جهـة الإدارة وعلاقتهـا بالســلطة القضـائيـة
بقلم القاضي حلمي فارس الكخن
رئيس محكمة إستئناف رام الله
جهـة الإدارة وعلاقتهـا بالســلطة القضـائيـة وأثر ذلك على رواتب القضاة وترقياتهـم
ما بات يلفت النظر مؤخراً هو كثرة لجوء السادة القضاة إلى المحكمة العليا للمطالبة بحقوقهم المالية الناشئة عن ترقياتهم، رغم أن هذه المسألة لم تكن مطروحة إلى حد قريب عند ترقية ممن سبقهم من زملائهم.
لذلك ينبغي قبل الدخول في عمق هذا الموضوع أن نشير إلى أن الشخوص الذين تتعلق بهم هذه الدراسة وهم القضاة، لهم على جانب كبير من الأهمية والرفعة والسمو، لما يفترض أن يكونوا عليه من العلم والمعرفة والنزاهة والحياد والإستقلالية التي تمكنهم ن تحقيق العدالة المنشودة، ومن أجل هذه الخصوصية حذى المشرع الفلسطيني حذو معظم شرائع المجتمع الدولي في تحصين القضاة بقانون خاص ينظم شؤونهم القانونية وحقوقهم المالية وكادرهم الإداري من خلال قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2000.
ولما كان ذلك فإنه يحظر المقارنة بين أحكام هذا القانون وبين ما سواه فيما يخضع له القضاة من أحكام تتعلق بشؤونهم القانونية أو المالية أو الإدارية، ليس ذلك تمييزاً لهم عمن سواهم من البشر ولكن صوناً لهذه الشريحة من المجتمع خاصة فيما تضمنه كادرهم المالي والإداري الخاص بهم من كل ما من شأنه أن ينال من إستقلاليتهم وهيبتهم التي تتجسد بها العدالة، كيف لا وهم ظل الله في الأرض يجاهدون لتحقيق إسم من أسماء الله الحسنى بين الناس – العدل – ولهذا فإن المساس بحقوق القضاة هو مساس باستقلاليتهم، فلا استنكار ولا تذمر من رواتب القضاة أو ترقياتهم أو علاواتهم المهنية أو علاوات أقدمياتهم السنوية أو الإدارية أو أي ميزة أخرى يحققونها تبعاً لمراكزهم و/ أو مقارنتها بما يخضع له باقي شرائح المجتمع من أحكام تنظم حقوقهم المالية أو الإدارية في قانون الخدمة المدنية أو بأية أنظمة أو لوائح تصدر عن جهة الإدارة بالإستناد لهذا القانون سواء كانت تنظيمية أو تنفيذية، لأن ما يخضع له القضاة من أحكام طبقاً لقانون السلطة القضائية لا يخضع لسلطان جهة الإدارة، ولا ينبغي أن يكون كذلك، وإلا أصبحت جهة الإدارة هي الحاكم فوق الحكام ويصبح استقلالهم حبراً على ورق، وهذا ما يجب محاربته وعدم السماح به وذلك تحقيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات أولاً، وتنفيذاً لأحكام القانون ثانياً، فقد نصت المادة الأولى من قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 2000 (السلطة القضائية مستقلة ويحظر التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة) وكذا المادة الثانية (القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون) أما المادة الثالثة فقد نصت (تكون للسلطة القضائية موازنتها الخاصة التي تظهر كفصل مستقل ضمن الموازنة العامة للسلطة الوطنية الفلسطينية) أما ترقية القضاة فقد نصت عليها المادة 18/5 والتي تنص على أن (تتم على أساس الأقدمية مع مراعاة الكفاءة) بمعنى أن الأقدمية هي إمتياز للقاضي تؤهله للترقية التي يجب أن يلازمها ما يترتب عليها من حقوق مالية تبعاً لسنوات الأقدمية التي هي أساس الترقية، وهذا ما يفسر إبتعاد المشرع الفلسطيني فيما اعتمده من مراكز وظيفية للسادة القضاة بدأ من مركز رئيس المحكمة العليا نزولاً إلى معاوني النيابة العامة مروراً بوظائف المحكمة العليا ومحاكم الإستئناف والبداية والصلح من خلال ما أفرده لهم من كادر خاص بوظائفهم أسماه به (جدول وظائف ورواتب وعلاوات القضاة وأعضاء النيابة العامة مفصلاً فيه الراتب الأساسي لكل وظيفة وعلاوة طبيعة العمل وبالإضافة إلى علاوة ليست سنوية فحسب بل هي علاوة دورية سنوية ومحدداً بذلك راتباً إجمالياً دون الإخلال بما ورد في المادة (32) منه من حقوق تتعلق بالعلاوات الإدارية والإجتماعية وعلاوات الإنتقال وعلاوة غلاء المعيشة المقررة لسائر موظفي الدولة وفقاً لأحكام قانون الخدمة المدنية، نقول أن هذا ما يفسر إبتعاد المشرع الفلسطيني من إخضاع القضاة للقانون العام وهو قانون الخدمة المدنية أو أي لائحة تنظيمية أو تنفيذية تصدرها جهة الإدارة بالإستناد إليه هذا القانون وهو قانون عام يخضع له عموم موظفي الدولة باستثناء السادة القضاة الذي خصهم المشرع كما أسلفنا بقانون خاص.
ويترتب على ذلك أن تحترم جهة الإدارة –وزارة المالية- بكافة مؤسساتها ودوائرها وأقسامها، وتحديداً ديوان الموظفين العام وقسم الرواتب ولجنة التقاعد ما لهذا القانون من خصوصية سواء فيما يتعلق برواتب القضاة وترقياتهم وما يترتب على هذه الترقيات من إمتيازات إستثنائية خاصة لا تنطبق على عموم الموظفين الذين يخضعون لأحكام قانون الخدمة المدنية الذي قسم الموظفين إلى فئات ودرجات لها مربوط أدنى وأعلى ولوائح خاصة بترقياتهم وتسكينهم في درجات لم يرد لها مثيل في قانون السلطة القضائية الذي قسم الكادر الوظيفي إلى وظائف دون درجات أو تسكين، وبالتالي فإنه من الخطأ الجسيم أن يشار إلى مسألة الدرجات والتسكين وآلياته في إطار التعين أو الترقيات في الكادر القضائي للقضاة، فمثلاً عند ترقية قاضي بداية بأقدمية عشرون عاماً إلى قاضي إستئناف لا يُسكن في درجة ما أو في مربوط درجة ما لخلو كادر السلطة القضائية للقضاة من كل ذلك، والهدف في ذلك تحصيناً لهذا الكادر من سلطان جهة الإدارة من ناحية وحماية لحقوق القضاة المالية من ناحية أخرى، ومن هنا يتبين أن القاضي الذي تم ترقيته إلى وظيفة قاضي إستئناف يتقاضى الراتب الأساسي المحدد للمركز الجديد بما يشتمله من علاوات مهنة وعلاوة دورية لسنوات الأقدمية دون الأخذ بعين الإعتبار أية مقارنة بين ما يحصل عليه القاضي عند إنتقاله من مركز وظيفي إلى آخر وبين ما يحصل عليه عموم الموظفين عند إنتقالهم من درجة إلى درجة أخرى وذلك لاختلاف القانون الذي يخضع لأحكامه كل منهم.
وتلخيصاً لما تقدم فإن السلطة القضائية بقضاتها القائمين عليها مستقلة بما حماها المشرع من عناصر الإستقلال التي يستمدونها من قانونهم الخاص وكادرهم الخاص وأن المساس بأي منها هو مساس بعناصر إستقلالها والذي ينبغي على كافة مؤسسات جهات الإدارة سواء كانت تشريعية أو تنفيذية أن تحافظ على إستقلاليتها حماية للمصلحة العليا وتحقيقاً للعدل المنشود – الأمر الذي يستتبع من جهة الإدارة أن تعمل على إحترام خصوصية السلطة القضائية بالقضاة القائمين عليها، وأن تعمل جاهدةً على أن تكون تلك العلاقة تضامنية وتكافلية وتعزيزية مبنية على تكريس إستقلال القضاء بكافة عناصره ونبذ الإفتئات من عناصر قوته وهيبته أو قنص حصانته، تحقيقاً لبناء دولة العدل والقانون.
اترك تعليقاً