بقلم : ذ ياسين سندباد
عضو نادي قضاة المغرب
باحث بجامعة عبد المالك السعدي بكلية الحقوق بطنجة
باستقراء النصوص القانونية المنظمة لتجريح القضاة، يتضح لنا جليا بأنها وضعت بالأساس لحسن سير مرفق القضاء والحفاظ على مبدأ حياد واستقلال القاضي، وضمان حقوق المتقاضين، وأنها لم توضع لكي يستخدمها الخصوم كوسيلة لعرقلة سير الدعاوى، أو الحيلولة دون الفصل أو تأخير عمل المحكمة زيادة في الإضرار بخصومهم.
ويقصد بالحياد بصورة عامة، هو ذلك الوازع الذي يجعل القاضي يلازم موقفا سلبيا تجاه الخصوم ومبدئيا إزاء الدعوى، بحيث يتعين عليه أن يبت في حدود ما أدلى به هؤلاء معتمدا على الوقائع التي تعرضوا إليها في طلباتهم ودفوعاتهم ومكتفيا بما احتوته أوراق الملف من عناصر.
ويعتبر نظام تجريح القضاة من أهم الضمانات التي تكفل نزاهة وحياد القاضي، وتحول بطبيعة الحال دون تأثره بمصالحه الشخصية أو بعواطفه الخاصة، التي تنأى به عن تحقيق العدالة.
كما أن غاية المشرع من سن مسطرة التجريح، ليس فقط توفير الحماية للمتقاضيين وضمان نزاهة القاضي، وحياده خلال نظر الدعوى المعروضة عليه، بل سعى المشرع كذلك من خلال هذه المسطرة إلى حماية القاضي نفسه، الذي يجد في نفسه الحرج وعدم الاطمئنان عند النظر في قضية تهمه مباشرة أو بالوساطة تجعله لا يقدر موضوع النزاع حق قدره، ولا يمحص الوقائع والحجج التمحيص الضروري،
إما لعلمه بحقيقة النزاع من مصادر خارجية على ساحة القضاء، وإما لكونه يعلم أن أحد أطراف النزاع مظلوما، ولا يجد وسيلة لإنصافه، لأنه لا يتوفر على حجة كافية لإثبات حقه، لذلك وحفاظا على نقاء ضمير القاضي الذي يجب أن يكون عند نظر النزاع مجردا ومحايدا، وليست له فكرة مسبقة عن النزاع، وحماية له من جنحة إنكار العدالة المنصوص عليها في الفصل 240 من القانون الجنائي،
ومخالفة الفصل 3 من قانون المسطرة المدنية، لذا أعطاه المشرع الحق في تجريح نفسه وطلب إبعاد القضية التي يتوفر فيها أحد شروط التجريح عنه، ولو لم يجرحه أحد من الخصوم، ومن جهة أخرى فإن حرص المشرع على حقوق المواطنين والزيادة في اطمئنانهم إلى القضاة الذين يفصلون في قضاياهم، منحهم حق تجريح القاضي متى توفرت أسباب هذا التجريح.
بهذا المعنى نستطيع الجزم بان تطلع القانون المغربي إلى تحقيق مبادئ العدالة والديمقراطية ودولة الحق والقانون وقيم حقوق الإنسان و الحكامة الجيدة لا يمكن أن يتم إلا عبر تثبيت جهاز قضائي قوي مستقل ونزيه يمكن البلاد من الولوج إلى عالم الحداثة في آفاق القرن الواحد والعشرين بخطى مطمئنة ثابتة وقوية.
أولا-مفهوم تجريح القضاة
لم يتطرق المشرع المغربي إلى تعريف مفهوم التجريح ضمن النصوص القانونية المنظمة له، وقد أحسن المشرع صنعا لأن التعريف مسألة فقهية، يجب أن تترك للاجتهاد الفقهي.
وقد عرفه البعض بأنه “إمكانية أعطاها المشرع لخصوم لتجريح القاضي المشكوك في حياده في القضية المعروضة عليه، للحيلولة بينه وبين النظر فيها”.
في حين عرفه البعض الآخر بأن “التجريح هو طلب منع القاضي من النظر في النزاع كلما قام سبب يدعو في الشك في قضائه بغير ميل أو تحيز”.
وعرفه بعض الفقه الفرنسي بأنه إجراء يجيز للخصم استبعاد القاضي عن النظر في الدعوى المعروضة عليه، نظرا لخطر تحيزه، وحلول آخر محله أو هو ذلك الإجراء الذي يقوم بواسطة أحد المتقاضين بطلب إبعاد قاض أو أكثر وإحلالهم بآخرين، وهو يعد تصرفا خطيرا لأن المتقاضي يثير الشك في حيدة ونزاهة القاضي أو ضميره المهني، ولذلك يضع له المشرع القواعد الصارمة.
وتجدر الإشارة، إلى ان القانون المغربي هو القانون الوحيد الذي يستعمل عبارة التجريح من بين كل القوانين العربية وعليه نتمنى من مشرعنا آن بغير كلمة التجريح بلفظ ” الرد” على اعتبار أن كلمة التجريح فيها نوع من الإساءة لكونها تدل على اللوم والتأنيب .
ثانيا-نطاق تجريح القضاة
يخضع لأحكام التجريح قضاة المحاكم على مختلف مستوياتهم، وبالرجوع إلى الفصل الأول من النظام الأساسي لرجال القضاء نجد بأنه ينص على أن السلك القضائي بالمحكمة يتألف من هيئة واحدة تشمل قضاة الأحكام والنيابة العامة بالمجلس الأعلى ومحاكم الموضوع. كما تشمل أيضا القضاة الذين يمارسون مهامهم بالإدارة المركزية بوزارة العدل.
1-قضاة الأحكام
بالنسبة لقضاة التحقيق والحكم، نجد بأن المشرع المغربي ومن خلال تنظيمه لمسطرة التجريح، عمد إلى تحديد من يجوز تجريحهم من القضاة، وهكذا نجد الفصل 273 من ق.م.ج يجعل التجريح جوازيا في حالة وجود سبب أو أكثر من الأسباب الموجبة للتجريح.
فالمادة 273 من ق.م.ج استعملت عبارة ” يمكن تجريح كل قاض” في حين نجد الفصل 295 من ق.م.ج نجده ينص على أنه “يمكن تجريح كل قاض للأحكام”، ومن ثم يؤخذ من صياغة كل من المادة 273 من ق.م.ج والفصل 295 من ق.م.م أنه يمكن للمعني بالأمر أن يتنازل عن التمسك بالتجريح الذي يقرره القانون لمصلحته، هذا وتجدر الإشارة إلى أن المقصود بقضاة الأحكام هم القضاة الذين ينحصر دورهم في حسم المنازعات، وذلك بالكشف عن الحق وإسناده لصاحبه، وتوفير الحماية له، وذلك بتوقيع الجزاء القانوني على من يتبين أنه اعتدى عليه، وأخل بقاعدة القانون.
هذا وتنص المادة 277 من ق.م.ج “يجب على كل من أراد تجريح قاض أن يقوم بذلك قبل أية مناقشة في الجوهر، وإن كان التجريح موجها إلى القاضي المكلف بالتحقيق، فيجب أن يقدم كل استجواب أو استماع يتعلق بالجوهر، ما لم تكن أسباب التجريح قد طرأت أو لم يعلم بها المطالب بالتجريح إلا لاحقا”.
2-قضاة النيابة العامة
أما بالنسبة لتجريح أعضاء النيابة العامة، يمكن القول على أن المشرع عمل إلى تحديد دور النيابة العامة أمام المحاكم المدنية، في الفصول من 6 إلى 10 من ق.م.م. وعليه فهي إما أن تكون طرف أصليا في النزاع عندما تكون مدعية، كما يمكن أن تتدخل كطرف منظم .
إذا كانت طرفا أصليا
من المعلوم أنه في الأمور الجنائية لم يجز قانون المسطرة الجنائية تجريح أعضاء النيابة العامة، وهذا ما نصت عليه المادة 274 منه حيث ورد النص فيها على ما يلي “لا يمكن تجريح قضاة النيابة العامة” وأساس هذا الحكم أن عضو النيابة لا يقرر لصالح أو ضد هذا الفريق أو ذاك كما يفعل قاضي التحقيق ،أو قاضي الحكم،
بل يقتصر دوره على تقديم الملتمسات، واستعمال طرق الطعن كأي فريق آخر في الدعوى، فحتى لو كان لديه سبب يدفعه إلى التحيز مثلا لصالح المتهم أو ضده، فإنه لا يملك وسيلة مباشرة لتنفيذ رغبته، لأن قاضي التحقيق أو المحكمة هي التي تقرر، وإذا امتنع عن متابعة متهم كان في إمكان المتضرر أن يحرك الدعوى العمومية مباشرة، وبعبارة أخرى دوره في الدعوى هو دور الخصم والمثل يقول، المتقاضي لا يختار خصمه.
هذا وينص الفصل 299 من ق.م.م “تطبق أسباب التجريح المتعلقة بقاضي الأحكام على قاضي النيابة العامة إذا كان طرفا منضما، ولا يجرح إذا كان طرفا رئيسا”. فالنيابة العامة باعتبارها طرفا رئيسا تشكل الخصم الحقيقي للطرف الآخر، الذي لا يمكن أن يكون بأية حال موضوع التجريح.
إذا كانت طرفا منضما
من المعلوم أن عمل النيابة العامة في الأصل أمام القضاء المدني أنها تكون طرفا منضما، وهي بهذه الصفة لا تكون خصما لأحد ،وإنما تتدخل لتبدي رأيها لمصلحة القانون والعدالة.
تجدر الملاحظة إلى أن الفصل 8 من ق.م.م، يوضح الأحوال التي تتدخل فيها النيابة العامة كطرف منظم “حيث نص الفصل المذكور”تتدخل النيابة العامة كطرف منضم في جميع القضايا التي يأمر القانون بتبليغها إليها، وكذا في الحالات التي تطلب النيابة العامة التدخل فيها بعد إطلاعها على الملف، أو عندما تحال عليها القضية تلقائيا من طرف المحكمة، ولا يحق لها في هذا الأحوال استعمال أي طريق للطعن”.
يأتي الفصل التاسع بعده يحدد القواعد المتعلقة بهذا الدور وأحكامه.
فبالرجوع إلى الفصل 9 من ق.م.م، نجده يقضي على أنه “للمحكمة أن تأمر بالإطلاع”، يمكن القول أن النيابة العامة، عندما تتدخل كطرف منضم، فإن ذلك يتم بصفة إلزامية من طرف القانون، وإما بصفة اختيارية من طرفها.
وعليه فإنه في كلتا الحالتين، يكون عضوا النيابة العامة خاضعا لأحكام التجريح المنصوص عليها في الفصلين 295 و 299 من ق.م.م، وهو ما نصت عليه المادة 341 من قانون المسطرة المدنية الفرنسي، والتي عددت الحالات التي يجرح فيها القضاة، وذكرت في نهاية المادة على أنه يمكن تجريح قضاة النيابة العامة إذا كانت طرفا منضما.
ثالثا-اختصاص البت في طلبات تجريح القضاة
تعد الجهة المختصة للبت في طلب تجريح القضاة من أهم المسائل التي عرفت نقاشا فقهيا وقضائيا، وذلك بسبب اختلاف النصوص التشريعية التي تطرقت إلى المسألة.
فالفصل 296 من ق.م.م. نص في الفقرتان الثالثة والرابعة على ما يلي “يحال طلب التجريح إذا تعلق الأمر بقاض من المحكمة الابتدائية خلال ثلاثة أيام من جوابه أو سكوته إلى محكمة الاستئناف تبت فيه خلال عشرة أيام في غرفة المشورة بعد أن يستمع الرئيس مقدما إلى إيضاحات الطرف المطالب والقاضي المجرح، تبت محكمة الاستئناف ومحكمة النقض ضمن نفس الإجراءات والآجال إذا تعلق الأمر بأحد قضاتها”.
فمن خلال هذا الفصل، يمكن القول بأن المحكمة المختصة بالفصل في طلب التجريح تختلف باختلاف ما إذا كان المطلوب تجريحه أحد قضاة المحكمة الابتدائية، أو أحد مستشاري محكمة الاستئناف أو أحد مستشاري محكمة النقض، ويتم البت في طلبات التجريح داخل غرفة المشورة حسب كل محكمة على حدة، فقضاة المحكمة الابتدائية وقضاة محكمة الاستئناف يتم البت في طلبات تجريحهم داخل غرفة المشورة لدى محكمة الاستئناف.
أما إذا تعلق الأمر بطلبات التجريح الموجهة ضد قضاة محكمة النقض فإن الاختصاص ينعقد لغرفة المشورة داخل هذه المحكمة.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن غرفة المشورة كقاعدة يمكنها القيام بأي إجراء من إجراءات التحقيق الذي تراه مفيدا، كإجراء بحث والاستماع إلى الشهود، فإنه استثناء من هذه القاعدة لا يجوز لها استجواب القاضي أو توجيه اليمين إليه، وعليه فإنها تستمع فقط إلى طالب التجريح كما تستمع لرأي النيابة العامة، وتتيح للقاضي المطلوب تجريحه إبداء ملاحظاته إذا طلب ذلك، أو إذا اقتضى ذلك بيان الحقيقة.
ويوفر اختصاص غرفة المشورة بالبت في طلبات تجريح القضاة، عدة ايجابيات من بينها خاصية السرية ،وذلك للحفاظ على مصلحة الطرفين وخاصة القاضي المجرح، الذي ينبغي ضمان احترامه وصون كرامته، لذلك تعقد الجلسة في قاعة مغلقة وخالية من العموم وفي كل شخص ليس طرفا في القضية التي تتم مناقشتها، إلا أن الحكم لابد أن يصدر في جلسة علنية.
فضلا عن خاصية السرعة، فالغاية منها عدم التأخير في الفصل في القضايا المعروضة على غرفة المشورة، لهذا السبب نص المشرع من خلال الفصل 296 من ق.م.م على انه: ” يحدد أجل عشرة أيام للبث في طلب التجريح إما بالقبول أو الرفض، وذلك بهدف عدم تعطيل البت في القضية الأصلية والإضرار بخصم طلب التجريح”.
تجدر الملاحظة إلى أن ميعاد عشرة أيام للبث في طلب التجريح من المواعيد التنظيمية التي لا يترتب على مخالفتها البطلان.
اترك تعليقاً