دراسة: القضـاة وواجـب التحفـظ
واجب التحفظ حماية مصلحة المرفق وتأكيد مبدأ المساواة للمستفيدين منه
كان القضاة وعلى مدى العقود الماضية منضوين أحيانا تحت لواء رابطة القضاة وأحيانا تحت لواء الودادية الحسنية للقضاة في إطار جمعية لها خصوصيتها تأويهم وتضمهم وتعبر عن مطالبهم لدى الجهات المسؤولة بصفتها هيأة مدنية تمثيلية للقضاة.مع صدور الدستور الجديد وما يتضمنه من حقوق برزت رياح جديدة دفعت بفئة كبيرة من القضاة إلى خلق كيان يمثلهم فانضووا تحت لواء جمعية مهنية أطلقوا عليها اسم « نادي القضاة « مستندين في هذا التنظيم الجديد إلى مقتضيات الفصل 111 من الدستور الذي يعطي الحق للقضاة في حرية التعبير.
وقد تم فهم هذا المقتضى بأن القضاة لم يكونوا يتمتعون بهذا الحق في السابق، وأن الودادية لم تكن تمثلهم أحسن تمثيل بل يعتبرون بأنها كانت تفرض عليهم نوعا من الهيمنة وأنهم كانوا مطالبين بالولاء الكامل لها ولها وحدها، ولا يسمح لأي عضو أو فئة من القضاة الإدلاء بأي رأي أو الانفراد بوجهة نظر. وأن الودادية لم تعمل على تحيين وضعيتها القانونية في الآجال المتطلبة.
وقد شهدت ساحة القضاة في الآونة الأخيرة خلخلة للكيان السابق وراحوا يعبرون عن آرائهم ومواقفهم ومطالبهم بواسطة الكيان الجديد «نادي القضاة» انضمت إليه أغلبية القضاة خاصة الشباب منهم وعبروا من خلاله عن قضايا جريئة لم يسبق أن تقدم بها زملاؤهم من قبل، وأصبحت مطالبهم عبارة عن مزيج من تسوية أوضاعهم المادية من جهة وتسوية منظومة القضاء من جهة أخرى وامتزجت مطالبهم بتهديدات تدعو إلى اتخاذ مواقف نضالية فتحولت بذلك إلى مطالب نقابية تدعو إلى حمل الشارة، والتهديد بممارسة أنواع من الاحتجاجات كالامتناع عن توقيع الأحكام وتمديد النطق بها وعدم البت في الغرامات إلخ …
وهذه الحركية تستند إلى مقتضيات الفصل 111 من الدستور الذي يتطلب الرجوع إليه لفهم مضامينه وأبعاده.
القاضي وواجب التحفظ
لقد ورد في الفقرة الأولى من الفصل 111 من الدستور المغربي الجديد الصادر في 29 يوليوز 2011:
« للقضاة الحق في حرية التعبير بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية».
وهو مقتضى جديد غير مسبوق في الدساتير السابقة يعترف للقضاة بالحق في حرية التعبير، إلا أن ممارسة هذه الحرية رهينة بملاءمتها مع واجب التحفظ من جهة وأخلاقيات المهنة القضائية من جهة أخرى.
وهو ما ينبغي أن يستحضره القارئ من هذا الفصل خاصة القضاة ورجال القانون.
فمقتضيات الفصل المشار إليه يستشف منه أنه يسمح للقضاة بقدر من الحرية والتفكير ولهم حرية التعبير عن آرائهم بكافة الطرق والوسائل المشروعة التي يبيحها القانون، ولكن دون أن يتجاوزوا بعض الحدود واستحضار واجب التحفظ ومراعاة الأخلاقيات القضائية.
فالقاضي قبل كل شيء يعتبر أداة من أدوات الدولة التي ترمي إلى تحقيق أهداف معينة، وهذه الأهداف هي التي تقيد حريته في التعبير عن آرائه في بعض الأحيان، إذ يجب على القاضي أن يتخذ الحيطة والتحفظ، حينما يعبر عن آرائه بصورة لا تعرض أداء المرفق الذي ينتمي إليه للتشويش.
إن الهدف من وراء ممارسة الحق في حرية التعبير بشكل يتلاءم مع واجب التحفظ هو حماية مصلحة المرفق وتأكيد مبدأ المساواة للمستفيدين منه.
وتجدر الإشارة بأن أول استعمال لمصطلح التحفظ (Reserve) كان من قبل مجلس الدولة الفرنسي في حكم Terrisse عام 1919 عندما قضى أن سكرتير العمدة قد خرق واجب التحفظ المفروض عليه عندما سمح لنفسه أن يكون طرفا في الجدال الانتخابي الدائر حول تسمية المجلس البلدي الجديد في 15/11/1911.
وقد تم استخدام مصطلح التحفظ من قبل المشرع في فرنسا عند صدور المرسوم الخاص بتنظيم سلك القضاء بتاريخ 22/12/1958 حين منع القضاة في المادة العاشرة منه من إظهار أي مشاعر من طبيعة سياسية تتنافى مع التحفظ المفروض عليهم في وظائفهم.
وبعد ذلك توالت النصوص القانونية التي تكرس واجب التحفظ في مجالات متعددة ومنها القانون الصادر بتاريخ 26/01/1984 الخاص بالتعليم العالي في المادة 57 منه التي نصت على أن الأساتذة والباحثين يملكون حرية التعبير كاملة واستقلالا تاما في ممارستهم لوظائفهم التعليمية ونشاطهم في مجال البحوث مع مراعاة واجب التحفظ طبقا للتقاليد الجماعية ونصوص القانون.
ولا يختلف واجب التحفظ في الدول الأخرى عنه في فرنسا فقد نبعت الفكرة من واجب الحياد الذي يجب أن يتصف به مرفق القضاء تجاه المستفيدين من خدماته.
استقلال القضاء وتعيين القضاة
إن الذراع الثالث للدستور يتمثل في السلطة القضائية، ويجب أن تكون هذه السلطة مستقلة كليا عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.
فالقضاة يبنون طموحهم ومستقبلهم على إرضاء رؤسائهم المباشرين وغير المباشرين حتى لا يفسدوا فرصة ترقيتهم حتى ولو كانوا آمنين وضامنين لمناصبهم.
وفي بعض الدول بذلت محاولات لإبعاد السياسة عن التعيينات والترقيات في سلك القضاء ومع ذلك يبقى شبح بعض التيارات السياسية مهيمنا.
والمغرب يسعى جاهدا إلى ضمان هذا الاستقلال فتعيين القضاة يتم من طرف جلالة الملك. ومراقبة عمل القضاة يتم من طرف المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزير العدل يعتبر عضوا في هذا المجلس.
وبعد التعيين وأداء اليمين يجب أن يشعر القاضي بأنه أصبح مستقلا عن وزير العدل وتتحول سلطة مراقبة أعماله إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.
لا شك أن إنشاء المجلس الدستوري يعتبر من حيث المبدأ كسبا يستحق الإشادة والتقدير لأنه وضع أهم ضمانات الحرية والمساواة موضع التنفيذ كما أن في هذا الإنشاء تحقيق لأخص ضمانات مبدأ سمو الدستور وسيادة أحكامه.
بقلم: الدكتـور محمـد خيـري, أستاذ التعليم العالي (سابقا)
محام بهيأة الدار البيضاء
اترك تعليقاً