نظام التحكيم السعودي الجديد
منذ أيام تم إصدار نظام جديد للتحكيم في المملكة العربية السعودية ليحل محل نظام التحكيم الصادر في 1403 هجرية ويبدأ العمل بالنظام الجديد بعد 30 يوما من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية. والنظام الجديد أضاف أحكاما عديدة لتقنين تنظيم التحكيم في السعودية، مع تأكيده الحرص على التمسك التام بأحكام الشريعة الإسلامية الغراء وبالإضافة لهذا تضمن العديد من المبادئ المطبقة دوليا وفق ما تمت الإشارة له في قانون «الأونسيترال» النموذجي للتحكيم الصادر من منظمة الأمم المتحدة والذي استفادت منه العديد من الدول عند صياغتها لقوانين وأنظمة التحكيم الوطنية.
ويسري نظام التحكيم السعودي الجديد على التحكيم الذي يخضع له وفق إرادة الأطراف المتنازعة ورغبتهم شريطة عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة السعودية طرفا فيها. ويسري النظام إذا جرى التحكيم داخل المملكة أو خارجها، أي عندما يكون التحكيم دوليا، وهذا يشمل التحكيم عبر المنظمات أو هيئات التحكيم الدائمة أو مراكز التحكيم الموجودة خارج المملكة مثل مركز التحكيم لدول الخليج في البحرين أو المركز الدولي الإسلامي للمصالحة والتوفيق في دبي أو مركز تحكيم غرفة التجارة الدولية في باريس أو مركز لندن.
ووفقا للنظام الجديد يجوز قبول اتفاق التحكيم إذا ورد في صورة شرط التحكيم الوارد في العقد المبرم بين الأطراف أو في صورة مشارطة التحكيم التي يتفق عليها بعد حدوث النزاع. ويشترط النظام أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبا وإلا كان باطلا إلا ان النظام لا يتضمن «نصوصا نموذجية» يتم كتابتها وإدراجها في العقد أو في مشارطه التحكيم، وذلك كما عليه الوضع مثلا في العديد من أنظمة التحكيم التي صاغت نصوصا محددة يتم كتابتها عند اختيار النظام المحدد. والغرض من وضع هذه النصوص النموذجية تحاشي الصياغة غير السليمة أو المسببة للإرباك.
هناك نقاط ايجابية في النظام الجديد، ولكنها تحتاج للتطوير، منها اعتبار التحكيم «إرادة الأطراف» حيث منح الأطراف الحق الأساسي في اختيار المحكمين، كما اشترط النظام استقلالية وحياد المحكم الذي يتم اختياره وهذا من المبادئ الجوهرية التي يجب توفرها لدعم وترقية صناعة التحكيم. كما منح النظام الأطراف الحق في اختيار مكان التحكيم ولغة التحكيم إذا اتفقا علي غير اللغة العربية وكذلك للأطراف الحق في رد المحكم، في بعض الحالات، على أن يتم الرجوع للمحكمة المختصة عندما يفشل الأطراف في ممارسة هذا الحق.
أيضا يعتبر اتفاق شرط التحكيم عقدا مستقلا عن العقد الأساسي وبهذا فان شرط التحكيم لا يتأثر بما يحدث للعقد الأساسي وهذا يمنح قوة قانونية إضافية لشرط التحكيم لمنحه الاستقلالية والاستمرارية. كما يتضمن النظام الجديد التفاصيل الخاصة بإجراءات سير الدعوى أمام هيئة التحكيم بما فيها من إجراءات وتدابير احترازية مؤقتة أو تحفظية على حسب طلب الأطراف والسير بكل الإجراءات بالمساواة والعدل المطلوب بين الأطراف حتى صدور الحكم المنهي للخصومة. وهذا الحكم النهائي قابل للنفاذ بقوة القانون، مع وجود الفرصة لمراجعة أو تفسير القرار أو إصدار الأحكام الإضافية عند الضرورة، إذا لزم الأمر.
من دون شك فان نظام التحكيم الجديد يعتبر خطوة رائدة متقدمة في دعم التحكيم بالمملكة السعودية وهذا الوضع سيعمل بالطبع على توفير احدى البدائل الناجعة لتسوية المنازعات بين الأطراف إذا اختاروا بإرادتهم اللجوء للتحكيم لتسوية منازعاتهم. وهذا الحراك سيدعم النشاطات التجارية والعمليات الاستثمارية سواء كانت داخل المملكة أو مع الشركات الأجنبية في الخارج لأن فوائدها سيطمئن عند وجود نظام تحكيم وطني يتيح لهم المشاركة في اختيار هيئة التحكيم وغير ذلك من الصلاحيات الأساسية.
و لكن عند اطلاعنا على النظام الجديد استرعى انتباهنا وجود بعض النقاط التي رأينا توضيحها حتى تنهض صناعة التحكيم في المملكة وترتقي وفق أفضل الأسس القانونية والتنظيمية، ومن هذه النقاط مثلا الاشتراط بعدم لجوء الجهات الحكومية للتحكيم إلا وفق ضوابط معينة وأنظمة معينة وهذا قد يحرم العديد من شركات القطاع العام من اللجوء مباشرة للتحكيم أو التردد في اللجوء إليه، مع العلم أن هناك شركات حكومية كبيرة تعمل في مجالات البترول والطاقة والطيران والاتصالات وغيره. وإذا أخذنا هذا في الاعتبار، أليس من الأفضل أن تتمتع مثل هذه الشركات باللجوء إلي التحكيم مباشرة ووضع هذا الشرط الشروط ضمن عقودها المتنوعة بعد الدراسة مع الأطراف المتعاقدة. وأليس هذا يمثل حافزا كبيرا للمستثمرين الأجانب عند تعاملهم.
هذا مع العلم أن العديد من المنازعات التي تكون الجهات الحكومية طرفا فيها ربما يكون من الأمثل بل والأفضل تسويتها عبر التحكيم وذلك نظرا للصفات الخاصة التي يتمتع بها التحكيم مثل السرية والسرعة والمهنية التخصصية في نظر النزاع وإصدار الأحكام. وهذه الصفات الخاصة قد لا تتوفر دائما في المحاكم مما يفقد الجهات الحكومية بعض الامتيازات الخاصة التي قد تتوفر لها بمجرد اللجوء للتحكيم.
و التحكيم، كما هو معرف، عبارة عن «محكمة خاصة» يقوم بدور القضاة فيها من يتم اختيارهم لهيئة التحكيم ممن لديهم الكفاءات والتخصصات الملائمة لنظر الدعوي ولهذا يجب أن يكون كل أعضاء هيئة التحكيم من ذوي هذه الكفاءات والتخصصات النادرة. وبالنسبة للكفاءة فان النظام الجديد يشترط الحصول على الشهادة الجامعية لكل محكم كشرط أدنى ولكنه يعود ويقول إذا كانت هيئة التحكيم تتكون من أكثر من فرد فيكتفي بتوفر شرط الحصول على الشهادة الجامعية في رئيس هيئة التحكيم فقط. ومن هذا قد تأتي هيئات تحكيم غير مؤهلة بدرجة كافية لفهم النزاع وهضمه ومن ثم إصدار الحكم النهائي القابل للنفاذ. ولذا قد يكون من المناسب توفر هذه المؤهلات الدنيا لدى جميع أعضاء هيئة التحكيم وفي جميع المهن والتخصصات حتى نطمئن وهذا الاطمئنان يزرع الثقة في التحكيم وفي من يباشر هذه المهنة ويمارسها.
وبالرغم من أن النظام الجديد، في شكله العام، يعتبر التحكيم إرادة الأطراف إلا أنه يتراجع في بعض الحالات عن منح هذه السلطة المطلقة/ الإرادة للأطراف والأمثلة عديدة منها مثلا منح المحكمة المختصة الحق الأساسي في اختيار وتعيين المحكم الفرد هذا بالرغم من أن الأطراف يستطيعون القيام بهذا العمل الذي هو من أساسيات الإرادة المطلقة التي يستطيع الأطراف ممارستها إذا رغبوا فيما بينهم إحالة التحكيم لمحكم فرد.
أيضا فان المحكمة المختصة قد تتدخل في اختيار المحكم الذي قد تقوم باختياره وذلك لأن النظام منحها عدم الاكتفاء فقط بالشروط التي نص عليها اتفاق الطرفين بل إضافة الشروط التي يتطلبها وينص عليها هذا النظام. إن عدم الاكتفاء بالشروط التي نص عليها اتفاق الأطراف قد يحرمهم من الإرادة الكاملة في اختيار المحكمين لأن المحكمة قد ترى إضافة الشروط المذكورة في النظام. هذا مع العلم أن قرار المحكمة المختصة بتعيين المحكم في بعض الحالات غير قابل للطعن فيه استقلالا بأي طريق من طرق الطعن.
و كذلك قام النظام بمنح بعض الاختصاصات للمحكمة المختصة وكان يمكن ترك هذه الاختصاصات لهيئة التحكيم التي قام الأطراف بتكليفها بنظر النزاع وإصدار القرارات اللازمة بشأنه. ومن ذلك مثلا تجاوز هيئة التحكيم واللجوء للمحكمة المختصة بمنحها الحق في عزل المحكم الذي تعذر عليه أداء مهمته لأي سبب أو لم يباشرها أو انقطع عن أدائها… وترك هذا الأمر لهيئة التحكيم يعني تركه لإرادة أطراف النزاع، بصورة غير مباشرة، لأنهم هم من قام باختيار هيئة التحكيم وتكليفها بالمهمة شاملة كل الإجراءات وما له علاقة بها.
من المتعارف عليه أن من أساسيات قوانين وأنظمة التحكيم النص على سرعة الفصل في المنازعات ولذا نلاحظ أن العديد من قوانين التحكيم والأنظمة الخاصة بهيئات التحكيم الدولية تنص على ألا تتجاوز المدة الأولية للفصل النهائي في النزاع أكثر من 6 أشهر، بل ان بعض هذه المراكز ينص على أقل من هذه الفترة. وبرجوعنا للنظام السعودي الجديد نلاحظ أنه ينص على مدة تصل إلى 12 شهرا للفصل في النزاع، عند عدم تحديد فترة بواسطة الأطراف، كما يجوز لهيئة التحكيم منح مدة إضافية مقدارها 6 أشهر ما لم يتفق طرفا التحكيم على مدة تزيد على ذلك. ومن هذا يتضح أن النظام السعودي يوسع الفترة الزمنية المتعارف عليها دوليا، مع العلم أن أهم خصوصيات التحكيم تتمثل في السرعة في الفصل وتسوية النزاع خلال اقل فترة زمنية ممكنة. وتوسيع الفترة الزمنية قد يعطي انطباعا عكسيا بعدم الحسم السريع للنزاع. بل إن النظام ينص أنه إذا لم يصدر حكم التحكيم خلال المدة المتفق عليها جاز لأي من طرفي التحكيم أن يطلب من المحكمة المختصة أن تصدر أمرا بتحديد مدة أضافية أو بإنهاء إجراءات التحكيم ولأي من الطرفين بعد ذلك رفع دعواه إلي المحكمة المختصة، وهذا قد يتطلب فترة زمنية طويلة تهدم الغرض من اللجوء للتحكيم. مع العلم، أن قوانين التحكيم ومراعاة منها لأهمية الوقت وضرورة التقيد به فإنها تنص على جواز الطعن بالنقض إذا صدر الحكم بعد الفترة الزمنية المقررة وهذا الشرط وبالرغم من أهميته لا يضعه النظام السعودي ضمن الحالات التي يجوز فيها بالطعن بالنقض لبطلان حكم التحكيم.
و من النقاط الهامة التي تناولتها قوانين التحكيم مؤخرا مثلا مسألة منح الحصانة للمحكمين ولقد تناولت القوانين هذا الأمر بالتأييد الكامل لمنح الحصانة أو التأييد الجزئي أو التأييد المشروط وهكذا… وبالرغم من الأهمية، لم يتناول النظام الجديد هذا الموضوع مما يترك ترددا لدى البعض في ولوج هذا النشاط لأن بعض الحصانة قد توفر الطمأنينة المطلوبة لمن يقوم بمهمة التحكيم.
هذه بعض الآراء التي طرأت بعد القراءة الأولية لنظام التحكيم الجديد في السعودية وهو يمثل خطوة محمودة في تأسيس الأطر الأولية لصناعة التحكيم، وقطعا مع الممارسة التطبيقية ربما تظهر الكثير من الأمور، ومع الممارسة السليمة المقرونة مع الفهم الصحيح لنية المشرع يتم تطوير التحكيم وتحسين التشريعات القانونية والأنظمة المكملة لها، ولنبدأ المشوار نحو تحقيق هذه الأهداف.
د. عبد القادر ورسمه غالب
المستشار القانوني ومدير أول دائرة الشؤون القانونية لبنك البحرين والكويت
وأستاذ قوانين الأعمال والتجارة بالجامعة الأمريكية بالبحرين
اترك تعليقاً