بقلم ذ يوسف الدبوغ
طالب باحث بماستر الوسائل البديلة لفض النزاعات بكلية الحقوق بفاس
نعيش اليوم في ظل ثورة تكنولوجية هائلة أثرت على كل جوانب الحياة البشرية, حتى أصبح الفرد يعيش عالمين أحدهما واقعي والآخر إفتراضي, وقد غير ذلك من سلوكيات الناس وأنماط حياتهم إيجابا وسلبا, وقد سخرت هذه التكنولوجية الجديدة في ميادين البحث والمعرفة والدردشات الفردية والجماعية,
وتقديم خدمات متنوعة وخصوصا في ميدان التجارة والأعمال, فأصبح التسوق يتم عبر مواقع إلكترونية في شكل أسواق افتراضية يزورها الزبناء والمريدين ويبرمون إتفاقاتهم مع التجار عبر هذه الوسائط, وينفذونها بأداءات عن بعد سهلتها ظهور النقود الرقمية, وبطاقات الإئتمان الذكية, والشيكات الإلكترونية, والإنترنيت المصرفي وقد خلق هذا الأمر نماذج جديدة للتعاقد لم يستوعبها الإطار القانوني للتعاقد عن بعد المنظم من داخل النظرية العامة للإلتزامات المدنية,
فاضطرت التشريعات القانونية في العالم الغربي والعالم العربي متأخرا إلى تحيين نصوص قوانينها أو إحداث نصوص جديدة تلائم هذا الشكل الجديد من التعاقد, على الأقل في قيامه على الوجه القانوني, وإثباته, وتنفيذه.
ولاشك أن تنفيذ العقد هو الهدف من التعاقد, ولذلك كان الأصل فيه هو التنفيذ الطوعي و عن حسن نية, ووفق الشكل المتفق عليه, إلا أن الأمر لا يسير على هذا المنوال دائما إذ يتنازع المتعاملان حول إحدى العناصر الأساسية في هذا التعامل, كخصائص السلعة أو الخدمة محل التعاقد, أو حول مقابلها من النقود وطريقة تسديد هذا المقابل, كما تتخذ النزاعات الإلكترونية كذلك شكل اعتداءات على الملكية الفكرية والصناعية,والمواقع الإلكترونية والعلامات التجارية, ومنازعات متعلقة بأمن المعلومات والمنافسة غير المشروعة.
والأصل في هذه النزاعات ولو نشأت في وسط إلكتروني أن تعرض على القضاء, باعتباره صاحب الولاية العامة للحسم في خصومات الناس كيفما كانت طبيعتها, إلا انه قد لا يسعف أحيانا في الاستجابة لطبيعة هذه النزاعات, مهما اتصف هذا القضاء بالجودة والفعالية نظرا لأنها-أي النزاعات الإلكترونية- تنشأ في بيئة افتراضية تتطلب خبراء متخصصين في هذه البيئة للبث فيها والتعاطي معها,
ولأنها ثانيا تتسم بطابع دولي الذي يفرض الرجوع إلى مناهج القانون الدولي الخاص لتحديد المحكمة المختصة والقانون الواجب التطبيق, بناءا على ضوابط مكانية تنتفي في العالم الإفتراضي الذي لايعترف بالحدود والتوطنات الجغرافية, وحتى لو تمت هذه المراحل على المنوال المطلوب واحترمت كل قواعد القانون الدولي الخاص, لوجدنا أنفسنا أمام مشاكل أكثر تعقيدنا كانعدام الإستقلالية و التخصص, وضعف الخبرة في هذا الميدان, الأمر الذي ينفر التجار والمتعاملين منها.
هذه المتطلبات دفعت بالفكر القانوني إلى ابتداع آليات أكثر ملاءمة للطبيعة الجديدة لهذه المنازعات فبرزت وسائل سميت بالبديلة أو الموازية للقضاء على رأسها التحكيم والوساطة الإلكترونيين, يحققان مزايا عدة تروق لطائفة التجار كالسرية والفعالية والسرعة…,
ولو كان التحكيم قد اشتهر أكثر في مجال التجارة الدولية, كون أحكامه تكون ملزمة لأطراف النزاع, وتتخذ إجراءات خاصة في حق المحكوم عليه الممتنع عن تنفيذ مضمون الحكم التحكيمي, وقد تم تطوير إجراءات هذا التحيكم التقليدي لتلائم النموذج الجديد للتجارة الإلكترونية دون اشتراط الحضور المادي للأطراف وما يصاحب هذا الحضور من تبعات مادية, وبذل للوقت والجهد, إذ يتم عبر جلسات سمعية بصرية, أو عن طريق مؤتمرات افتراضية
ويقصد بالتحكيم الآلية التي بموجبها يعرض أطراف نزاع قائم أو محتمل الوقوع على هيئة مستقلة للنظر في هذا النزاع وإصدار حكم ملزم لهما, والقانون هو الذي يحدد إجراءات عرض النزاع على هذه الهيئة وإجراءات بثها, فالتحكيم عدالة خاصة ومؤدى عنها تخرج النزاع من ولاية القضاء إلى نظر أفراد معينين باتفاق الأطراف واختيارهم, وقد اشتهر في الآونة الأخيرة في مجال التجارة الدولية حتى أصبح ما يزيد عن 95 بالمائة من نزاعات هذه التجارة تحل عن طريق التحكيم,
فتم إنشاء العديد من المراكز الدولية لهذا الغرض, وتم توقيع العديد من الاتفاقيات بذلك, وبتطور المعاملات الالكترونية واشتهارها بين التجار والمستهلكين وبروز نزاعات جديدة, تم تطوير التحكيم ليتم هو بدوره بطريقة الكترونية في كل المراحل التي يمر منها أو بعضها, وقد اعتمدت مراكز التحكيم هذا الأسلوب الجديد وبالخصوص المنظمة العالمية للملكية الفكرية فيما عرف ب”نظام التحكيم السريع”, ولجنة التحكيم التجاري لدى الأمم المتحدة ,
كما عملت بعض الدول على تبني نماذج لهذا التحكيم, وإن اختلفت المسميات من بلد لآخر فهكذا نجد مؤسسة القاضي الإفتراضي بكندا, وماسمي بالكمبيوتر القاضي بالصين, والمحكمة الافتراضية بأمريكا… أما الدول العربية فلم تشهد لحد الساعة مؤسسات مشابهة ربما لحداثة الموضوع وللإقبال الضعيف على الإلكترونيات بالمقارنة مع العالم الغربي.
ويكتسي مجال التحكيم الالكتروني أهمية عظيمة على المستوى الوطني والدولي لأنه الأسلوب الأكثر نجاعة وخصوصا في المجال التجاري بعد أن أصبح القضاء غارقا في القضايا والنزاعات المتراكمة بشكل مستمر, لأسباب تعود أساسا للبطء الذي يطغى على مسطرة التقاضي ولذلك أصبح الفكر القانوني يلح وبشدة الإهتمام بالطرق البديلة واستغلال الإلكترونيات في إعمالها.
ويمر التحكيم الإلكتروني بمراحل عدة ممهَدة باتفاق تحكيم إلكتروني يتخذ شكل شرط أو عقد تحكيم, وفي هذا الإتفاق ينبغي مراعاة الشروط اللازمة لقيام العقود الإلكترونية, على وجه صحيح, وهي الشروط التي جاء بها القانون رقم 05.53 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانوني الذي أضيف لمقتضيات قانون الإلتزامات والعقود, ورفع من حجية المحررات الإلكترونية إلى مصاف المحررات الورقية فيما يخص الإثبات متى كانت هذه المحررات قد احترمت شروط التي تضمن تماميتها وجاءت موقعة بآلية لإنشاء التوقيع الإلكتروني, تكون صلاحيتها مثبتة بشهادة للمطابقة.
وعند نشوب نزاع يلتزم الأطراف بعرضه على الهيئة التحكيمية المعينة باتفاقهم أو المسند تعيينها للمركز التحكيمي المختار, والتي تباشر نظرها في النزاع المعروض ولها في ذلك كل الصلاحيات للوصول للحقيقة من انتداب خبير وسماعة شهود واتخاذ كل إجراء تحفظي أو وقتي, مع المحافظة تحت طائلة مسؤولياتها المدنية والجنائية, على حقوق الدفاع وضمان المساواة بين الخصوم, ثم عن تهيئ القضية تحجز الدعوى للمداولة, وبعدها يصدر حكم تحكيم إلكتروني مستوف لكل الشروط الشكلية من أسماء المحكمين والأطراف وتوقيعاتهم مع منطوق الحكم وتعليل هذا المنطوق, ويبلغ للأطراف عبر البريد الإلكتروني.
وهذه الإجراءات هي في أصلها إجراءات للتحكيم التقليدي, نص عليها قانون اليونسترال النموذجي لأغلب تشريعات التحكيم الوطنية, ومنها قانون التحكيم والوساطة الإتفاقية المغربي رقم 05.08 الذي أضيف لقانون المسطرة المدنية, وهذه الإجراءات تمدد لتنطبق على التحكيم الإلكتروني, في ظل غياب قانون نموذجي خاص بالتحكيم الإلكتروني.
أما عند تنفيذ حكم التحكيم الإلكتروني, تطبق بنود اتفاقية نيويرك لعام 1958, المتعلقة بالإعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية, ولكن هذه الإتفاقية تشترط لطلب الصيغة التنفيذية من قاضي البلد المراد فيه التنفيذ أن يدلي طالب التنفيذ بأصل الحكم موقع, أو بنسخ مطابقة, ولكن في التحكيم الإلكتروني لا يوجد أصل أو نسخ لهذا الحكم لأنه يصدر على دعامات إلكتروني, ولذلك نادى بعض المهتمين بضرورة أن يبلغ الأطراف بنسخ ورقية عبر البريد العادي حتى يمكن طلب التنفيذ, وتفاديا لكل هذه العقبات ابتكر المجتمع الإفتراضي آليات ملائمة, للوسط الإلكتروني بعيدا عن أعين الرقابة القضائية, ومنها منح علامة ثقة توضع على مواقع المحتكمين الذين يلتزمون بواجبات وأخلاقيات التجارة والأعمال الأمر الذي يعزز ثقة الزبناء فيهم,
وعلى العكس يمكن أن يواجه المحتكم الذي امتنع عن التنفيذ الطوعي لمضمون الحكم الصادر ضده, بشطب علامة الثقة هذه وإزالتها من على موقع الشركة, بما يهدد سمعتها التجارية, لا بل الأكثر من ذلك يمكن منع المخل بالتزاماته منعا كليا من ممارسة التجارية الإلكترونية, بشطب موقعه التجاري.
وبذلك يبدو أن التحكيم الإلكتروني هو نموذج متطور للتحكيم التقليدي خلق ليلائم النزاعات الناشئة بصدد قيام أو تنفيذ معاملات إلكترونية, نظرا للمزايا الكبيرة التي تميزه عن القضاء والتحكيم التجاري التقليدي, إلا أنه مايزال في مراحله الأولى خصوصا في الدول العربية, بسبب عدم شيوع التجارة الإلكترونية,
و ضعف انتشار ثقافة الوسائل البديلة لحل المنازعات, ولذلك يتطلب مجهودات إعلامية للتعريف به ونشر ثقافة البدائل غير القضائية, كما يتطلب الأمر الإسراع بإخراج قانون خاص بالتجارة والإلكترونية في شكل مدونة تضم في جزء منها أحكام منظمة للتحكيم الإلكتروني, من أجل مسايرة التطور الكبير الذي يشهد العالم الإفتراضي.
اترك تعليقاً