الصيغة الوضعية لنظام الدولة القانونية
من المسلمات في العصر الحديث أن الدولة لابد أن تخضع للقانون ويعد هذاخضوع القانون بما يؤدي إليه من حماية لحقوق الأفراد وحرياتهم مظهرًا من مظاهر المدنية الحديثة.
والدولة لا تكون قانونية إلا حيث تخضع فيها جميع الهيئات الحاكمة لقواعد تقيدها وتسمو عليها، أي أن مبدا خضوع الدولة للقانون «أو مبدأ المشروعية يهدف إلى جعل السلطات الحاكمة في الدولة تخضع لقواعد ملزمة لها كما هي ملزمة بالنسبة للمحكومين».
والدولة المعاصرة لم تعد «هذه الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم ومشيئته دون أن تخضع هذه الإرادة أو المشيئة لقيود محددة معلومة. إن الدولة المعاصرة دولة قانونية تحكمها قاعدةالخضوع الحكام للقانون ، والتزام حكمه في كل ما يقوم بين الدولة والمحكومين من علاقات من جانب، أو بينها وبين الوحدات الدولية الأخرى من جانب آخر»([2]).
فإن من المسلمات الآن لدى كل الفقهاء أنه في الدولة المعاصرة لم يعد يكفي لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم العامة أن يسود القانون علاقتهم مع الدولة وما يتفرع عنها من هيئات عامة، لأنه بغي خضوع الدولة للقانون فلن يكون الحكم لغير القوة المادية ولغير سياسة الاستبداد والطغيان.
مقومات الدولة القانونية:
والدولة القانونية، بمفهومها الذي قدمناه، لها مقومات تقوم عليها هي أساس في وجودها؛ بوجودها توجد، وبانتفائها لا يُتصور وجود الدولة
القانونية.. وهذه المقومات هي:
1- وجود الدستور.
2- تدرج القواعد القانونية.
3- خضوع الادارة للقانون
4- الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية.
فأما وجود الدستور كأساس للدولة القانونية، فلأن الدستور يقيم نظامًا في الدولة ويؤسس الوجود القانوني للهيئات الحاكمة في الجماعة، محدداً من يكون له حق التصرف باسم الدولة ومحدداً أيضًا وسائل ممارسة السلطة، كما يبين طريقة اختيار الحاكم وحدود سلطاته واختصاصاته، ويمنحه الصفة الشرعية، إذ هو اسمى من الحاكم، وعلى ذلك تكون السلطة التي مصدرها الدستور مقيدة بالضرورة، وبذلك يحيط الدستور الهيئات الحاكمة بسياج قانونـي لا يمكنها الخروج عليه، وإلا فقدت صفتها القانونية، وفقدت تصرفاتها الصفة الشرعية، واستحالت إلى إجراءات قهر مادية.
ووجود الدستور يعني تقييد جميع السلطات المنشأة في الدولة أي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، لأن الدستور هو الذي أنشأها ونظمها وبيّن اختصاصاتها، ولأنها سلطات تابعة للسلطة التأسيسية.
ومع هذا المفهوم الذي قدمناه، يتعذر وجود الدولة القانونية بدون وجود الدستور، ومن هنا كان الدستور أول مقومات الدولة القانونية.
وأما تدرج القواعد القانونية، فإنه الركن الآخر في بناء الدولة القانونية. ذلك أنه لا يمكن تصور النظام القانوني للدولة القانونية بدون هذا التدرج الذي يظهر في سمو بعض القواعد القانونية على بعض، وتبعية بعضها للبعض الآخر.. فالقواعد القوانية ليست في مرتبة متساوية من حيث القوة والقيمة، ففي قمتها القواعد الدستورية، ثم تتلوها التشريعات العادية، ثم اللوائح الصادرة من السلطات الإدارية.. وهكذا يستمر هذا التدرج حتى يصل إلى القاعدة الفردية، أي القرار الفردي الصادر من سلطة إدارية دنيا.
وهذا التدرج يستلزم بالضرورة الدولة القاعدة الأدنى للقاعدة الأسمى، شكلاً وموضوعًا، فأما خضوعها شكلاً فبصدورها من السلطة التي حددتها القاعدة الأسمى وباتباع الإجراءات التي بينتها، وأما خضوعها موضوعًا فذلك بأن تكون متفقة في مضمونها مع مضمون القاعدة الأعلى.
وهذا التدرج بين القواعد القانونية يؤدي إلى وجوب تقيد القاعدة القانونية الدنيا بالقاعدة العليا، إذ لا يصح أن تتعارض قاعدة قانونية دنيا مع أخرى تعلوها في مرتبة التدرج، حتى لا يحدث خلل في انسجام البناء القانوني للدولة.
ومع هذا المفهوم لتدرج القواعد القانونية، أو تدرج النظام القانوني فيالدولة يتعذر أيضًا تصور وجود الدولة القانونية بدونه، ومن هنا كان تدرج القواعد القانونية أحد مقومات الدولة القانونية، لا قيام لها إلا به.
وأما خضوع الإدارةللقانون فهو ركن لا قيام للدولة القانونية إلا به، ومقتضاه أن الإدارة لا يجوز لها «أن تتخذ إجراءً، قراراً إدارياً أو عملاً مادياً، إلا بمقتضى القانون وتنفيذاًللقانون فالإدارة لكونها إحدى سلطات الدولة «يتعين عليها، كغيرها من السلطات، أن تحترم مجموعة القواعد القانونية المقررة في الدولة ، وأن تمارس نشاطها في نطاقها.. والتزام الإدارة بالعمل في دائرة وحدة النظام القانوني المقرر فيالدولة هو ما يطلق عليه مبدأ الشرعية أو «مبدأ سيادة حكم القانون»، أي خضوع الإدارة للقوانين المعمول بها.. ويعتبرخضوع الإدارة في نشاطهاللقانونتطبيقاً لمبدأ الشرعية، وعنصراً من عناصرالدولة القانونية، ويترتب على مبدأ الشرعية سيادة حكم القانون، وسيطرته، وخضوع الحكام والمحكومين له على السواء، فلا يصح أن يتحلل الحكام في الدولة القانونية، التي تقوم على أساس وجود المبدأ المذكور، من حكم القانون» ([3]).
ومتى صارت الإدارة في وضع لا تتقيد فيه بقانون، وتتخذ إجراءاتها، قراراتها الإدارية، وأعمالها المادية، استناداً إلى أهوائها، كنا أمام دولة بوليسية «حيث تكون السلطة الإدارية مطلقة الحرية في أن تتخذ قبل الأفراد ما تراه من الإجراءات محققاً للغاية التي تسعى إليها وفقاً للظروف والملابسات، وهذا هو النظام الذي عرفته الملكيات المطلقة في القرنين السابع عشر والثامن عشر.. » ([4]) أو أمام دولة استبدادية «تعسـف فيها الإدارة بالأفراد حسب هـوى الحـاكم أو الأمير، وتستبد بأمورهم».
ومع هذا المفهوم عن خضوع الإدارة للقانون باعتباره أحد مقومات الدولة القانونية، يتعذر أيضاً قيام الدولة القانونية بدونه، ومن هنا كان واحداً من مقوماتها وركناً من أركانها، لا قيام لها إلا به.
وأما الاعتراف بالحقوق والحريات الفردية، كأحد مقومات الدولة القانونية، فإنه الهدف الأساس من قيام الدولة القانونية، لأن «نظام الدولة القانونية يهدف إلى حماية الأفراد من عسف السلطات العامة واعتدائها على حقوقهم، فهو يفترض وجود حقوق للأفراد في مواجهة الدولة لأن المبدأ ما وجد إلا لضمان تمتع الأفراد بحرياتهم العامة وحقوقهم الفردية» ([5]).
ومتى اختفت الحقوق والحريات الفردية أو انعدمت في النظام القائم كنا أمام دولة بوليسية، ومتى وجدت ولكن كان من حق الحاكم أن يعسف بها ويستبد بأمور الأفراد كنا أمام دولة استبدادية، وفي الحالتين لا وجود للدولة القانونية.
فمع هذا المفهوم للاعتراف بالحقوق والحريات الفردية، كأحد مقومات الدولة القانونية، يتعذر أيضاً تصور وجود الدولة القانونية بدون الاعتراف بهذه الحقوق والحريات، إذ يتعذر تصور دولة قانونية ليس للأفراد فيها حقوق ولا حريات، ومن هنا كان الاعتراف بتلك الحقوق والحريات أحد مقومات الدولة القانونية، لا قيام لها إلا به.
ضمانات تحقيق الدولة القانونية، أو خضوع الدولة للقانون
ومع هذه المقومات التي أشرنا إليها لقيام الدولة القانونية، توجد ضمانات أخرى تتعلق بتنظيم أجهزةالدولة تنظيماً يمنع الاستبداد، ويحول دون الطغيان، ويصب في حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، وتتمثل هذه الضمانات في:
1- الفصل بين السلطات.
2- تنظيم رقابة قضائية.
3- تطبيق النظام الديمقراطي.
فمبدأ الفصل بين السلطات يشكل ضمانات لخضوع الدولة للقانون بما يؤدي إليه من «تخصيص عضو مستقل لكل وظيفة من وظائف الدولة فيكون هنالك جهاز خاص للتشريع، وجهاز خاص للتنفيذ، وجهاز ثالث للقضاء، ومتى تحقق ذلك أصبح لكل عضو اختصاص محدد، لا يمكنه الخروج عليه دون الاعتداء على اختصاص الأعضاء الآخرين، ولا شك في أن الفصل بين السلطات يمنع ذلك الاعتداء، لأن كلاً منها سيوقف عدوان الأخرى»، وذلك حسبما قرره مونتسكيو من أن «السلطة تحد السلطة» ([6]).
ومع أن المبدأ، الفصل بين السلطات، يشكل ضمانة هامة وفعالة للخضوع الدولة للقانون إلا أن عدم الأخذ بالمبدأ لا يعني عدم قيام الدولة القانونية أو انهيار معناها «فخضوع الدولة للقانون يتم بمجرد احترام الهيئات الحاكمة لقواعد اختصاصها وعدم خروجها على حدود سلطاتها، الأمر الذي يمكن أن يحدث دون الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات([7])». وما فصل السلطات إلا ضمانة من بين ضمانات أخرى لإجبار السلطة على احترام قواعد اختصاصها وعدم الخروج عليها.. حقيقة، إن فصل السلطات ضمانة أساسية وفعالة، ولكن يمكن أن نتصور -نظرياً- قيام نظام الدولة القانونية بغير الفصل بين السلطات.
ومع هذا، فقد ثبت تاريخاً أن الأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات وما ينطوي عليه من رقابة تباشرها الهيئات الحاكمة، كل على الأخرى، يسهم في خضوع الدولة للقانون ويشكل ضمانة هامة وفعالة لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم.
وتنظيم رقابة قضائية هو الضمانة الأخرى لخضوع الدولة للقانون بل هو «أقوى هذه الضمانات جميعاً. وذلك بما تقدمه النظم القانونية المعاصرة من حلول مختلفة في شأن تنظيم الرقابة القضاية على أعمال الهيئات العامة، إذ لا شك في أن مخاصمة الهيئات العامة أمام قاض متخصص يملك أن يناقشها [في] تصرفاتها، وأن يراجعها الحساب في مشروعية هذه التصرفات، سوف يكون من أهم عوامل إرساء مبدأ المشروعية وفرض احترامه على الجميع([8])».
فالرقابة القضائية تحقق، بدرجة أعلى من الرقابة البرلمانية والرقابة الإدراية،خضوع الدولة للقانون بما تعطيه للأفراد من سلاح يستطيعون بمقتضاه «الالتجاء إلى جهة مستقلة تتمتع بضمانات حصينة من أجل إلغاء أو تعديل أو التعويض عن الإجراءات التي تتخذها السلطات العامة بالمخالفة للقواعد القانونية المقررة»([9]).
وأخيراً، يشكل تطبيق النظام الديمقراطي بحسب نظام الدولة القانونية ضمانات أخرى، فتنظيم الحكم بطريقة ديمقراطية –حسب تسمية الفقه الدستوري- بما ينطوي عليه من حق المحكومين في اختيار الحاكم، ومشاركته السلطة مباشرة أحياناً، ومراقبته، وعزله، له أثره الفعال في خضوع الحكام للقانون ونزولهم على أحكامه.
تلك هي مقومات الدولة القانونية، وضمانات خضوع الدولة للقانون كما يوضحها فقهاء القانون العام. وهي مقومات وضمانات مماثلة – من حيث الشكل والمنظر، لا من حيث الحقيقة والجوهر- لتلك المقومات والضمانات الموجودة في الدولة القانونية بالصيغة الإسلامية، التي تضمنت زيادة على ذلك، خصائص الشريعة الإسلامية التي تعلو بها على القانون الوضعي، وكذلك منهجية تفعيل التشريع كله بما في ذلك حقوق الإنسان، تلك المنهجية التي يفتقر إليها القانون الوضعي.
والسؤال الآن: ما هي التحديات والمعضلات في نظام الدولة القانونية بالصيغة الوضعية التي تجعله قاصراً عن القدرة على حماية حقوق الإنسان؟ وما هو البديل الأمثل؟
اترك تعليقاً