مقال قانوني في الوساطة الاتفاقية لفض النزاعات في قطاع البناء

بقلم ذ نبيل رشد

إعادة نشر بواسطة محاماة نت

دكتور في القانون مهندس معماري، خبير قضائي، وسيط، محكم
تحت عدد: 75
تقديم
نعرض حالة واقعية لنزاع نشأ بين مواطنة مغربية مقيمة بالخارج و مقاول حول انجاز مشروع سكني و تجاري يقع في إقليم سطات، حيث اتفق الطرفان عقب فشلهما في الوصول إلى حل حبي بينهما على تعيين وسيط مختص في الهندسة المعمارية لتسوية النزاع بالطرق البديلة قبل اللجوء إلى القضاء.

و لتعميم الفائدة، نجرد هنا وقائع هذه النازلة من وجهة نظر كل طرف على حدا و المنهجية المعتمدة من قبل الوسيط. و حفاظا على السر المهني بالنسبة إلى الأغيار المنصوص عليه قانونا، تم حذف أسماء طرفي النزاع.

الوقائع

بعد الحصول على قرض بنكي، وقعت المستثمرة السالفة الذكر عقدا عرفيا مع مقاول لبناء عمارة سكنية من 4 طوابق مساحتها 480 م²، بمبلغ قدره 1.440.000,00 درهم. و من شأن هذا المشروع الكائن بمنطقة سياحية في طور التعمير أن يدر مداخيل مالية مهمة حيث سيتم كراء الشقق الستة الموجودة على 3 طوابق علوية فضلا على المداخيل المنتظرة للمحل التجاري المتواجد بالطابق الأرضي.

سددت صاحبة المشروع للمقاول الكشوفات الحسابية عند قدومها إلى المغرب، لكن بالرغم من ذلك لم تنته الأشغال و تأخرت بسنتين حسب الآجال المتفق عليها، مما أدى إلى ضياع مبالغ إيجار الشقق و المحل التجاري المزمعين بقيمة قدرها 480.000 درهم في السنة، أي 960 ألف درهم إلى غاية توقف الورش.

و حسب أقوال المعنية بالأمر، فان المقاول هو المسؤول عن التغييرات المدخلة على التصاميم الهندسية المرخصة من طرف السلطات المختصة و عن أشغال حفر القبو دون إذن مسبق، الشيء الذي من شانه أن يعرقل الحصول على رخصة السكن التي تسلمها الجماعة عند انتهاء البناء، كما تنازع في جودة الأشغال و في فواتير المقاولة.

أما بالنسبة للمقاول فانه يطالب بتعديل العقد لرفع ثمن المتر المربع وأداء الأشغال الإضافية طبقا للثمن المعمول به في السوق عوض الثمن المحدد في العقد الأصلي الذي أصبح متجاوزا حيث ارتفع سعر المتر المربع من 3000 درهم إلى 3600 درهم لاحتساب 120 متر مربع المبنية في القبو أي 432.000,00 درهم وكذلك مبلغ 150.000,00 درهم عن التعديلات المدخلة بالشقق، أي ما مجموعه 582.000,00 درهم.

كما يطالب المقاول أداء فواتيره بالموازاة مع تقدم الأشغال بحيث أن التسديدات المحصلة مرة واحدة في السنة إبان الفترة الصيفية، تسبب له أضرارا مادية حالت دون تزويد الورش بمواد البناء وأداء أجور العمال، الأمر الذي أدى إلى تعثر الأشغال وتأخرها بسنتين مقارنة مع الجدول الزمني المتفق عليه. و فيما يتعلق بعملية حفر القبو و تعديل تصاميم الطوابق العلوية، صرح المقاول بأن ذلك يصب في مصلحة صاحبة المشروع و أنه تعذر عليه الاتصال بها لوجودها خارج التراب الوطني.

إطار الوساطة و منهجية الوسيط

بناء على العقد الرابط بين طرفي النزاع و بعد الاستماع إلى أقوالهما و مقارنة بين وجهات نظرهما و على مستنتجات الخبرة المنجزة بعين المكان، توصل الوسيط إلى اقتراح مشروع صلح وضع حدا للخلاف القائم بينهما، مراعيا في ذلك تقنيات الوساطة و مقتضيات قانون التحكيم و الوساطة رقم 05-08 المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5584 بتاريخ 06 ديسمبر 2007.

الاتفاق المبرم بين صاحبة المشروع والمقاول يعتبر في حقيقة الأمر نتاجا لعملية طويلة من المفاوضات و التي تطلبت مجهودات مضنية من حيث التريث والدبلوماسية والإقناع وأحيانا التحفيز لتفادي القطيعة بين الطرفين.

ويعتبر دور الوسيط دورا حاسما حيث يجب عليه أن يعلن منذ البداية عن قواعد لعبة الوساطة، و حياده و سرية المعلومات وحرصه على احترام مصالح الطرفين ؛ كما عليه أن يفصح عن المراحل الواجب تتبعها وإمكانية الاتصال بمحاميي الطرفين أو الخبير.

و حيث يسرد كل طرف الوقائع بصيغة مخالفة تماما لرواية الطرف الآخر، يتعين على الوسيط حسن الإصغاء إلى أقوالهما و الانتباه إلى المسكوت عنه و بالخصوص إلى لغة الحركات، دون إغفال البحث الحثيث عن المصالح المشتركة للمتنازعين قصد إبرازها كعناصر لبناء أرضية مشتركة تجمع بينهما.

أحست مالكة العقار منذ بداية الجلسات بالثقة في الوسيط، في حين أن المقاول أبان عن تردد معتقدا أن الوسيط لا يمكن أن يكون محايدا في هذه القضية لأنه اختير في البداية من قبل الطرف الآخر. وقد استدعى الأمر عقد جلسة تمهيدية مع المقاول لكسب ثقته في الأول ولشرح مزايا الوساطة الاتفاقية عوض اللجوء إلى المحاكم حيث تعقد المساطر و كلفة الرسوم القضائية و المصاريف، ناهيك عن الأضرار المادية و المعنوية الناجمة عن توقف المشروع. هذه الحجج كانت جد مقنعة، فقبل المقاول في نهاية المطاف الالتقاء في جلسة علنية قام فيها الطرفان “بالاستمتاع بتفريغ” ما لديهما من شحنة، فسمحت هذه اللحظة المتميزة للاستماع إلى أقوالهما و بالشروع في عملية تقريب وجهة نظر الطرفين.

وفي مرحلة ثانية، تطلب تحديد مشاكل بناء العمارة فضلا عن دراسة تصريحات الطرفين على التوالي الانتقال إلى عين مكان موضوع النزاع. غير أن الطرفين كانت مواقفهما متناقضة تماما بشأن أشغال البناء و كميتها و جودتها و التغييرات التي أجريت على المشروع وتداعيات تأخير تسليم الورش.

ولوضع نهاية لهذا النزاع التقني، اتفق الطرفان بمبادرة من الوسيط على اللجوء إلى خبرة مهندس معماري وهي المهمة التي أسندت للوسيط بإجماع الطرفين. و هكذا فقد حل تقرير الخبير عدد كبيرا من نقاط سوء التفاهم بينهما، مما ساهم في تقريب ملموس بين موقفيهما.

كما سلطت الخبرة الضوء على المصالح المشتركة للطرفين، مما سهل البحث عن طيف من الحلول من بينها تلك التي اعتمدها الطرفان طبقا للصلح أدناه.

الصلح

عند نهاية عملية الوساطة التي دامت حوالي شهرين في شكل جلسات علنية بحضور الطرفين و مع كل طرف على حدا، ونظرا لفوائد التفاوض من حيث ربح الوقت و المصاريف، وخاصة من حيث استمرارية العلاقات التعاقدية لإتمام الأشغال، فإن المستثمرة و المقاول اتفقا على التنازلات المتبادلة ليقررا معا ما يلي :

1. التنازل عن أي دعاوى قضائية مستقبلية واعتبار هذا الصلح نهائيا و يكتسي قوة الشيء المقضي به، و لهذه الغاية فإن الطرفين يتفقان على اللجوء معا في أجل أقصاه 15 يوما انطلاقا من توقيع محضر الصلح، إلى رئيس المحكمة المختصة محليا للبت في موضوع النزاع بإعطائه الصيغة التنفيذية.

2. تبني نتائج الخبرة المنجزة أثناء عملية الوساطة بخصوص كمية الأشغال الإضافية، و جودة مواد البناء وحسن استعمالها.

3. إنهاء أشغال البناء في أجل مدته 60 يوما تحت طائلة غرامة مالية قدرها 2000 درهم عن كل يوم تأخير باعتبار أن الأشغال قد وصلت مرحلة متطورة جدا.

4. أداء مبلغ الأشغال الإضافية للمقاول التي تم جردها في تقرير الخبير، مع الإبقاء على ثمن المتر المربع المغطى المنصوص عليه في العقد الأصلي بالنسبة للأشغال الإضافية زائد مبلغ 50 ألف درهم عن الأشغال التعديلية المنجزة في الطوابق العلوية : )3000 درهم × 120 م(² + 50 ألف درهم = 410.000.00 درهم.

5. تحمل كل طرف 50 % من أتعاب المهندس المعماري لإنجاز التصاميم التعديلية للمشروع.

6. إيداع التصاميم التعديلية للمشروع بمقر الجماعة المحلية للحصول على ترخيصها.

7. تسليم صاحبة المشروع كافة الوثائق المكتوبة والرسومات و الفواتير الرسمية وتحاليل المختبر و ورقة الموافقة على صب السقيفة وتصاميم الربط.

و طبقا لمقتضيات الفصل 327-68 من قانون المسطرة المدنية، وقع الوسيط مع الطرفين وثيقة الصلح الذي توصل إليه.

بقلم ذ نبيل رشد
دكتور في القانون مهندس معماري، خبير قضائي، وسيط، محكم

شارك المقالة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر بريدك الالكتروني.