نقص القضاة.. وهم ٌ أم حقيقة؟
مما يلفت انتباه كل متابع للشأن القضائي في المملكة التصريحات الإعلامية المتباينة والمتضاربة لأصحاب الفضيلة من قيادات الجهات القضائية الجديدة، فيما يخص نقص أعداد القضاة في المملكة.
فسماحة الشيخ صالح بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، ومعالي رئيس ديوان المظالم منذ تعيينهما يؤكدان أكثر من مرة وفي مناسبات عديدة وجود نقص كبير في أعداد القضاة، ويعدان بتلافي هذا النقص وأن الجهود حثيثة لتحقيق ذلك؛ بينما يؤكد الدكتور محمد العيسى وزير العدل عدم وجود أي نقص في أعداد القضاة, وأن المشكلة الحقيقية التي تعوق إنجاز القضايا تكمن في نقص الكوادر الإدارية المساندة للقاضي، مما أدى لانشغال القاضي بأعمال أخرى لا تدخل في صميم عمله القضائي من الأعمال الإدارية، كما يعد معاليه ببذل المساعي الجادة لحل هذه المشكلة عبر الاستفادة القصوى من الوظائف الشاغرة في وزارة العدل التي تم تخصيصها لمشروع تطوير القضاء.
وفي مواجهة هذه التصريحات المتباينة يقف المتابع العادي في حيرة ٍ ليتساءل: هل هناك نقص فعلي في أعداد القضاة؟ أم أنها مجرد إشاعة؟!
وهل تعتبر هذه التصريحات مؤشراً على غياب التنسيق بين الجهات القضائية؟
أم دليلاً على اختلاف المعايير التي تأخذ بها كل جهة عن معايير الجهة الأخرى؟
وإذا كانت المعايير اختلفت وتباينت في مسألة بسيطة من شأن الإحصائيات والأرقام أن تحسمها في اتجاه واحد؛ فكيف يكون الحال في مسائل الخلاف الأخرى الأعمق والتي لا تكفي الأرقام والإحصائيات لحسمها؟!
إلا أن لي وجهة نظر ليست متشائمة حيال هذا التباين الكبير في التصريحات، لأنه إذا ما نظرنا إلى تصريح كل من أصحاب المعالي حول هذه المسألة تجده يتضمن إقراراً بالنقص في الجانب الذي يدخل ضمن اختصاصه، ووعداً بالعمل على سد هذا النقص، وهذه ناحية إيجابية، فأياً كانت الحقيقة إلا أن من المفيد والنافع للناس أن يقتنع كل من أصحاب المعالي بوجود نقص في الجانب الذي هو مسؤول عنه ليعمل على توفير ما يسد هذا النقص، وهذا أفضل بكثير من أن تلقي كل جهة باللوم على الأخرى ويتنصل كل مسؤول من واجباته كما يحدث في جهات أخرى غالباً.
ومن جهة أخرى فإن ما تضمنته تصريحات وزير العدل مراراً من تشخيص الأسباب الرئيسة لتأخر إنجاز القضايا، يجد أن ما أشار إليه معاليه من مشكلات وأسباب تعد تشخيصاً دقيقاً صادراً من رجل مارس القضاء ولامس ما يعانيه القاضي من مشكلات تعوق الإنجاز وتهدر الوقت الثمين للقاضي في أعمال لا صلة لها بالمهمة الأصلية للقاضي وهي الفصل في الخصومات بين الناس.
وهذه حقيقة يؤمن بها كل القضاة وهي محل تذمر وشكوى منذ سنوات طويلة.
وسواء كان هناك نقص فعلي في أعداد القضاة أم لا، إلا أني أؤكد أنه في حال تبني ما ذكره وزير العدل من تشخيص لمشكلة تأخير القضايا، وتطبيق ما ورد في تصريحاته من خطوات علاجية لهذه المشكلة والتي من أبرزها:
1- توفير الكوادر الإدارية والاستشارية الكافية لكل مكتب قضائي، تتولى كل الأعمال التي تشغل القاضي عن عمله الأصلي وتساعده على تحضير القضية ودراستها وبحثها، ومن ثم كتابة الأحكام ومراجعتها.
2- عدم إشغال القضاة بأي أعمال إنهائية وتفريغهم للنظر في الخصومات وإصدار الأحكام فقط.
3- تفعيل مكاتب الصلح في المحاكم.
4- إيجاد آلية دقيقة للتحكيم ومراجعة أنظمته وإصلاحها وإيجاد نظام فاعل للتحكيم التجاري.
وبنظرة متأنية فاحصة لما تضمنته تصريحات وزير العدل بهذا الخصوص نجد أنها تعتبر خريطة طريق للقضاء على مشكلة تأخير القضايا، ومع ذلك فلابد من زيادة أعداد القضاة لأنه لا يمكن أن تكون تصريحات قيادات الجهات القضائية بمن فيهم وزير العدل السابق، مجرد مبالغة أو تصريحات مرتجلة لا تستند على أي دليل.
وفي هذا الصدد أيضاً كم أتمنى أن يظهر للجميع مستوى أعلى من التنسيق التام بين الجهات القضائية خاصة (المجلس الأعلى للقضاء، ووزارة العدل) لأنهما في خندق واحد وذراعان لكيان واحد، وإذا كان التنسيق مطلوباً بين جميع الجهات الحكومية والوزارات والمصالح والهيئات، فكيف الشأن بجهة واحدة يعمل كل جزء منها في معزل عن الآخر.
وفي هذا الصدد أعيد التأكيد على ما سبق أن أشرت إليه سابقاً من أنه من المفارقات العجيبة الإقرار بوجود نقص هائل في أعداد القضاة، وتأخير غير مقبول في إنجاز القضايا، وكان آخر ذلك ما صرح به رئيس ديوان المظالم من عدم رضاه عن نسبة إنجاز القضايا في الديوان، ومع ذلك يوجد نسبة لا يستهان بها من القضاة يتم تفريغهم من العمل القضائي وتكليفهم بأعمال ذات طبيعة إدارية بحتة تؤثر سلباً على إنجاز القضايا، كما تؤثر أيضاً على القاضي نفسه الذي ينقطع عن مزاولة العمل القضائي مع أن عمله القضائي هو الذي يكسبه الخبرة والتأهيل وليس الأعمال الإدارية.
كما أن من الجوانب التي أخشى أن يكون لها أثر سيئ على جودة الأحكام ومستوى إتقانها، كثرة التعيينات القضائية من القضاة الجدد الذين يتم الزج بهم مباشرة في ممارسة العمل القضائي والفصل في الخصومات دون اكتسابهم التدريب العملي الكافي والتأهيل التطبيقي المناسب الذي يمكنهم من إصدار أحكام موافقة للحق والعدل وملتزمة بالأصول الإجرائية وبقواعد العدالة العامة، خاصة في ظل التوسع في افتتاح محاكم الاستئناف والحاجة إلى توفير القضاة لها، ويكون ذلك من القضاة العاملين في الميدان، فيأتي القضاة الجدد في ميدان شبه خال من الكفاءات التي يمكنهم الرجوع إليها في المشورة والسؤال عما أشكل عليهم، فتحدث أمور لا تحمد عاقبتها.
وأذكر أنه عند تعييني في القضاء عام 1419هـ في فرع ديوان المظالم في أبها كنت أنا وزملائي من أصحاب الفضيلة القضاة المعينين حديثاً نرجع كثيراً إلى مشايخنا من القضاة السابقين الذين لهم قدم راسخة في العمل القضائي وتجربة طويلة وبقينا سنوات عدة نتعلم على أيديهم حتى اكتسبنا التأهيل المناسب الذي يمكننا من مزاولة العمل القضائي على وجه لا بأس به.
ولا أدري حقيقة كيف يكون الحال بالقضاة الجدد الذين لا يجدون مثل تلك الخبرات للرجوع إليها ولا تتوافر لهم المصادر المعينة على إصدار الأحكام.
وهذه الناحية المهمة تزداد خطورتها وتأثيرها السيئ في المحاكم الإدارية في ديوان المظالم، ذلك أن المحاكم الإدارية تقوم على إعمال السوابق القضائية والتي تتشكل منها مبادئ القضاء الإداري وقواعده، فكيف يكون الشأن بقاض متخرج في كلية الشريعة أو حتى المعهد العالي للقضاء ولم يتكون لديه بعد المهارة أو الملكة القضائية في القضاء الإداري.
ولا ينبغي أن يُفهم كلامي على أنه دعوة لتقليل تعيين القضاة، وإنما هو تأكيد على أهمية أن يراعى في تعيينات القضاة ما يكفل المحافظة على جودة الأحكام وانضباطها والتزامها بالأطر الواجبة للحكم القضائي إجرائياً وفي الموضوع.
اترك تعليقاً