الفقه القانوني والثقافة القانونية في الحياة المعاصرة
لا تشكل الثقافة القانونية في مجتمعاتنا العربية الا حيزا محدوداً، في حين ان لهذه الثقافة نظريات فلسفية وأصول وأدبيات تتعلق بأصل الحقوق والحريات العامة ساهم في وضعها كبار الفلاسفة منذ نشأتها في عهود الاغريق الى يومنا هذا وينبغي ان يطلع عليها كل من يعمل في مجال العدالة وحقوق الإنسان وكل من تهمه الشؤون العامة من رجال السياسة والاعلام والتربية وطلاب العلم في عموم الكليات والمعاهد الوطنية، فضلاً عن عموم المواطنين ليكونوا على بينة من حقوقهم وواجباتهم لما للثقافة القانونية من ادوار جوهرية متنوعة في الحياة المعاصرة،منها إدراك الحقوق والحريات العامة وأساليب ممارستها والقيود الواردة عليها وتوجيه عوامل التقدم،ونشر ثقافة وقيم العدالة الحقة ومكافحة كل ما هو ظالم وغير معقول…
والحال ان التجربة الديمقراطية الحقيقية تجربة حديثة في العراق، بما وفرته من حقوق وحريات عامة، ومن المتوقع ان تثار بشأنها نزاعات وخصومات متنوعة، وحداثة التجربة تتطلب الاطلاع على النظريات القانونية والأحكام القضائية المتعلقة بممارسة الحريات العامة وحق النقد السائدة في الدول التي ترسخت فيها الأنظمة الديمقراطية منذ قرون عديدة ونشرها في وسائل الاعلام المختلفة للمساهمة في خلق ثقافة عامة تقدر الحريات العامة وتمارسها باسلوب حضاري يساهم في تنمية عوامل الخلق والابداع في المجتمع، ولا يحتج على ذلك باختلاف القوانين، فالقانون علم عالمي راسخ له نظرياته المستقرة التي تستقي منها التشريعات الوطنية احكامها، فالقانون ليس مجرد نصوص محلية مثبتة في نصوص التشريعات ، ولو وجدت اختلافات او استثناءات فإنها لا تمس جوهر الحق او الواقعة ومن الميسور ادراك تلك الاستثناءات وتطبيقها في مواضعها التي وضعت من اجلها، فالقواعد والأحكام المتعلقة بالعدالة والانصاف مستمدة في اغلبها من نظرية القانون الطبيعي والأحكام المتعلقة بالأشخاص المعنوية في اغلب قوانين العالم مستمدة من نظرية الشخص المعنوي وإحكام المديونية والأموال مستمدة من نظرية الالتزام التي تطورت تدريجياً منذ عهود الرومان.
ومفاد ذلك من حيث التطبيق التشريعي ان القاعدة القانونية تتكون من عنصرين، هما الفرض والحكم، والفرض،وهو الأهم في الدراسة والبحث القانوني، هو الواقعة التي برزت إلى العالم الخارجي والحكم هو الأثر المترتب على تلك الواقعة، فالنص على انه ( من يرتكب جريمة قتل عمداُ يعاقب بالاعدام او السجن المؤبد) فالقتل هو الفرض والعقوبة هي الحكم، ويتطلب اعمال الفرض في الغالب، لصلته بصفة التجريد، عملاً عقلياً خالصا كالتفسير والاستنتاج المنطقي والاستنباط والتكييف القانوني للواقعة أما اعمال الحكم فلا يتطلب ذلك في الغالب لتجسده بصورة مدد زمنية او حسابات مادية،
بل ان اجراءات المحكمة منذ رفع الدعوى وما تمر به من اجراءات تحقيقية ومحاكمة واستماع للشهود والخبراء واجراءات تحري ومعاينة ومناقشات ودفاع واثباتات حتى ختام المرافعة تدور كلها حول تحقق فرض القاعدة من عدمه ولا تناقش العقوبة او الحكم الا بعد ختام المرافعة ، وبصورة عامة فان الفروض متشابهة او متقاربة في اغلب القوانين خاصة في نظام قانوني واحد كالنظام اللاتيني المتبع في فرنسا والبلاد العربية وهو الشائع في اغلب دول العالم ، فاركان جريمة القتل او السرقة او القذف وعمليات التكييف بشأنها هي ذاتها في فرنسا او ايطاليا او مصر او في العراق،
ومن هنا كان الالتجاء الى الفقه والقضاء الأجنبي او العربي وحتى الدراسة في كليات القانون الأجنبية ممكنا، كما ان تغير القوانين او تعديلها من وقت لأخر لا يمس في الغالب فروض القاعدة القانونية وانما يمس الأحكام المترتبة عليها وفي احوال معينة قد يمس بعض شروط تحقق الفرض، ولو كانت الفروض عرضة للتغيير الدائم لأصبحت الدراسة القانونية والبحوث القانونية شبه مستحيلة لان ذلك يعني انهيار للفقه القانوني القائم ، بينما نجد ان تغير حكم القاعدة لا يتطلب سوى القراءة المادية في متون القوانين للأحكام الجديدة. وإيمانا بهذه الحقيقة نصت الفقرة (3) من القانون المدني العراقي، فيما يتعلق بمصادر الأحكام، على انه ( وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الأخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية).
ان نشر ثقافة قانونية تتعلق بالأصول العامة،مثل ضرورة القانون ومعنى الدستور، مفهوم العدالة وقيم الحرية وممارستها ومبادئ النظام الديمقراطي، ومبدأ سيادة القانون، ومبدأ تكافؤ الفرص، ومبدأ مساواة المواطنين أمام القانون،ونظرية القانون الطبيعي، والغايات الأساسية التي يقوم عليها النظام القانوني، مبدأ مساواة المواطنين في الانتفاع من المرافق العامة، مبدأ المساواة في مباشرة الاعمال الاقتصادية، مبدأ المساواة في الضريبة، مبدأ المساواة في المعاملة، مبدأ حق الحياة لكل فرد، مبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان، مبدأ عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، مبدأ ضرورة سير المرفق العام بانتظام، مبدأ بطلان التصرفات نتيجة الاكراه ، مبدأ عدم جواز الالتزامات المؤبدة، مبدأ عدم التعسف في استعمال الحق …. لهي ضرورة وطنية خالصة تساهم في التخلص من ثقافة الدكتاتورية التي ترسخت في عقول بعض ابناء شعبنا، مما عرقل في كثير من الاحيان التجربة الديمقراطية الناشئة في العراق.
ان الدراسات القانونية لا تقتصر على شرح النصوص القانونية باسلوب الشرح على المتون الذي يقوم على التفسير الحرفي الذي ساد لبعض الوقت في مطلع القرن الثامن عشر، وهي السائدة ليومنا هذا في العراق التي يهتم بها العاملون في المجالات القضائية، والتي تسهم في تكوين ثقافة قانونية عملية محدودة وهذه ليست هي المقصودة بدعوتنا هذه، لان هذا النوع من الدراسات من عوامل جمود القانون لا من عوامل تطويره.
ومن عظمة فقه الشريعة الإسلامية ،ان فقهاء الشريعة وهم يفسرون القرآن الكريم وهو كلام الله المنزل بطريق الوحي لفظاً ومعناً على رسوله محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم لم يقفوا عند التفسير الحرفي للقرآن حصراً، باستثناء أهل الظاهر، ويكاد ان يجمع فقهاء الشريعة الإسلامية على ان النصوص تسري بلفظها وفحواها، بمعنى ان التفسير اما ان يقوم على استخلاص معاني النصوص من ظاهر عبارة النص ودلالة ألفاظه ( دلالة اللفظ على المعنى ) ، او ان يقوم على استخلاص معاني النص من دلالات مضمون عبارة النص( دلالة النص على مضمونه ) ولذلك قالوا ان العبرة في المقاصد والمعاني لا في الألفاظ والمباني . وتفسير علماء المسلمين تفسير علمي وعقلي يتميز بحرية فكرية محفوفة بالمشروعية .
وقد تبنى الفقه الإسلامي بكافة مذاهبه هذا الأسلوب في التفسير ، باستثناء اهل الظاهر الذين تمسكوا بحرفية النصوص ويقابلهم في الفقه القانوني الغربي مدرسة الشرح على المتون كما سبق البيان، وكلا المدرستان مندثرتان في الحال الحاضر، باستثناء انه يوجد لهما تطبيق واسع لدى رجال الإدارة والقضاء في بعض البلدان العربية، بالنظر لقعودهم عن مواكبة القفزات الهائلة في مختلف العلوم والنشاطات الاقتصادية والسياسية والحاجات الاجتماعية المتسارعة في كل يوم .
وواضح من التفسيرات الاجتهادية العميقة التي جاء بها فقهاء المسلمين وكذلك الفقه والقضاء المعاصر لمعالجة النقص في التشريع، ان أدراك الإنسان لا يقف عند حدود الألفاظ كما انه لا يجمد عند المعنى الحرفي للنص وانما يغور في أعماق النصوص ويكتشف أنواعا من المعاني والعلاقات المتلازمة بينها ، والغاية مسايرة تفسير القانون مع تطور المجتمع وبهدف الوصول الى حلول لمسائل لم تعالجها النصوص وفقا لحكمة التشريع وروح النصوص والأعراف المتواترة والمبادئ العامة وقواعد العدالة .
ومن الأمثلة الملفتة للنظر، تفسير فقهاء المسلمين قوله تعالى ( واتوا اليتامى أموالهم ) فذهبوا إلى ان المقصود هو، واتوا البالغين منهم، رغم ان البالغ لا يوصف باليتم ، وحكمة هذا التفسير منوطة بمصلحة الصغير الذي يموت ابواه ويتركان له ثروة ، فان سلمت له على هذا الحال من صغر السن واليتم لأضحى عرضة لسلب ثروته وللغش والخداع ممن لا يخافون يوما كان حسابه عظيماً . ومن ذلك ايضاً تفسيرهم لقوله تعالى (( وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ))
ومن الواضح ان هذه الآية الكريمة قد انزلت أصلا لبيان ان نفقة الوالدات والمرضعات وكسوتهن على الوالد وجوباً .
ولكن المتأملين المتعمقين فيها أدركوا انها تشير الى مدلولات وأحكام فقهية أخرى لم تكن ظاهرة في سياق النص ولكنها من لوازمه. وقالوا ، ان في هذه الآية إشارة الى ان النسب للآباء فقط استدلالا من اللام التي تفيد الاختصاص في قوله تعالى (وعلى المولود له) والى ان الأب ، مادام مختصا بالنسب ، لا يشاركه احد في النفقة لولده عليه ،وفهم من هذا الاختصاص ايضا ان الأب له عند احتياجه ان يمتلك بغير عوض من مال ابنه ما يسد به حاجته لأن اللام للملك والاختصاص وإذا كان تملك الولد غير ممكن فتملك ماله أمر وارد وجائز . وفي ذلك قال الفقهاء المسلمين ، أن دلالات النصوص على الأحكام لا تقف عند حدود المعنى الحرفي والسطحي للنص وانما تتعداها الى جوهر النصوص ومعقولها
اعادة نشر بواسطة محاماة نت
اترك تعليقاً