرات الجديدة أصبحت تلغي الكثير من الوظائف والمهن والأعمال بشكل متسارع تحت تأثير عمليات إعادة هيكلة وإعادة هندسة عنصر العمل في مختلف قطاعات الاقتصاد القومي دون أن يواكب ذلك إيجاد وظائف أخرى تعادل الوظائف الملغاة.
إن هذه العلاقة القائمة بين التكنولوجيا والبطالة تنطبق على كل المواقع سواء كانت متقدمة أو نامية أو حتى أقل نمواً. وحين التطبيق على العالم العربي، جاء في تقرير أحد خبراء شركة IBM تأكيد انخفاض معدل العمالة في مجال السلع والصناعات خلال العقود القليلة الماضية، وذلك بسبب تزايد استخدام التكنولوجيا المتقدمة.
والتقرير، بعد أن يؤكد على العلاقة المتينة بين التكنولوجيا والعمالة، يضرب مثلاً بالصراف الآلي الذي أخذ ينتشر في أنحاء كثيرة من العالم (والعالم العربي جزء منه)، ويذكر أنه إذا احتاج أحد مبلغاً من المال حالياً فإنه يضع البطاقة داخل الآلة ويحصل على المبلغ الذي يريده بكل سهولة ويسر خلال دقائق معدودة. وهذه الآلة كانت في يوم من الأيام عبارة عن موظف موجود داخل البنك فقد عمله.
إن مثل هذا الموظف ليس وحده هو الذي فقد عمله، فهناك آلاف أو حتى ملايين كان مصيرهم كمصيره وخاصة إذا كنا في مواقع دول نامية، وإذا كان مثل هذا الموظف قد فقد عمله في مجال الخدمات، فإن المجالات الأخرى كانت أشد قسوة في استغنائها عن العاملين بها. وعلى سبيل المثال، وكما يوضح غنيمي، أدى الأخذ بالتكنولوجيا المتقدمة في الزراعة إلى تضاعف الإنتاج، على حين نقصت الاحتياجات من القوى العاملة إلى النصف، أما في مجال الصناعة، فإن التقديرات عن الاستغناء عن العمالة – بسبب التقدم التكنولوجي – تبدو مخيفة، إذ يعتقد ستونيير أن التطورات التكنولوجية سوف تؤدي إلى الاستغناء عن ملايين العمال والموظفين، وأنه مع بداية القرن القادم ستكون هناك حاجة إلى 10% فقط من القوى العاملة حالياً لإنتاج متطلبات الحياة.
وبطبيعة الحال فإن الأمر لم يتوقف – كما يوضح زكي – عند مجالات الصناعة أو الزراعة وحدها، بل تعداها أيضاً إلى مجالي التجارة والخدمات. فقطاع الخدمات، الذي عرف عنه حتى وقت قريب أنه المستوعب الرئيسي للعمالة الجديدة والعمالة الفائضة، تعرض بدوره منذ سنوات لموجة انكماشية بسبب زحف التكنولوجيا الحديثة عليه وما أدت إليه من إحداث وفر كبير من القوى العاملة المشتغلة فيه من جراء استخدام الكمبيوتر ونظم المعلومات الحديثة وعالم السكرتارية الجديد.
وآثار التكنولوجيا لم تقتصر على مجرد إزاحة بعض العاملين عن العمل والاستغناء عن خدماتهم وإحلال الآلة محلهم، بل إن الأثر يمتد أيضاً حتى إلى بعض الذين أبقت عليهم التكنولوجيا الحديثة ولكنهم لا يستطيعون التواؤم معها. فإدخال التكنولوجيا الجديدة قد يؤدي – كما يذكر ورسك إلى إخراج عدد من العمال الذين يستخدمون الطرق القديمة من دائرة العمل.
فالتكنولوجيا الجديدة تحتاج في العادة إلى مهارات متجددة ومناسبة باستمرار، وبحيث لا يستطيع البقاء معها إلا من يستطيع إثبات وجوده في الوضع الجديد. وعند هذه النقطة، فإن قضية التدريب بجميع أنواعه وأشكاله وتوجهاته، بل وقضية التعليم برمته، وتفعيلها باستمرار، تكون من الأولويات التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام على كل المستويات بما فيها المستوى العربي.
وإذا كان تركيزنا على الوطن العربي، فلا شك أن التدريب والتعليم فيه يحتاجان إلى هزة فاعلة حتى لا يكونا سبباً – ولو غير مباشر – في البطالة. فالنظم والمناهج التعليمية في عمومها لا تساير التطور المتسارع الذي أصبح يسود العالم، ولا هي تمد سوق العمل بالفعاليات التي يحتاجها بكفاءة. وكما يذكر الزين، فإن الجامعة في بلادنا محافظة، تعد الإنسان الحكيم والفقيه أكثر بكثير من إعدادها الإنساني العملي الفاعل. وهي تهتم بالأدبيات والإنسانيات والعلوم النظرية عامة أكثر بكثير من العلوم البحتة والعلوم التطبيقية. وهذا اللاتوافق بين التعليم وحاجات المجتمع الفعلية للتنمية والازدهار يؤدي إلى هدر ذريع في المال والجهد وإلى بطالة تتصاعد وتتسع.
رابعاً: ارتفاع الأجور:
اهتم الاقتصاديون كثيراً بمقولة العلاقة بين الأجور والبطالة، ووصلوا في نهاية المطاف إلى ما يشبه الإجماع بأن هناك علاقة قوية بينهما. ومن أشهر من أدلوا بدلوهم في هذا المجال فيليبس الذي نشر سنة 1958م دراسة تحت عنوان (العلاقة بين البطالة ومعدلات تغير الأجور في المملكة المتحدة خلال الفترة 1861 – 1957م)، والتي توصل فيها إلى إثبات وجود علاقة إحصائية قوية بين نسبة العاطلين إلى إجمالي السكان ومعدل التغير في أجر الساعة للعامل. وهذه العلاقة التي عرفت في الفكر الاقتصادي بمنحنى فيليبس تنص على أنه في الفترات التي تقل فيها معدلات البطالة ترتفع معدلات الأجور النقدية، بينما على النقيض من ذلك حينما ترتفع معدلات البطالة تنخفض معدلات الأجور النقدية.
إن هذا على وجه التحديد هو ما كان سائداً في الفكر الغربي وفي الاقتصاد الغربي وبين الدول الصناعية الكبرى بوجه عام. وفي هذا الصدد يذكر ورسك أن العديد من الاقتصاديين يعزون البطالة العالية المستمرة في أوروبا الغربية إلى أن الأجور الحقيقية فيها كانت صلبة أي غير مرنة، في حين أن الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتصف بأنها أكثر مرونة، وأنها نتيجة لذلك – أتاحت الفرصة للبطالة أن تنخفض من الذروة التي كانت فيها خلال فترة الركود.
والذي يمكن أن يستفاد من هذا، كما يضيف ورسك، هو أنه كلما كانت البطالة عالية فسوف يكون هناك ضغط على الأجور النقدية، يدفعها إلى الأسفل، ولكن إذا كان معدل البطالة منخفضاً، فإن قوة العمل تصبح نادرة، وعادة ما يتنافس أصحاب الأعمال للحصول عليها، فترتفع الأجور النقدية، فإذا ما ارتفعت الأجور فإن الدورة تأخذ مجراها من جديد، فترتفع أسعار التكلفة، ويقل تنافس السلع، والخدمات المنتجة في السوق (وخاصة إذا كانت سلعاً أو خدمات تصديرية)، فتقل الأرباح، وعندها تقل المدخرات، وتقل معها احتمالات التوسع في الاستثمار وإقامة مشروعات جديدة، وفي الحالة الأولى يتم الاستغناء عن بعض العمال لترشيد النفقات وتخفيضها، وفي الحالة الثانية سوف لا تتاح الفرص لقوة العمل الجديدة للدخول إلى سوق العمل.
وبالنسبة للدول التي تعتمد على التجارة الدولية بالذات – سواء في مجال التصدير أو مجال الاستيراد (والدول العربية تقع في دائرتها) يكون أثر ارتفاع الأجور كبيراً. ففي مجال الصادرات، تؤدي الأجور المرتفعة إلى جعل المنتجات الوطنية اقل جاذبية في الأسواق – نظراً لارتفاع أسعارها نتيجة ارتفاع الدخول من جراء ارتفاع الأجور من ناحية، ومن ناحية أخرى تكون المنتجات المحلية أعلى سعراً من تلك المستوردة، وهو ما يؤدي في جميع الأحوال إلى آثار سلبية على مستوى العمالة.
إن هذه العلاقة بين البطالة وارتفاع الأجور وإن كانت قائمة في كل الدول بلا استثناء، فهي قائمة بشكل أكبر في الدول النامية، وضمنها الدول العربية، ففي هذه الدول يؤدي ارتفاع الأجور – كما يضيف غنيمي – إلى ارتفاع الميزة النسبية للآلات في العملية الإنتاجية على حساب العمالة، مما يجعل أصحاب الأعمال يتجهون إلى استخدام الآلات أكثر من اتجاههم لعنصر العمالة. وهنا ينخفض مستوى تشغيل العمالة للاحتفاظ ببند الأجور.
ولما كان الارتفاع في الأجور يؤدي إلى البطالة، وكانت نقابات العمال والاتحادات العمالية تطالب باستمرار برفع الأجور، فإنها تكون بدروها سبباً – ولو غير مباشر – في رفع معدلات البطالة. ومن هذا المنطلق فإنه ليس غريباً أن يصدر تقرير من البنك الدولي عام 1995م ينحي باللائمة على تعنت نقابات العمال ويحملها مسئولية زيادة البطالة والإضرار بمصالح رجال الأعمال والمستهلكين. فقد جاء بالتقرير أن (نقابات العمال تتصرف في أغلب الأحوال كمؤسسات احتكارية تقوم بتحسين الأجور وأحوال العمل لأعضائها، على حساب أصحاب رأس المال والمستهلكين والعمال غير النقابيين. وتؤدي الأجور العالية التي تحققها النقابات لأعضائها إما إلى تخفيض أرباح رب العمل، أو نقل عبئها إلى المستهلك في شكل ارتفاع في الأسعار، وتؤدي كلتا النتيجتين بالمؤسسات التي توجد بها نقابات إلى تشغيل عدد أقل من العمال…).
وإذا كان هذا هو دور النقابات والاتحادات العمالية عامة، فإن دورها في الدول النامية – كما يذكر سيرز وجوي – أخطر بكثير من دورها في الدول الصناعية. ذلك أن هذه الاتحادات والنقابات تعمل في الدول النامية (والدول العربية داخلة في إطارها) على تعميق التفاوت في الدخول بين الفئات العاملة ذاتها، لأن هذه الاتحادات والنقابات تمارس الضغوط لمصلحة الفئات التي تتمتع أصلاً بمركز متفوق وأجور عالية على حساب فئات العمالة العادية وغير الماهرة في الصناعة أو الزراعة فتزيد بذلك الهوة، وترفع بعض الدخول للفئات الأعلى، وتسبب البطالة للفئات الأدنى.
وباعتبار أن ارتفاع الأجور يؤدي إلى البطالة، على أساس أن هذا الارتفاع يقلل من أرباح رب العمل، فيضطر إلى خفض عدد العاملين، كما لا يمكن من التوسع في الاستثمار وإقامة مشروعات جديدة، فإنه بالقياس إلى هذا يكون كل ما يؤثر في رفع تكلفة الإنتاج وخفض ربح رب العمل، مثل وجود تشريعات تحدد الحد الأدنى للأجور، أو المغالاة في فرض الضرائب، عاملاً مسبباً للبطالة.
ففي الحالة الأولى، يؤدي تحديد التشريعات حداً أدنى لأجر العاملين إلى تشجيع رجال الأعمال على عدم تشغيلهم، بمعنى أن قوانين الحد الأدنى للأجور – كما يذكر زكي (عن البنك الدولي) – كثيراً ما تسهم في تفاقم مشكلة البطالة. وكما يضيف ورسك فإن النظام القائم على تحديد الأجور يعتبر بمنزلة عقبة أمام التوظف الكامل.
وفي الحالة الثانية يرى كثير من الاقتصاديين أن المغالاة في زيادة المعدلات الحدية للضرائب من شأنها أن تؤدي إلى ارتفاع معدل البطالة الطبيعي، حيث أن ارتفاع هذه المعدلات غالباً ما يؤدي إلى تثبيط حوافز الناس تجاه العمل، ويضعف من حوافز الإنتاج والإدخار والاستثمار، ومن ثم يتسبب في الركود وإبطاء النمو، وبالتالي في زيادة البطالة.
وإذا كنا في محيط دول عربية، فهناك نقابات عمال فعلاً وكذلك اتحادات عمالية، ولكنها في الأغلب الأعم ليست ذات تاثير فاعل في تحريك عجلة الأجور. إلا أنه حين يتعلق الأمر بتشريعات الحد الأدنى للأجور، وقوانين الضرائب، فإن لدى كثير من الدول العربية الكثير منها، والتي من الممكن أن يكون لها بالفعل تأثيرها – ولو غير المباشر – في رفع معدلات البطالة. فكثير من المشروعات أعلنت إفلاسها بسبب جباية الضرائب. وفي بعض حالات أخرى ابتلعت جزءاً كبيراً من الأرباح، وكل هذا كان – وما زال – له بطبيعة الحال أثره السلبي على معدلات الإدخار الوطني .. وكان لتواضع المدخرات أثرها على مستوى الاستثمار وإقامة مشروعات وإيجاد فرص عمل جديدة، وكل هذا قد ساعد على تفشي البطالة، بل وارتفاع معدلاتها في بعض البلدان.
خامساً: تشغيل صغار السن:
يختلف عدد سنوات التعليم الإلزامي من دولة إلى أخرى. وفي الوقت الذي تمتد فيه هذه السنوات حتى نهاية المرحلة الثانوية في الدول الصناعية الأكثر تقدماً عامة، فإنها في دول أخرى تتوقف عند المرحلة المتوسطة (الإعدادية) أو الابتدائية، أو حتى لا يكون هناك في بعضها إلزام على الإطلاق.
وعلى مستوى العالم العربي، فإنه في هذه المقولة – كما في مقولات كثيرة أخرى – يحتل موقعاً وسطاً ليكون التعليم حتى المرحلة الثانوية في بعض الدول (كالبحرين مثلاً)، والى المرحلة المتوسطة في غالبية الدول (مثل الأردن وتونس والجزائر وجزر القمر وليبيا ومصر)، ثم إلى المرحلة الابتدائية مثلما هو حادث في الإمارات وجيبوتي والسودان والعراق والمغرب.
سادساً: رفع سن التقاعد:
إذا كان تشغيل صغار السن يرفع معدلات البطالة من أسفل، فإن رفع سن التقاعد يرفع بدوره تلك المعدلات ولكن من أعلى، وخاصة في ظل ارتفاع متوسطات الأعمار على مستوى الدول العربية مجتمعة كما على مستوى دول العالم كلها. فنتيجة لارتفاع معدلات الدخول، وتحسن مستويات المعيشة (الإسكانية والغذائية والصحية والبيئية والتعليمية والتوعوية) في الدول العربية ارتفعت متوسطات الأعمار بها في العقود الثلاثة الماضية بشكل ملموس. وعلى سبيل المثال، كان متوسط عمر الإنسان العربي سنة 1960م أقل من سن 47.3 عاماً، وارتفع سنة 1994م إلى 64.4 عاماً. وبعد أن كانت فرص لإحلال قوة العمل الجديدة الناشئة محل الوفيات من كبار السن، قل هذا الإحلال نتيجة لامتداد أعمارهم.
ونتيجة لارتفاع متوسطات الأعمار، وتحسن المستوى الصحي، وباعتبار أن العامل يكون عند إحالته إلى التقاعد في قمة عطائه العملي وفي قمة خبرته (المتراكمة)، كما يشير بيسكوف، ويذكر ان بعض الشيوخ تبلغ ذروة إنتاجيتهم مع سن الثمانين، أو ما بعدها، أخذت كثير من الدول تفكر في رفع السن الذي يحال العامل فيه إلى التقاعد فامتد في كثير منها إلى سن الخامسة والستين (بدلاً من سن الستين)، بل وامتد في بعض القطاعات بحيث يظل الشخص في عمله طالما بقي على قيد الحياة صحيحاً معافى. وكل هذا، وإن كانت له قيمته الحضارية والإنسانية، إلا أنه أيضاً يحجب بعض المواقع التي كانت من المفترض أن تخلى قبل ذلك ليشغلها الصاعدون الجدد إلى قوة العمل.
سابعاً: خروج المرأة إلى مجال العمل:
خروج المرأة إلى مجال العمل قد يكون بدوره أحد العوامل المسببة لتفاقم مشكلة البطالة في الوطن العربي، وإذا كان النمو السكاني المتسارع وعدم تمكن جهود التنمية من توفير فرص العمل للمنضمين الجدد لقوة العمل، ورفع سن التقاعد، ودخول صغار السن إلى مجال العمل قد أدت جميعها إلى رفع معدلات البطالة، فإن خروج المرأة إلى مجالات العمل، واستمرار تزايد هذا الدخول، يزيد المشكلة تفاقماً.
ورغم أن خروج المراة للعمل، أو عودتها إلى المنزل مرة أخرى، ما زالت من القضايا الساخنة التي تحظى باهتمام الكثيرين، نتيجة للمتغيرات الكثيرة التي حلت بالمجتمع العربي عامة، إلا أن المرأة قد خرجت بالفعل وما زالت خارجة، بل وتزداد خروجاً للعمل، وتتفتح لها مزيد من المجالات يوماً بعد آخر، وإن كان هذا ليس بالشكل الذي أصبحت عليه أوضاع عمالة المراة في أوضاع دول أخرى غير عربية، فالبيانات الإحصائية المتاحة تشير إلى أنه في الوقت الذي لم تتعد مساهمة العربية في القوى العاملة سنة 1970م أكثر من 18.5%، فإن هذا المعدل قد ارتفع في سنة 1990 إلى 23.6%.
ثامناً: الاستعانة بالأيدي العاملة غير العربية:
رغم أن معدلات البطالة في الدول العربية تعتبر مرتفعة (نسبياً)، فإن بعض هذه الدول (النفطية غالباً وغير النفطية أحياناً)، تستعين بالأيدي العاملة غير العربية، لتسهم بذلك في الإبقاء على استمرار قيام المشكلة، فقد شهدت المنطقة العربية خلال العشرين سنة الماضية تجربة فريدة في تاريخ انتقال العمالة العربية والأجنبية. وفيما كانت هذه الدول (النفطية بالذات) قد استقبلت 1.4 مليون عامل سنة 1975م فقد قفز الرقم ليسجل 6.7 مليون عام في عام 1985م، بمعنى أن عدد العمالة الوافدة في المنطقة من عرب وغير عرب – قد تضاعف أربع مرات في غضون عشر سنوات.
وفي الوقت الذي بدت فيه هذه الأرقام مبشرة بخير نهضة مأمولة في هذه الدول – ومعها الوطن العربي، فقد كان هناك ما يعكر صفو هذه البشرى حين وضح أن ما يزيد عن نصف هذه العمالة الوافدة كانت من دول غير عربية، وأن معدل استقدام العمالة غير العربية قد ارتفع على حساب انخفاض العمالة العربية، وكما جاء عند سليم، كانت الأرقام المرصودة تشير إلى أن قوة العمل العربية قد زادت في الدول العربية المستقبلة من 900 ألف عامل في عام 1975م إلى 3.5 مليون عامل عام 1985م، أي ارتفعت بنسبة 289% في عشر سنوات، في حين زادت قوة العمل غير العربية من 500 ألف عامل سنة 1975م إلى 3.2 مليون عامل سنة 1985م، أي ارتفعت بنسبة 540%.
إن هذا ما أشارت إليه أيضاً كثير من الدراسات والبحوث، وظهرت في المناقشات التي دارت في اجتماعات الدورة العشرين لمؤتمر العمل العربي المنعقد في عمان سنة 1993م، والتي كشفت – كما يذكر الحلفي – عن الحقيقة المؤلمة المتمثلة في أن الدول العربية التي تعاني من نقص العمالة تلجأ في حالات كثيرة إلى سد هذا النقص بالاستعانة بالعمال الأجانب، رغم تواجد هذا النقص المطلوب في بلدان عربية تعاني من ضغط فائض العمالة رغم أن العمالة العربية المتوافرة لا تقل خبرة أو كفاءة عن العمالة الأجنبية.
والدراسة التي وضعتها منظمة العمل العربية عن وضع القوى العاملة في خمس دول عربية (الأردن، سوريا، فلسطين، لبنان، ومصر) تؤيد أيضاً الحقائق التي وردت في مناقشات الاجتماعات المشار إليها، والتي تبين منها انكماش نسبة العمالة العربية الوافدة إلى الدول النفطية إلى مجموع الوافدين من سنة 1980م إلى سنة 1985م من 50.1% إلى 45.4% من مجموع الوافدين، فيما انكمشت هذه النسبة بشكل كبير بعد الغزو العراقي للكويت سنة 1990م، حيث استغنى في الفترة من 1990 – 1991م عن خدمات قرابة مليوني عامل عربي، فيما لم يستغن إلا عن خدمات ما يزيد قليلاً عن نصف مليون عامل غير عربي لتتسع الهوة بين استقدام العمالة العربية والعمالة غير العربية للدول العربية، وتتاح الفرصة بالتالي لزيادة معدلات البطالة بها.
إن هذه الإزاحة للعمالة العربية في الدول العربية وإحلال عمالة غير عربية محلها تحدث – كما يذكر الحلفي – رغم صدور عدة اتفاقات بتيسير وتنظيم انتقال وتبادل العمالة في الوطن العربي، وصادقت عليها كثير من الدول العربية، إلا أن العبرة – كما يواصل الحلفي – ليست بالمصادقات وحدها وإنما بالتفعيل والتنفيذ. وقد كانت الاتفاقية العربية لتنقل الأيدي العاملة سنة 1967م من أولى تلك الاتفاقيات. وصادقت عليها أربع عشرة دولة عربية. وجاءت بعدها اتفاقيات أخرى. وكان لمنظمة العمل العربية جهد كبير ومؤسسي في تلك الاتفاقية، وبخاصة وضع استراتيجية تنمية القوى العاملة العربية سنة 1985م، كما أن تنقل الأيدي العاملة العربية قد دعم مفهوم التكامل العربي (المأمول)، وخفف الكثير من أعباء الدول التي تشكو من فائض العمالة، كما ساهمت هذه العمالة في صنع النهضة الحضارية في الدول التي كانت – وما زالت – تشكو من قلة الأيدي العاملة وخاصة الخبيرة منها.
تاسعاً: تقييد الهجرة للخارج:
الهجرة هي أي حركة عبر الحدود السياسية بغرض الإقامة الدائمة لمدة لا تقل عن سنة – ما عدا حركات السياحة. وهجرة العمالة يقصد بها انتقال القوة العاملة من منطقة إلى منطقة أو من بلد إلى آخر للعمل.
وعلى الرغم من أن للهجرة مساوئ كثيرة، فإن لها أيضاً محاسن كثيرة، وضمنها هنا التخفيف من حدة البطالة وآثارها الضارة في الدول والمناطق التي تعاني من فائض العمالة. فهي كثيراً ما كانت بمثابة صمام الأمان لهذه الدول التي كادت الأمور فيها تصل إلى درجة الانفجار.
وفي العقود الثلاثة الماضية كانت فرص انتقال العمالة العربية من الدول الطاردة (غير النفطية)، كما كانت الفرصة متاحة أيضاً للعمل بدول غير عربية. إلا أنه مع هدوء ثورة النفط، وتدني إنتاجيته وأسعاره، إضافة إلى ظروف حرب الخليج الثانية، وبداية معاناة مواطني تلك الدول الجاذبة أنفسهم من البطالة، بدأت موجات الهجرة للعمل تنحسر، لتعود العمالة المهاجرة أدراجها، محدثة ارتفاعاً إضافياً في معدلات البطالة أضيف إلى المعدل المرتفع منها الذي يسودها أصلاً.
في الجانب العربي تقلصت فرص الهجرة للعمل بالدول النفطية العربية، نتيجة (لتوطين) الوظائف فيها، وبداية معرفتها – كما يذكر زكي – مختلف أشكال البطالة منذ انتهاء عصر الوفرة النسبية لموارد النفط، وكانت هذه الظاهرة الجديدة – كما جاء في تقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – مصدر قلق لحكومات هذه الدول. وتؤكد مصادر أخرى على بدايات ظهور البطالة في هذه الدول. ومنها ما ورد في أعمال ندوة (البطالة في الكويت: الواقع والمستقبل) من أن تقرير ديوان الخدمة المدنية في الكويت قد قدر إجمالي عدد الباحثين عن عمل من الكويتيين حتى يناير 1997م بلغ 32112 فرداً (عاطلاً)، بنسبة تعطيل قدرها 1.75% ويسترسل الوهيب قائلاً أن البطالة ليست حديثة، وإنما هي مشكلة قائمة منذ زمن، وكان يتم التغلب عليها بطريقة أو بأخرى، ولكنها الآن لم تعد كذلك، فالجميع يدرك صعوبة توظيف الأجيال الحالية، بل إن هذه الصعوبة ستزداد خلال الفترات القادمة.
وفي وضع خليجي أخر، كشفت دراسة أجريت بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية، طبقت على عينة مختارة للوقوف على حجم البطالة بين خريجي الجامعات والمكملين لمرحلة التعليم الثانوي، أو ما يعادله كشفت عن أن البطالة بين الفئة الأولى معدومة – أي تساوي صفراً، فيما وصل معدل البطالة في الفئة الثانية إلى حوالي 20%، فإذا ما لجئ إلى أسلوب المتوسطات بين المجموعتين، أمكن القول أن معدل البطالة في هذه العينة يعتبر 10%.
وفي الجانب غير العربي، تقلصت أيضاً فرص العمالة في معظم الدول، بعد أن أصبحت كثير منها، وخاصة الدول الأوروبية، التي كان بها ما يقرب من الثلاثة ملايين عامل عربي مهاجر من دول المغرب العربي بالذات (مليون وربع المليون من تونس والجزائر والمغرب وحدها) وفي الوقت نفسه فقد بلغ عدد السوريين المهاجرين إلى ما يزيد عن المليون ونصف المليون في عقد السبعينات من القرن الحالي، منهم حوالي مليون مهاجر في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها.
ومع تقلص الفرص في كلا المجموعتين من الدول، وظهور بوادر عدم الترحيب بالعمالة غير الوطنية عامة، اضطرت أعداد هائلة من العاملين العرب للعودة إلى بلادهم، لتتفاقم مشكلة البطالة، ويكون لها كثير من النتائج المحمودة وغير المحمودة.
الآثار الناجمة عن البطالة
البطالة مشكلة ناتجة عن مشكلات ومسببة لمشكلات أخرى. فهي ناتجة – كما رأينا – عن مشكلات النمو السكاني المتسارع، وتواضع الأداء التنموي والنمو الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي (غير المتوازن)، وارتفاع الأجور، وتشغيل صغار السن، ورفع سن التقاعد، وتزايد معدلات خروج المرأة إلى ميادين العمل، والاستعانة بالأيدي العاملة غير الوطنية، بالإضافة إلى وضع القيود على الهجرة إلى الخارج. وهي ينتج عنها بدورها مشكلات أخرى كثيرة، هي موضوع تركيزنا في هذا الفصل من الدراسة.
وموضوع الآثار الناجمة عن البطالة بات – كما يوضح مركز بحوث الشرطة – موضوعاً يشد انتباه الباحثين ويلفت نظرهم إلى ما يترتب عليها من أوضاع اقتصادية كانت أو اجتماعية أو ثقافية أو نفسية أو سياسية. وبطبيعة الحال، فإن هذه التأثيرات المترتبة على البطالة تتفاوت ليس فقط من حيث الزمان والمكان وكم ونوع البطالة، وإنما أيضاً من حيث حدتها ودرجة إلحاحها.
على اية حال، تشكل البطالة – يسترسل مركز بحوث الشرطة – سبباً رئيسياً لمعظم الأمراض الاجتماعية في أي مجتمع، كما أنها تمثل تهديداً واضحاً للاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالبطالة بمعناها الواسع – كما عند غنيمي – لا تعني فقط حرمان الشخص من مصدر معيشته، وإنما تعني أيضاً حرمانه من الشعور بجدوى وجوده. إنه إذا كان من المستقر عليه أن العمل حق وواجب وشرف وحياة وكيان، فإن العاطل يكون من هذا المنطلق مجرداً من هذا الحق وذاك الشرف، لا تتاح له الفرصة لأداء واجبه الإنساني الاجتماعي الوطني والأخلاقي، ليكون على هامش الحياة، فاقد الكيان.
وفي إجمال للآثار الناجمة عن البطالة يذكر العدل أن معظم المشكلات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية التي انتشرت في الآونة الأخيرة في بعض الدول العربية والإسلامية التي تعاني من مشكلة البطالة كانت البطالة هي العامل المشترك في خلقها واستفحال خطرها. فبجانب الجرائم والانحرافات والمشكلات الأمنية أدت مشكلة البطالة إلى الأمراض النفسية والعصبية بصورة ملفتة للنظر، بالإضافة إلى انتشار الوساطة والمحسوبية وصور النفاق والرياء الاجتماعي بسبب تضاؤل فرص العمل والحرص على الحصول عليه بأي ثمن. كما ساد الطلاب شعور بحالة من الإحباط الشديد بعد أن اكتشفوا أن الخريجين الذين سبقوهم في إتمام دراستهم معروضون في سوق العمل بثمن بخس وبالرغم من ذلك فإنهم لا يجدونه. وفي الوقت ذاته فقد أثرت مشكلة البطالة في كيان الأسرة وتأخير سن الزواج وما يترتب على ذلك من مشكلات اجتماعية خطيرة (كالعنوسة والانحرافات الجنسية وجرائم الاختطاف والاغتصاب وغير ذلك). وبالإضافة إلى ذلك فإن البطالة تؤدي إلى وجود الصراع الاجتماعي سواء كان بين الأفراد بعضهم البعض أو بين فئات وأخرى، كما تؤدي إلى توسيع الهوة بين الفئات الاجتماعية وتزيد من المسافة الاجتماعية بينهم ووجود فاصل بين من يعملون ويكسبون قوت حياتهم ومن لا يعملون ولا يكسبون ولا يجدون ما يقيم أودهم. وهنا تكون التربة الاجتماعية صالحة لترعرع الحقد الاجتماعي الذي يهدد الوحدة الاجتماعية ذاتها.
فإذا ما أخذنا تلك العموميات في اعتبارنا، واتجهنا إلى بيان الآثار المحددة التي تنجم عن البطالة، فسنجد أنه رغم كثرتها إلا أن الغالبية العظمى من المهتمين بهذا المجال قد أجمعت على آثار بعينها: اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وأمنية.
أولاً: الآثار الاقتصادية:
يذكر كل من سليم ومركز بحوث الشرطة أن وجود عدد من الأفراد القادرين على العمل بدون عمل يعد بمثابة إهدار لأحد عناصر الإنتاج الهامة في المجتمع، وبالتالي خفض حجم الإنتاج المحتمل. فالبطالة تعني ترك بعض الإمكانات المتاحة للمجتمع دون استغلال ودون استثمار، ويعتبر ذلك بمثابة إهدار للموارد البشرية. ومن الناحية الاقتصادية – كما يوضح الدوسري – يعد العجز عن المساهمة في النشاط الاقتصادي هدر لأهم وأثمن المصادر المتاحة للاقتصاد، حيث يترتب على هذا الهدر حدوث فاقد مهم يتمثل في الفارق بين الإنتاج الإجمالي الممكن والإنتاج الإجمالي الفعلي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عنصر العمل يختلف عن بقية العناصر الأخرى (كرأس المال مثلاً) في أنه غير قابل للتخزين، فالعمل إذا لم يستخدم في حينه لن يستخدم أبداً.
والبطالة تؤثر كذلك على حجم الإنتاج والناتج القومي، وبالتالي يكون لها تأثيرها الواضح على حركة التصدير والاستيراد وما يسببه ذلك من اختلال للميزان التجاري، فلقلة الإنتاج، يقل التصدير، ولقلة الناتج القومي، يتدنى الدخل وتنخفض مستويات المعيشة وتنكمش القوى الشرائية، ويقل الاستيراد، وهذا في حد ذاته يصيب الميزان التجاري بحالة عدم توازن.
والبطالة أيضاً يتسبب عنها نقص الدخل وضعف القوة الشرائية. وما يذكره الدوسري، فإنه نتيجة لتراجع الناتج القومي يقل الدخل الفردي للذين يعملون، وينعدم دخل من استغنى عنهم من قوة العمل، كما يكون منعدماً أصلاً بالنسبة لقوة العمل الجديدة التي تحاول الدخول إلى مجال العمل دون أن تستطيع، فإذا ما تدهور الدخل (نتيجة للبطالة) تدهورت معه عدة نواحٍ أخرى، اقتصادية، واجتماعية، مثل استهلاك السلع والخدمات، وجودة الحياة عامة، والمستويات المعيشية والصحية والتعليمية والترويحية، وغيرها، وهذه جميعاً محل تساؤل في الوطن العربي عامة. ونحن إذ نناقش مقولة الدخل في هذه الجزئية من الدراسة، فإننا نتعامل مع المقولات الأخرى في الجزئية التالية المركزة على الآثار الاجتماعية والثقافية والنفسية للبطالة.
فمن ناحية الدخل، فإنه وإن كان يمكن اعتباره وسطاً بين الارتفاع، الذي عليه الدول الأكثر تقدماً، والانخفاض، الذي عليه الدول الأقل نمواً، فإنه يعتبر منخفضاً في الغالبية العظمى من الدول العربية – وهي الدول غير النفطية عامة، فيما يعتبر فوق المتوسط، أو يكاد يكون مرتفعاً، في أقلية من الدول العربية – وهي الدول النفطية، وذلك على الرغم مما أصابه من تراجع بدوره في الخمس عشر سنة الأخيرة. وبيان ذلك هو أنه في الوقت الذي بلغ فيه متوسط دخل المواطن العربي السنوي عامة 6958 دولاراً سنة 1994م، فقد كان متوسطه بالنسبة للدول النفطية في نفس السنة 12538 دولاراً، وبالنسبة للدول غير النفطية 3238 دولاراً.
والمدقق في بيانات الدخل يمكنه ملاحظة نوع من التفاوت في الدخول بين الدول العربية سواء على المستوى الأحادي أو على مستوى المجموعات. فدخل المواطن الكويتي مثلاً بلغ حوالي 27 ضعف بالنسبة لدخل المواطن اليمني. ودخل المواطن بالدول النفطية عامة يبلغ أربعة أضعاف دخل المواطن بالدول غير النفطية تقريباً. إلا أنه على الرغم من هذا، فإن دخل المواطن في هذه الدول النفطية يعتبر منخفضاً إذا ما قورن بدخل المواطن في الدول الأكثر تقدماً (الدول الأغنى في العالم)، كما أن دخل المواطن العربي عامة يمكن أن يعتبر مرتفعاً حال مقارنته بدخل المواطن في الدول الأقل نمواً (الدول الأفقر في العالم). وبيان ذلك هو أنه في الوقت الذي بلغ فيه متوسط دخل المواطن في الدول النفطية 12538 دولاراً، فقد ارتفع عن ذلك كثيراً في الدول الأكثر تقدماً ووصل إلى متوسط 24499 دولاراً – أو ما يقرب من ضعف الدخل الفردي الذي وصل فيه متوسط دخل المواطن العربي عامة إلى 6958 دولاراً، فإن دخل المواطن في الدول الأقل نمواً لم يتعد متوسطه 584 دولاراً – أو ما يقدر بحوالي واحد على اثني عشر من دخل المواطن العربي.
ثانياً: الآثار الاجتماعية والثقافية والنفسية:
بإشارتنا في الجزئية السابقة إلى المشكلات التي تنجم عن تدني الدخل الفردي، نكون قد وصلنا إلى مقولة التأكيد على الارتباط التكاملي بين الآثار الاقتصادية والآثار الاجتماعية والثقافية والنفسية الناتجة عن هذا التدني في الدخل الفردي – وهو الناجم أصلاً عن تفشي البطالة، كما نكون منتقلين بتدرج منطقي من النوع الأول للآثار إلى النوع الثاني منها.
وانطلاقاً من هذا الترابط، يكون من المفيد إعادة تأكيد أنه نتيجة للبطالة، وقلة الدخل – أو انعدامه، تنشأ مشكلات كثيرة متشابكة، ويأتي في مقدمتها الفقر وعدم إشباع الحاجات والحرمان، وتدني جودة الحياة ومستوى المعيشة والمستويات الصحية والتعليمية والترويحية وغيرها، وتفشي مظاهر اليأس وخيبة الأمل وعدم الرضا والإحباط وضعف الانتماء وقلة الولاء والدخول في دائرة الاغتراب، والتي قد ينتج عنها مجتمعة الهجرة، التي ينتج عنها بدورها مشكلات كثيرة مثل التفكك الأسري والانحراف الأخلاقي والطلاق وغيرها… والتي نتناول بعضها تباعاً.
1- الفقر:
الفقر هو الجوع العام لا يجد معه الفرد إشباعاً لحاجاته الجسمية أو النفسية أو الاجتماعية. وهو حالة من مستوى المعيشة المنخفض الذي إذا طال أمده أثر على صحة الفرد وأخلاقه واحترامه لذاته. كما أنه جريمة لأنه يجرد الإنسان من إنسانيته.
فالفقير المحروم، الجوعان العريان الذي لا يجد مأوى، والذي لا يتوفر له ما يحفظ عليه آدميته وكرامته، يكون معرضاً ولا شك للانهيار الذي قد يقوده إلى الكفر بأي شيء وكل شيء، بما في ذلك الكفر بنفسه وقيمه ومجتمعه ووطنه.
وفي ظروف الوطن العربي، هناك بالتأكيد أناس من هذا النوع. إلا أنه نظراً لما يتسم به بناؤه الاجتماعي من بقايا تعاون وتكافل وتراحم، فإن أمر الفقر قد لا يكون بهذا السوء – رغم أنه يظل قائماً به.
ففي هذا الوطن هناك فقر وهناك فقراء، كما أن هناك من هم في فقر مدقع ويعيشون تحت خط الفقر. صحيح أن هؤلاء لا يوجدون بالمعدلات المرتفعة الموجودة بدول أخرى (أقل نمواً)، إلا أنهم يوجدون أيضاً بمعدلات أعلى مما عليه الحال في دول غيرها (أكثر نمواً).
على أية حال، تشير البيانات المتاحة عن معدلات السكان الذين يعيشون في منطقة ما تحت خط الفقر – رغم شحها للغاية، وعدم توفرها إلا عن سبع دول عربية فقط، وفي تواريخ مختلفة، تشير إلى أن متوسط معدل السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر قد وصل في متوسطه خلال الفترة بين 1980-1994م إلى 35%، فيما ارتفع في الدول الأقل نمواً إلى الضعف ليصل إلى متوسط 70%، في الوقت الذي انخفض في الدول الأكثر نمواً إلى ما يقرب من النصف ولم يتعد متوسطه 17.8%.
2- جودة الحياة:
تقود البطالة إلى انخفاض الدخل، ويقود انخفاض الدخل إلى الفقر والحرمان، ويقود الفقر والحرمان بدورهما إلى تدني جودة الحياة. وجودة الحياة، أو الحياة الجيدة، لها مؤشرات كثيرة، ويمكن أن تجمل في توفر البيئات الطبيعية (المادية) والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الطيبة، بما تحتوي كل من هذه البيئات على العديد من الأبعاد. ولما كان المجال هنا ليس مجال التعامل معها جميعاً، فإن الاكتفاء بعدد منها يمكن أن يكون محققاً لهدف هذه الدراسة.
فالفقر على سبيل المثال يؤدي إلى تدني المستوى الغذائي (مقاساً بالسعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد في اليوم الواحد، ويقلل – مع انخفاض المستوى المعيشي ومستوى الخدمات – من عدد السنوات التي يعيشها الفرد (مقاسة بالعمر المتوقع عند الولادة).
وبالتعامل مع هذين المؤشرين بالوطن العربي نجد أنه – كالعادة في الأغلبية العظمى من المؤشرات – يقع موقعاً وسطاً بين الدول الأقل نمواً والدول الأكثر نمواً في كلا المؤشرين (الممثلين لجودة الحياة). فالمواطن العربي عامة قد حصل على متوسط قدره 2785 سعراً حرارياً في اليوم الواحد سنة 1992م، في الوقت الذي لم يحصل فيه المواطن في الدول الأقل نمواً إلا على متوسط قدره 1765 سعراً حرارياً في العام نفسه، بينما زاد نصيب الفرد من هذه السعرات الحرارية في الدول الأكثر نمواً ووصل في متوسطه إلى 3787 سعراً حرارياً. والذي يتضح منه أن المواطن العربي يحصل على سعرات حرارية أكثر مما يحصل عليه مواطن الدول الأقل نمواً بمقدار 57.8%، فيما يحصل على أقل مما يحصل عليه مواطن الدول الأكثر نمواً بمقدار 36%.
أما فيما يتعلق بالعمر المتوقع عند الولادة، أو متوسط السنوات التي عاشها المواطن العربي، سنة 1994م، فقد وصل إلى 64.4 عاماً، في الوقت الذي بلغ فيه متوسط هذه السنوات بالنسبة لمواطن الدول الأقل نمواً إلى 40.4 عاماً فقط في نفس العام، وفي الدول الأكثر نمواً إلى 78.5 عاماً، والذي يتضح منه أن المواطن العربي يعيش سنوات عمر تزيد بمقدار 59.4% عما يعيشه مواطن الدول الأقل نمواً، فيما يعيش سنوات عمر أقل مما يعيش مواطن الدول الأكثر نمواً بمقدار 21.9، بينما يكاد مواطن الدول الأكثر نمواً يعيش ضعف سنوات عمر مواطن الدول الأقل نمواً.
3- الاغتراب:
يعاني الشخص البطالة، فيقل دخله أو ينعدم، فلا يستطيع إشباع حاجاته الأساسية – فضلاً عن الكمالية بطبيعة الحال. يعيش الشعور بالحرمان والذل، يصاب بالإحباط، يضعف انتماؤه لمجتمعه، ويقل ولاؤه له، ويغترب في وطنه.
والاغتراب (Alienalion) وإن كان يستخدم بأكثر من معنى، إلا أنه في الوضع الخاص للدراسة يعني:
أ) نقص وضعف القوة الاجتماعية بمعنى شعور الشخص بالعجز وإحساسه بأن مقدراته في مجملها ليست ملكاً له، وإنما تتحكم فيها وتسيرها كيانات أخرى خارجة عن ذاته، غير مقدرة له وغير منصفة.
ب) غياب المعايير أو ضعفها واهتزازها، بمعنى تخلخل النظرة (في وضعنا هنا) إلى العمل كقيمة اجتماعية واقتصادية فالشخص يثابر ويكدح، وتثابر معه أسرته وتكافح، ويتخرج ولكن لا يجد عملاً، لا يجد فرصة لتحقيق ذاته وإثبات كيانه – وهو حق من حقوقه وشرف يود أن يناله. فلما لا يجد مردوداً للتعليم، ولا يجني من العلم الذي تعلمه ثماراً، يهتز أيضاً التعليم كقيمة اجتماعية. وعند هذه النقطة ذكر العدل أن الطلاب في هذه الحالة يسودهم شعور بحالة من الإحباط الشديد بعد أن يكتشفوا أن الخريجين الذين سبقوهم في إتمام دراستهم معروضون في سوق العمل بثمن بخس، وبالرغم من ذلك فإنهم لا يجدونه. وعلى هذا الأساس فإن الارتفاع النسبي في معدلات التسرب من الدراسة – الذي عرضنا له عند الإشارة إلى تشغيل صغار السن – قد يكون أحد النتائج المنطقية لهذا، ليخسر الفرد ويخسر المجتمع الاستثمار في التعليم.
ج) العزلة النفسية الاجتماعية، بمعنى انفصال الشخص عن مجتمعه وتراثه والعيش في شبه عزلة لأنه يرى المعايير المتفق عليها اجتماعياً (نظرياً) تتهاوى، فهي في جانب وما يحدث على أرض الواقع في جانب آخر. وهنا يصبح الشخص يعاني من الانفصام الاجتماعي.
وعلى وجه العموم، فإنه نتيجة لكل هذه المظاهر الاغترابية تبرز كثير من المشكلات، ويأتي في مقدمتها سوء التكيف والتعرض للأمراض النفسية والنفسجسمية، والأمراض النفسية الاجتماعية، كفقد الحس المجتمعي، واهتزاز الهوية، وضعف الانتماء الوطني، والإصابة بأمراض التبلد والسلبية واللامبالاة.. وغيرها من الأمراض الاجتماعية والنفسية المدمرة، والتي قد تقود بدورها إلى مشكلات أكبر منها متمثلة في الانحرافات بشتى اتجاهاتها ومختلف صورها.
4- الهجرة:
وسط كل هذه المظاهر الاغترابية التي يتعايش معها الشخص العاطل، المحروم، وشعوره بأنه غريب في وطنه، الذي لم يوفه حقه، ولم يوف بالعهد والعقد الاجتماعي – متمثلاً في عدم تمكينه من حقه في العلم وحرمانه من واجب وشرف القيام به، وتجريده بالتالي من حق العيش الكريم. وسط كل هذا، ووسط القلق والتوتر المتزايد، ونظراً إلى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش طويلاً في حالة توتر، فقد يشعر الفرد أنه في المكان الخطأ، ولا بد له من البحث عن مخرج للوصول إلى مكان الصواب، فيكون التفكير في الهجرة واتخاذ قرارها – رغم عدم سهولته اجتماعياً ونفسياً.
إن الهجرة قد تكون هنا كصمام الأمان الذي يمنع الوضع من الانفجار. فهي – كحركة عبر الحدود بهدف الإقامة الدائمة لا تقل عن سنة للعمل – تخفف الضغط عن مناطق الضغط العمالي المرتفع وتتحول به إلى مناطق الضغط العمالي المنخفض، لتضع في النهاية توازناً اقتصادياً مأمولاً، ولكنه يكون غير ذلك اجتماعياً، حيث تنتج عنه مشكلات أخرى كثيرة ومتداخلة، لتزيد الوضع تعقيداً على تعقيده.
فالهجرة – عند جمهرة مفكريها – تتم نتيجة مجموعتين من العوامل: عوامل طرد كامنة في المجتمع المرسل (المهاجر منه)، وعوامل جذب قائمة في المجتمعات المستقبل والمهاجر إليه. وإذا كانت عوامل الطرد وعوامل الجذب بدورها متعددة: بيئية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية وسياسية، فإن أهمها – في مجالنا المحدد – هو وجود بطالة في المجتمع الطارد في مقابل وجود فرص عمل في المجتمع الجاذب، والتي بناء عليها يتخذ الشخص قراره بالهجرة، إلا أنه عندما يهاجر بالفعل، فإن مشكلات لا حصر لها تنجم عن قراره هذا، وسواء كان هذا بالنسبة للمجتمع الذي نزح منه أو المجتمع الذي وصل إليه. فهجرة هؤلاء تسبب للمجتمع الطارد:
1- حرمانه من نخبة من خيرة شبابه وصفوة رجاله النشيطين بقوة والأكثر طموحاً ووعياً وخبرة وكفاءة – باعتبار أن الهجرة عملية انتقائية يتم بمقتضاها نزوح أفضل العناصر (من المجتمع الطارد) من جهة، كما أن الدول المستقبلة بدورها تبحث عن أفضل العناصر وتجتذبها.
2- حرمانه من استثمار جهد هؤلاء المهاجرين ونشاطهم وقدرتهم على البناء، وما قد يكون لهذا من تعطيل لقدرات التنمية والتطوير.
3- خسارة ما أنفق على تنشئة وتربية وتعليم وتدريب هؤلاء من مال ووقت وجهد، وإضافة كل هذا إلى المجتمع المنتقل إليه.
4- وبفقده جزءاً له اعتباره من رجالاته الشابة، فإنه يكون متخماً أكثر بالشيوخ والنساء والأطفال، بما لهم جميعاً من مشكلات ومعاناة، وما يتطلبون من رعاية أوفر، وبذلك يحرم المجتمع هنا من الدماء الشابةن القادرة على التنمية.
5- إيجاد مشكلات اجتماعية ونفسية وأخلاقية للأشخاص والأسر ومنها:
أ) خلخلة البناء الأسري، وتعرضه للتفكك، نتيجة لحدوث خلل في أسلوب التنشئة الاجتماعية والتربية بسبب غياب الأب أساساً. فالمفهوم أن الأسرة في وطننا العربي أسرية أبوية، يشكل فيها الأب عادة السلطة الموجهة والضابطة، فيما تمثل الأم دور العطف والحنان في العادة، وعليه يقوم نوع أو آخر من التوازن في التنشئة الاجتماعية والتربية. فإذا ما غاب الأب، بسبب عدم سماح النظم في بعض الدول المستقبلة اصطحاب بعض أرباب الأسر المهاجرين للعمل أسرهم معهم)، حرم الأبناء هذا التوازن.
ب) ونتيجة لفقد التوازن، فقد يتعرض بعض الأبناء للانحراف، وخاصة أن الأم في هذه الحالة لا تستطيع لوحدها مراقبة وتوجيه سلوك الأبناء وخاصة الكبار منهم.
ج) غياب الأمن والأمان بالنسبة للأسرة وزيادة معاناتها النفسية والاجتماعية نتيجة غياب الأب – مصدر الحماية والأمن.
د) احتمال تعرض الزوج والزوجة لبعض الانحرافات الأخلاقية نتيجة الحرمان ونتيجة أيضاً للإغراءات التي قد يتعرضان إليها، وخاصة إذا كانوا في بدايات حياتهم الزوجية.
هـ) ونتيجة لهذا قد يمارس أبغض الحلال إلى الله، ويتم الطلاق، وتبدأ أنواع أخرى من المعاناة الأسرية والضياع.
و) ضعف الهوية الوطنية وفقد الطابع الثقافي الوطني نتيجة للتأثر بطبائع ثقافات أخرى – خاصة إذا كانت مخالفة للثقافة الأصلية، ويدخل فيها تأثر درجة التدين. وهذا لا يحدث بالنسبة للمهاجرين فقط، وإنما يتأثر بها ذووهم هم أيضاً وذلك حين نقلها إليهم من خلال الزيارات التي يقوم بها المهاجرون أو عند عودتهم النهائية لأوطانهم.
6- والأهم من كل هذا، والأصعب، هو أن الشخص المهاجر نفسه قد يفتقد الشعور بالأمن والأمان (الذي هاجر أساساً من أجله)، ويحس الضياع والمهانة نتيجة لتعرضه لبعض الظروف التي ينتهز فيها بعض أناس من المجتمعات المستقبلة فرصة حاجة هؤلاء المهاجرين والتعامل معهم في بعض المواقع والظروف بطرق لا أخلاقية تحط من كرامتهم.
أما بالنسبة للمجتمع الجاذب، فيتسبب عن الهجرة إليه:
1- خلل التركيبة السكانية، حيث تزيد في هذا المجتمع فئات الأعمار الشبابية وتقل بالتالي فئات الأطفال والشيوخ، كما تزيد فيه معدلات الذكور عن الإناث.
2- زيادة الكثافة السكانية، وما ينتج عنها من التكدس والتزاحم السكاني وانكماش مساحة الفراغ بالنسبة للفرد، ويتسبب عن هذا عدم توازن بين المطلوب من الخدمات بأنواعها (الإسكانية والمرورية والغذائية والتعليمية والعلاجية والترويحية) والمتوفر منها.
3- تلوث البيئة الطبيعية والثقافية، حيث تزيد الأنشطة بزيادة العمالة الوافدة في كل المجالات ويزداد التلوث من جانب، كما أنه قد يكون هناك ما يمكن أن يطلق عليه التلوث الثقافي الناتج عما يتسلل إلى المجتمع المستقبل من عادات وتقاليد قد لا تكون مناسبة لما هو سائد به، فيتسبب عن ذلك نوع من الصراع الثقافي الذي يترك آثاراً على الثقافتين معاً.
4- انكماش كم وكيف الخدمات المتاحة، حيث يزاحم الوافدون الجدد المواطنين فينخفض نصيب الفرد من الخدمات بكل أنواعها.
5- زيادة معدلات البطالة (الفعلية والمقنعة)، حيث عادة ما تكون العمالة الوافدة أكثر تقبلاً ورضاء للأجور والظروف المتاحة، وبالتالي يشكلون عنصر تنافس للعمالة الوطنية – وخاصة في المهن والأعمال التي يترفع عنها بعض المواطنين في الدول الجاذبة للعمالة. فإذا ما اضطرت الدول المعنية إلى تشغيل هؤلاء، فإنها قد تفعل هذا رغم عدم الحاجة إليهم، فتنشأ بطالة مقنعة. وهنا يجدر بنا أن نلاحظ أن الهجرة وإن كانت في الأصل تحد من حجم البطالة في البلاد المرسلة، فإنها قد تزيد من حجمها في البلاد المستقبلة، على أن الأغرب من هذا هو ملاحظة أن بعض الدول العربية، نفطية وغير نفطية، تستقدم عمالة من الخارج رغم وجود بطالة في الداخل.
6- خفض الأجور والدخول، حيث أن زيادة العرض على الطلب في سوق العمل يعطي الفرصة لأصحاب الأعمال لفرض ما يرونه، ويضطر العامل إلى قبول الأجر الأقل – من منطلق الحاجة، الأمر الذي يكون له تأثيره السلبي على جودة الحياة ومستويات المعيشة في مجملها.
7- ارتفاع تكاليف المعيشة، حيث ان ازدياد أعداد العمالة الوافدة يجعل التنافس على السلع والخدمات يشتد، فتتحرك آلية الأسعار إلى أعلى، وخاصة إذا كان المعروض أقل من المطلوب.
8- ارتفاع معدلات الانحراف والجريمة، حيث أنه إذا لم يجد الوافدون فرصاً مناسبة للعمل، تدر دخولاً كافية، فقد يلجأ البعض منهم إلى السلوكيات الانحرافية والإجرامية، خاصة وأن تكيفهم مع الأوضاع الجديدة لا يتم بسهولة، كما يكون لدى بعضهم حساسية زائدة تجاه ذلك المجتمع الجاذب.
اترك تعليقاً