تدخل المشرع
يتدخل المشرع بين فترة وأخرى بوسيلة التعديل او الإلغاء وتشريع القوانين الجديدة ليلائم بين القانون وحاجات الروابط الاجتماعية المتجددة والمتطورة في كافة الاتجاهات.
وقد يتحقق القصور نتيجة تبني دستور جاء بقيم وقواعد ومبادئ جديدة إلا ان القوانين النافذة قبل نفاذه بقيت على حالها دون يمسها التعديل او الالغاء ،ذلك ان مجرد وضع دستور جديد ومهما كان مثالياً لن تكون له اية قيمة قانونية او اجتماعية ما لم تترجم النصوص والمبادئ التي جاء بها ذلك الدستور الى قوانين تحل محل القوانين التي خلفتها الدكتاتورية.
إلا ان المؤسف له حقاً إن قوانين الحقبة الماضية التي حكمت العراق هي النافذة الى اليوم ، وهي تعبر في كثير من نصوصها عن تلك الحقبة وقيمها فضلاً عما تمثله من خروج واضح عن روح القوانين الحديثة والمبادئ العامة للقانون وحقوق الإنسان الأساسية وخاصة تلك المتعلقة بالقانون الجنائي بفرعيه ، قانون العقوبات وقانون اصول المحاكمات الجزائية.
فينبغي ان تعبر قوانين العراق الجديد في ظل دستوره الدائم عن القيم الإنسانية والاجتماعية التي جاء بها دستور جمهورية العراق لسنة 2005 النافذ.
ومع ذلك فاننا نجد في ثنايا العديد من القوانين المشرعة حديثاً الكثير من الاخطاء التشريعية التي تخرج عن روح الدستور النافذ وقيم العراق الجديد، فضلاً عن خروجها عن المبادئ العامة للقانون. ويرجع ذلك الى ان اغلب هذه التشريعات قد كتبت اصلاً من قبل إداريين او قضاة او محامين غير مؤهلين في مجال علم التشريع.
فتشريع القوانين علم من العلوم القانونية المتميزة ، وكل نص قانوني تقف خلفه نظرية كبرى من نظريات القانون التي استقرت بعد ان تبنتها التشريعات الحديثة ، وهذه النظرية تعد نظاماً متكاملاً يتضمن سلسلة من المبادئ المتوافقة فيما بينها ويجب الحذر عند اجراء أي تحوير فيها لان ذلك قد يؤدي الى انهيار التناسق والتناغم فيما بين النصوص التي تحكم واقعة معينة ومستمدة من نظرية واحدة.
وعلى سبيل المثال فان اغلب النصوص التي تعالج واقعة السرقة في القوانين المقارنة مستمدة من نظرية كارسون ، فقد وضع الفقيه كارسون نظرية متكاملة تحكم جريمة السرقة ، وميز بين الحيازة التامة والحيازة الناقصة وحالة انعدام الحيازة او اليد العارضة ، وحدد متى تعتبر جريمة السرقة متحققة فقط من بين ما ميز من وقائع ، ويعرف أغلبية الفقه القانوني المعاصر السرقة بأنها ( اختلاس مال منقول مملوك للغير بنية تملكه)(3)
وعلى اثر ذلك تخلت التشريعات الحديثة عن النظرية التقليدية القديمة التي كانت تحكم واقعة السرقة بسبب العيوب التي شابتها وتبنت نظرية كارسون التي تقوم على اسس منطقية وعادلة. (4)
وعلى نحو مما اشرنا من مثال فانه ينبغي في من يتصدى لوضع نصوص تعالج جريمة السرقة ان يكون لديه علم كاف بمضمون هذه النظرية حتى تكون النصوص التي يضعها منسجمة فيما بينها. ويسرى ذلك على النصوص التي تتعلق بنظرية الشخص المعنوي ونظرية الأوضاع الظاهرة والنظريات الأخرى المتعلقة بالقانون الدستوري والقانون الإداري والقانون المدني والقانون التجاري والقانون المالي وغير ذلك من فروع القانون العام او الخاص.
ان وضع خطة لدراسة وتقييم التشريعات النافذة ليس امراً صعباً ، وهي وان كانت من اهم مهام مجلس شورى الدولة في وزارة العدل الا ان كثرة الأعباء والمهام الملقاة على عاتقه سواء في مجال وضع مشاريع التشريعات او تدقيق المشاريع الواردة من مختلف الوزارات بمختلف دوائرها في أنحاء العراق كافة او مجال عمله الاستشاري لجميع الوزارات فضلاً عن قيامه بمهام مجلس انضباط الدولة ومهام القضاء الإداري ، يجعل من إناطة هذه المهمة الى دائرة مستقلة أمرا لا بد منه لمواجهة حالات القصور التشريعي وتحقيق التوافق بين الدستور والقوانين النافذة.
وباستثناء الفترات الانتقالية في حياة الشعوب ، فان تدخل المشرع ليس امراً مرغوباً او حسناً في كل الأحوال، بالنظر الى ان كثرة التعديلات تؤدي الى حالة عدم استقرار المراكز القانونية وإحداث نوع من الفوضى القانونية كما انها تربك القضاء والإدارات العامة وتحجم دور الفقه وضياع جهده في بحوث ومؤلفات ما ان تنشر حتى يعدل القانون او يلغى وتحل محله أفكار وتطبيقات لنظريات قانونية جديدة فتقل اهميتها او تفقد تلك الأهمية ، وقد تحدث تعديلات على التعديلات السابقة بسبب عدم وضوح الفكرة ابتداءاً فلا يعبر التعديل عن الحاجة الاجتماعية تعبيراً صائباً فيضطر المشرع الى تعديل التعديل، كما ان كثرة التعديلات قد تؤدي الى ان تُضيع على الإفراد فرص تحقيق أمانيهم وخططهم المستقبلية ومفاد ذلك ان الفرد قد يعمل جاهداً من اجل يحصل على حق معين او من اجل ان يحقق شروط التعيين في وظيفة معينة او منصب معين وما ان يبلغها او يكاد حتى يعدل القانون ويضع شروطاً او مواصفات جديدة لم يحسب لها حساباً فتضيع امانيه وجهوده ، وضياع جهود الأفراد وأمانيهم نتيجة لا يفخر بها المشرع ، وقد يقال ان في هذا الصدد ان المصلحة العامة تقتضي مثل هذه التعديلات ، وقد يكون هذا صحيحاً ، ولكن ينبغي عندها المقارنة بين مقتضيات المصلحة العامة في التعديل ومقتضياتها في استقرار المراكز القانونية، وفي ضوء نتيجة المقارنة يتقرر تغليب احدهما وخير تعديل هو الذي يتبنى الأفكار والنظريات القانونية المستقرة وهي لا تستقر الا اذا تبناها أغلبية الفقه وسار عليها الاجتهاد القضائي ردحاً من الزمن.
اترك تعليقاً